• للنصر ألف أبٍ و الهزيمة ابنة سفاحٍ و يتيمة. • قد يكون الانفصال أفضل ما حدث للجنوب و الشمال منذ الاستقلال و "إنجاز" للإنقاذ. • إن انفصال الجنوب كان بذرة في رحم الغيب و حدث ينتظر أن يحدث. • الكثير من مشاكل السودان لم يبدأ مع "الإنقاذ" و لن ينتهي بنهايتها. ***** تجهد المعارضة نفسها هذه الأيام لتلصق بحزب المؤتمر الوطني و حكومته و التيار الإسلامي الذي يمثلانه ما تعتبره جرم و جريرة فصل جنوب السودان عن شماله، و يرى قادتها أن أفضل وسيلة للانتقام من "الوطني" حزباً و حكومة و تياراً بل ربما الوسيلة الوحيدة المتاحة لهم و التي يقدرون عليها، حتى الآن على الأقل، بعد أن ظلوا يعجزون عن كل شيء سواها لأكثر من عشرين عاماً، هي دمغه بتلك التهمة و إبقاؤها نقطة سوداء في سجله و وصمة عارٍ في جبينه تشينه و تدينه على مر الدهور و الأزمان. من جهتهم يكدح المعنيون، أي قادة المؤتمر الوطني و أعضاؤه و أنصاره، لينفوا عن أنفسهم تلك "التهمة" بأن يثبتوا من ناحية أن غيرهم من القوى السياسية في الشمال يحمل بعضاً من ذلك الوزر و يشاركهم في الإثم بل سبقهم إليه من خلال تعامله مع قضية الجنوب و الإقرار قبلهم بحقه في تقرير المصير، و من ناحية أخرى بأن يحمِّلوا الحركة الشعبية لتحرير السودان "الحركة" مسؤولية الانفصال برفضها خيار الوحدة الذي عملت الحكومة كل ما رغبت فيه أو قدرت عليه لجعله جاذباً. كأني ب"الجنوبيين" ومن يقف معهم و من أعانهم على بلوغ ذلك و الكثيرين من الشامتين يضحكون ملء أشداقهم و لسان حالهم يقول "و أقبلوا بعضهم على بعض يتلاومون" و كأني بالمراقبين اللامبالين يتهامسون "للنصر ألف أبٍ و الهزيمة ابنة سفاحٍ و يتيمة". لو كان الأمر غير ما هو عليه الآن و لو أن الجنوبيين كانوا سيصوتون لخيار الوحدة لنسب كل من هبَّ و دبَّ ذلك لنفسه و ادَّعاه بالحق أو الباطل. هذا إذا سلَّمنا بأن انفصال الجنوب جريمة على "الإنقاذيين" أو غيرهم أن يحرص كل هذا الحرص على التنصل عنها و تبرئة نفسه منها و أسقطنا تماماً أنه قد لا يكون الحدث الأهم و التطور الأخطر في تاريخ السودان الحديث فحسب بل ربماَّ يكون أفضل ما حدث للسودانيين في الجنوب و الشمال منذ أن نال البلد استقلاله قبل خمسة و خمسين عاماً و أنه ربما يكون إنجازاً للإنقاذ منذ أن استولت على مقاليد الحكم في البلاد، قصدت ذلك أم لم تقصده شاءته أم لم تشأ، فيتحول أمر إنفصال الجنوب من تهمة تُنكر و تُنفى إلى شرف يُنسب و يُدَّعى. إن كلَّ ما فعله الجنوبيون في الماضي و يفيدون به في الحاضر و ما تؤكده الكثير من القرائن و الأحوال يشير إلى انفصال الجنوب كان بذرة في رحم الغيب و حدث ينتظر أن يحدث إن لم يكن ذلك في عام 2011 ففي عامٍ يليه و إن لم يكن في عهد الإنقاذ ففي عهد أية حكومة تليها و إلى حين ذلك يستمر نزيف الدم و إهدار الموارد و معاناة البشر و تلطيخ سمعة السودان، خاصة شماله، في العالم و استمرار عزلته و تضييق الخناق عليه و التآمر ضده. كان انفصال الجنوب حدثاً ينتظر أن يحدث و لقد جعلت متغيرات كثيرة في الداخل و الخارج وتيرة الاقتراب من حدوثه تتسارع و صيرته أكثر حتمية. فمن جهة لم يعد الجنوبيون أولئك البسطاء الذين نشتري منهم الديك بقرش و نبيعهم ريشه بعشرة قروش و لم يعودوا من نصفعه في الخد الأيمن فيدير الأيسر أو نقاتله فنقتله أكثر مما يقتلنا و العالم لا يسمع و لا يبصر و إن سمع أو أبصر لا يبالي. لقد تعلم الجنوبيون و سافروا و انفتحوا على الدنيا و درسوا سير "مارتن لوثر كينغ" و "تشي جيفارا" و "هوشي منه" و تفتحت عيون الكثيرين منهم على نضال "جوناس سافمبي" و "نيلسون مانديلا" و "أوغستينو نيتو" و غيرهم و من واقع تجربتهم كان ذلك يعني بالنسبة لهم شيئاً مغايراً تماماً لما عناه بالنسبة لنا. كذلك تغير العالم حولنا فصار قرية صغيرة و لم تعد فيه الدول جزراً معزولة يفعل فيها الحكام بشعوبعهم أو تفعل فيه الشعوب ببعضها البعض أو ببعضٍ منها ما تشاء بلا رقيب أو حسيب و غدا يسمع و يبصر في كل حين و صار له رأي فيما يرى و يسمع و عزيمة و أدوات و وسائل لأن يغير ما لا يعجبه ليس بالشجب و التنديد فحسب بل بالقرارات و العقوبات و المحاكمات بل بالتدخل السافر الذي يخوله له مبدأ (R2P) أي مسؤولية الحماية و الذي تطالب به الشعوب قبل الحكومات. في ظل هذه الظروف جاءت الإنقاذ التي لا يخلو سجلها هي الأخرى في تعاملها مع قضية الجنوب من المآخذ و التي ربما تكون قد صبت بعض الزيت على نارٍ ليست هي من أوقدها و لو كان ما صبته فوق تلك النار ماءاً لما أطفأها. لو عادت عقارب الساعة إلى ما قبل الإنقاذ أو لم تكن الإنقاذ أصلاً لأنفصل الجنوب يوماً ما و لو حاكمنا الإنقاذيين و أعدمناهم عن بكرة أبيهم في غرف غاز أو أحواض حامض لما تراجع الجنوب عن الانفصال. كان سوف يكون أفضل لو بدأت الإنقاذ بما انتهت به و وقعت منذ بواكير تعاملها مع قضية الجنوب اتفاقاً للسلام و لم تضمن في ذلك الاتفاق استفتاءاً وهمياً بل اتفاقاً مع "الحركة" على فصل الجنوب في موعدٍ لا يخلفانه و وظَّف الجانبان فترة ما بين التوصل إلى ذلك الاتفاق و تفعيله لحسم المسائل المعلقة و إرساء دعائم علاقات حسنة بين الدولتين الجديدتين. لو كانا قد فعلا ذلك لجنبا البلاد و العباد الكثير من الإحن و المحن و وفرا مبالغ ضخمة و جهداً كثيراً وقتاً غالياً أهدروا في الكيد و التشاحن مما زاد الضغائن و وغر الصدور وفاقم القضايا بما فيها قضية دارفور. إن الكثير من مشاكل السودان، و التي ظاهرة حكم الإنقاذ واحدة منها، لم يبدأ مع "الإنقاذ" و لن ينتهي بنهايتها" و نحن إن فكرنا على ذلك النحو نكون كمن يصف الداء ليناسب ما بيده من دواء. يرى البعض أن المؤتمر الوطني لم يجعل الوحدة جاذبة. إن أكبر ما قدمه "المؤتمر" الوطني لجعل الوحدة جاذبة هو توقيعه اتفاق السلام و تفعيله، وإن لم يكن بصورة مثالية، و منحه الجنوب حق تقرير المصير و حق حكم كل الجنوب و ثلث السلطة في الشمال و نصف ثروة البلد أو ما يزيد. حينما تمنح كياناً كل ذلك فيتعامى عنه و يتجاهله و يعير كل اهتمامه للتفاصيل و يتشبث بالفتات و الشكليات و ينشغل بما عندك أكثر مما هو عنده، فما هو إلا متسبب و متصيد لذرائع لا يحتاجها للوصول إلى غاية حددها. حينما تمنح كياناً كل ذلك و ينصرف هو لتأسيس دولة مستقلة علماً و نشيداً و ممثليات بالخارج و تسليحاً و تأليباً عليك بما يخدم مخططه و تتحدث أنت عن الوحدة فأنك تخدع نفسك و تخادع الناس. ليس هناك شيء فعله أو لم يفعله "المؤتمر الوطني" كان سيكون كافياً لأن يقنع الجنوبيين بالاستمرار في وطن واحد فقد انطلق قطار الانفصال (الحرية/ الاستقلال) حتى قبل 5/1/2005 و كل ما فعلته الحركة بعد ذلك كان لتأكيد أنه ينطلق بقوة أكبر و عزيمة أشد و ألا يلتفت سائقوه أو راكبوه إلى الوراء تاركين الراكضين خلفه يلهثون يعمي أبصارهم و يشوش بصائرهم ما ينفثه من دخان و يلفظه من حارق البخار. ثم، ماذا فعل الجنوبيون لجعل الوحدة جاذبة؟؟؟؟؟؟؟ مثلما يطرح سؤال نفسه لماذا يرمي الشماليون بعضهم البعض بتهمة فصل الشمال، يطرح سؤال آخر نفسه: لماذا يريد الجنوبيون استفتاءا لإعلان قيام دولتهم و هم يدركون أنهم لو أعلنوا استقلالها من جانبٍ واحد لما منعهم شخص أو وقف في طريقهم فالناس في أمر المنع بين غير قادر أو غير راغب. الإجابات المحتملة كثيرة و بعضها يُحمد للجنوبيين كالرغبة في حقن الدماء أو أن يحفظوا للشمال بعضاً من ماء وجهه أو التفرق بإحسان لما عزَّ الإمساك بمعروفٍ. سؤال ثالث يطرح نفسه: على أهمية معرفة كيف انفصل الجنوب، هل هذا أكبر ما يهمنا الآن؟ يذكرني انشغالنا ب"الجنوب مْن فصلو" بلعبة كنا نلعبها و نحن أطفال تقول "الفاس مْن سرقو". في اللعبة لم نكن نجد "الفاس" أو نعرف مْن "سرقو" و في انشغالنا ب"الجنوب من فصلو" سوف لن نعرف من فصل الجنوب و لن نستعيده و "سيقع الفاس في الراس" مرة ثانية و ثالثة .... هذا لو بقي هناك "راس". يتبع.....