زار السودان وزير خارجية النمسا لمتابعة مبادرة بلده في تقريب وجهات نظر الشريكين. ولفت نظري أن بين وفده مديري مراكز البحوث الاستراتيجية في النمسا. وقرأت عن اجتماعات المعارضة مع المسييرية والدينكا للتوفيق بينهما حول وضعية أبيي. ولم أسمع عن باحثين استراتيجين أوغير استراتيجيين في وفدها. وتأكد أن اجتماع المعارضة مع الجماعتين كان "حلقمة ساهي" بعد مناشدتها للطرفين أن يجلسا سوياً لحل أزمة أبيي بعيداً عن وساوس المؤتمر الوطني والحركة الشعبية . وبالطبع للجماعتين عطاء مستقل معلوم في حل المسألة. ولكن من الجهل البين أن نتصور حلاً لورطة أبيي بغير المؤتمر أو الحركة. لم تعد هوية أبيي موضوعاً قاصراً حصرياً على المسيرية والنقوك منذ "تمرد" الستينات. فلم تعد أبيي مرعى فحسب بل وطناً متنازع الهوية. ورصد عبدالوهاب عبدالرحمن في رسالة له بجامعة الخرطوم ( 1982) كيف تشكل صراع المسيرية والنقوك في ما بين 1964 و 1977 تحت التأثير الغالب للحركة القومية الجنوبية بقيادة الأنانيا للفترة 1965-1972 وبعد اتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي الإقليمي في 1972 . فتحت تأثير تلك الحركة المسلحة انقسم النقوك إلى قسمين : قسم تمسك بالأجندة القبلية في ترتيب المراعي والمياه مع المسيرية بالصورة التقليدية. أما القسم الآخر فقد انحاز إلى الأنيانيا وأردف مطلبه بملكية أبيي بمطلب في هوية سياسية منفصلة بالانضمام للجنوب. وواضح أن المسيرية لا يرغبون في أن تتحول بعض مراعيهم عنهم إلى الجنوب حيث السلطات على آلية القرار للدينكا ، شريكهم اللدود في تلك المراعي . وعرض كتاب "بين صخرة ومكان صلب" (1999) كيف أن زعامة النقوك، التي ورثت تقاليد التصالح مع المسيرية التي جسدها دينق ماجوك الشهير، قد تبنت بالتدريج ربط أبيي بالجنوب. فقال إن أولاد دينق ماجوك نجحوا في نسج شبكة سياسية لحماية مصالح الدينكا نقوك بعد وفاة أبيهم في 1969 ونهاية الحرب الأهلية في 1972. فبحلول عام 1976 توطدت هذه الشبكة. ففرانسيس دينق كان في سدة السلطة بالخرطوم و زكريا دينق الوزير بين صفوة الحكم الذاتي في جوبا وكوال دينق في أبيي نفسها. ومواقف فرانسيس من جعل أبيي جسر تواصل بين الشمال والجنوب معروفة. وقد عارضه كثير من مثقفي النقوك ورأوا فيها تفريطاً معروفاً عن أسرة دينق مجوك بحق الجنوب على النقوك. وساءهم أن تعود أبيي إلى حظيرة الشمال برغم تضحيات أبنائها في صفوف حركة أنانيا. وكان منهم من ضاق بسلطان أولاد دينق مجوك أساساً. فقد سقم فرع الزعامة ، الدهيندور، من دوام سلطان عشيرة الباجوك (أسرة ماجوك) عليهم. واتفق القوميون النقوك بأن خطط فرانسيس إنما تطول من عمر الوضع غير المتكافيء بين الشمال وأبيي. وعارض زكريا مشروع أخية فرانسيس وظل يدعو لجنوبية أبيي بغير تطرف لأن الصفوة الجنوبية لم تكن ترغب في الدفع بطلب جنوبية ابيي خشية تهافت حلفهم الجديد مع نميري. وورث كوال دينق منزلة والده نافذاً بغير منصب النظارة الذي جرى إلغاؤه. وقد تحول في سنوات آخر السبعينات وحتى بدء نشاط الحركة الشعبية في 1983 إلى زعيم "شعبي"، لا سلطاناً كجده وأبيه، جسد تظلم النقوك من تعديات المسيرية والحكومة الإقليمية والقوات المسلحة المتهمة بالانحياز إلى المعتدين. وفي هذا المناخ صار مطلب انتماء أبيي للجنوب هوية ومقاومة. وانهزم مشروع فرانسيس. قيل الحجّاز ليهو عكاز. وحجاز المعارضة خلا من فكر يعتكز عليه في خصومة أبيي.