في بكين، منتصف سنوات الثمانينات من القرن الماضي، كانت المرة الأولى التي أجلس فيها إلى د. فرانسيس دينق. كان سفيراً ووزيراً في سنوات السبعينات، ونحن في يفاعتنا الدبلوماسية نراه نجماً بعيداً لا نطاله. جاء إلى العاصمة الصينية في مهمة أكاديمية ، ليرى بعينيه التحولات التي كانت تمر بها الصين إبان فترة حكم "دينغ شياو بينغ". ودينغ شياو بينغ هو الرجل الذي أخرج الصين من انغلاقها الانعزالي، ومهّد لها تاريخاً جديداً ودوراً فاعلاً، ليس في القارة الآسيوية ، بل في العالم باتساعه. كنت وقتها وزميلي السفير بشير محمد الحسن، نعمل بسفارة السودان هناك، هو نائب لرئيس البعثة وأنا سكرتير أول فيها. لم يكن للسفير المعتمد وقتذاك، كثير اهتمام بزيارة فرانسيس دينق لبكين، ولم نجد أنا وصديقي السفير بشير، ما يشجعنا على مفاتحة رئيس البعثة بنيتنا الالتقاء بالدكتور دينق. برغم بدايات الانفتاح في الصين تلكم الأيام، إلا أن وجهاً أكاديمياً يأتي من جهة الولاياتالمتحدة، (كان فرانسيس وقتها مرتبطاً بمعهد ماساشوسيتس، إن لم تخنِي الذاكرة)، لأمرٍ ترتفع معه حواجب الدهشة عالياً. كنت في تلك الأيام منشغلاً، من ضمن اهتمامات بعثتنا الدبلوماسية في الصين، بمتابعة المفاوضات الجارية بين لندنوبكين حول مصير هونغ كونغ. جرى لاحقا اتفاق تاريخي وقعته في عام 1985، مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية مع قادة الصين، أقرّ انضمام الجزيرة الناشزة إلى الوطن الأم بعد فترة عشرة أعوام، في صيغة عرفت بصيغة " نظامين في بلد واحد ". أثبتت الصيغة، حين نفذّت عام 1995 ، مصداقية عالية ، جعلت منها مثالاً قابلاً للإحتذاء . بعد أقل من عقدين، يجلس الدكتور فرانسيس دينق، مقرراً لجلسات مطوّلة عقدها مركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS ) في عام 2001، شارك فيها بنفسه مشاركة رئيسية فاعلة ، وقد تمخضت عن هذه الندوة، مقترحات عملية تبنتها الإدارة الأمريكية وقتذاك، لحل النزاع في السودان ، وظهرت صيغة "نظامين في بلد واحد" ، كصيغة قابلة للتطبيق، وجرى اعتمادها لاحقاً في إطار التفاوض الذي أفضى بأطراف النزاع في السودان، إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005 في نيفاشا، بكينيا. فيما قضى أكثر سنوات نضجه الفكري في الخارج ، إلا أنّ د. فرانسيس دينق لم يبتعد عن شئون السودان ونزاعاته الشائكة ، برغم المناصب الشاغلة التي أخذته إلى الأممالمتحدة، ممثلاً للأمين العام لشئون النازحين حيناً، وحينا آخر مستشاراً للأمين العام لمنع الإبادة الجماعية ، وهي المهمة التي يتولاها حتى كتابة هذه السطور. إلى ذلك يرى المراقب الحصيف أن مشاكل النازحين هي من مشاكلنا الشاغلة ، كما أن الابادة الجماعية هي مما يتأبطه مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ضد الرئيس السوداني عمر البشير. فرانسيس دينق لصيق بلمفاتنا على نحوٍ ما، كما ترون. ( 2 ) لفرانسيس دينق كتيب جديد بالانجليزية ، صدر في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم ، عن المعهد الدولي للشئون الانسانية التابع لجامعة فوردهام في نيويورك ، بعنوان يجتذب النظر : "وقفة السودان على الحافة: حق تقرير المصير والوحدة الوطنية "(2010)، بعد مقدمة قصيرة ولكنها ضافية، يعرض المؤلف مساهمته الفكرية في مؤتمر الحوار الوطني حول السلام، الذي انعقد في الخرطوم، بعد ثلاثة أشهر فقط من عمر حركة الانقاذ عام 1989 ، ثم مساهمته الثانية في ندوة انعقدت بشراكة بعثة الأممالمتحدة في السودان(يونميس)، ومركز دراسات المستقبل في عام 2009. يحدث دينق عن الإخفاقات التي أفضت بالسودان إلى نزاعات متصاعدة، وينبه في ذات الوقت إلى أفق التنوع الإثني والثقافي والديني الذي ينبغي الاعتراف به، وأن نستبصر ما يزيد تماسك مجتمعاتنا، فيما لو احترمنا هذا التنوع، ونعماء العيش المشترك تحت مظلة الإعتراف بالآخر. لا ألخص لك رؤية المفكر الكبير ، ولكن كتيبه هذا سيكون متاحاً قريباً لنظر الجميع ، آملاً أن يتولى ترجمته مركز من مراكز البحث السياسي في الخرطوم. في ختام الكتيب الهام والوطن في حافة مصيره، يضيف د. دينق مساهمة أخيرة حول المستجدات، وضرورة توسيع الحكم اللامركزي وتقليل هيمنة المركز على شئون البلاد، ورؤيته لكيفية إدارة تفاوضٍ بناء ، مقترحاً أسساً له وموجهات ، ثم يورد في نهاية صفحات الكتاب، خلاصة مختصرة ، عبرت عن رؤيته الخاصة حول المستقبل الماثل. تتلاقى طروحات دينق مع مبادرة طرحها بعض المثقفين، قبل نحو أسبوعين، تحت مسمى "مبادرة آ د م" ، ولا تختلف عمّا طرح دينق ، سوى أنها تطرح إلغاء الإستفتاء جملة وتفصيلا ، مع تلازم إعلان قيام دولتين منفصلتين بعد عامين، بروابط قابلة للإستدامة . لدينق حجة قوية في الإبقاء على حق تقرير المصير وقيام الإستفتاء – مع تقديره أن ذلك قد يكون ترتيباً مرحلياً قابلاً للتجاوز- لأن في ذلك جهد طيب سيحسن من صورة الشمال وتاريخه الممعن في نقض العهود . نعم، ليس لنا من سمعة طيبة في حفظ العهود. حول مستقبل السودان، يرى د. فرانسيس دينق أن الخيارات ثلاثة : 1- الخيار الأول: وحدة بعدإعادة هيكلة السودان الحالي، وصولاً لسودانٍ جديد ، 2- الخيار الثاني: شكل من التعايش الفضفاض بين كيانين في اطار بلد واحد ، 3- الخيار الثالث: انفصال صريح . ينطلق الدكتور فرانسيس في تحليل الوضع في السودان على خلفية صلبة تستند على تجربته الشخصية، وايمانه الراسخ بأن منطقة أبيي التي ينتمي إليها ، كانت الأنموذج الأمثل والمصغر لسودانٍ ينعم بتنوع ثقافاته وأعراقه وعقائده، لا بنقمات هذا التنوع ، فيما لو قويت الإرادة واستبصرنا واقعنا، بعيداً عن التعصب وأوهام الانتماء الذي يرى دينق أن المركز وقع فيه بالتوجه عربياً واسلامياً منذ استقلال البلاد، فيما جرى إغفال المكوّن الرئيس وهو المرتكز الأفريقي، وهو مكوّن مشترك بين جميع سكان البلاد . وفي الواقع لنا أن نختلف مع هذه الرؤية فالتوجه العربي والإسلامي، لا يبدو أمراً متوهماً، فالحديث هنا عن انتماء ثقافي لا انتماء عرقي أو إثني ، وإلا فما الذي يبقى الأكراد في العراق، مثلاً أو الفينيقيين وبقاياهم في الشام على ثقافتهم العربية ، معتدّين بها ، ويستثني السودانيين ؟ من مفارقات الأقدار أن يكون أنموذج العيش المشترك في منطقة "أبيي"، بين قبيلتي "دينكا نقوك" و"المسيرية"، والذي رعته حكمة قيادات تاريخية مثل السلطان "دينق مجوك" في القبيلة الأولى، والسلطان "بابو نمر" في القبيلة الثانية، هو بؤرة التوتر الرئيس في التماس بين الشمال والجنوب، هذه الآونة. هي القنبلة القابلة للإنفجار في رؤية هلري كلينتون وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة. لن يسلم الشمال - في حال ذهاب الجنوب بلداً مستقلاً- من أدواء التنوع إن لم يبصر نعماءها ، كما لن يسلم الجنوب، لو زاغ البصر عن ممسكات وحدته . التحديات الجسام حول الهوية، لن تُبقي تماسك الطرفين على تناقضاتهما ، كما لن يكتب لعرى التواصل الإجتماعي والوجداني بينهما أن تنفصم ، وقد توغلت في تاريخ كلا الطرفين، توغلاً عميقاً . لن يفلحا قطعاً، إلا في صيغة خيار الطريق الثالث أعلاه ، وهو الخيار المفضي إلى إنفصال يؤخذ كترتيبٍ مؤقتٍ وتجريبي، تستدام معه وشائج وقنوات التواصل الراسخة بين الشعبين ، تجارة ومواطنة وحراكاً سكانياً ، وتشاركاً في الموارد والمنافع، ويترك الباب موارباً لوحدة في أفق غير بعيد . ( 3 ) في قراءة سريعة لمجمل ما طرح د. فرانسيس دينق في كتيب وقفة السودان على الحافة ، لمستُ ما أعانني على إبداء عدد من الملاحظات، رأيت أن أشرك القراء معي فيها : الملاحظة الأولى : لعل الكتاب جاء في الساعة الحادية عشر قبل انتهاء اليوم ، إذ الاستفتاء سيقع بعد أيام قليلة ، وأن أية مراجعة أو تراجع لن يكون أمرا وارداً . ومع تقديرنا للمهام الجسام التي تقع على عاتق الرجل، إلا أن الوقت الضاغط لا يتيح لنا جميعاَ نظراً عميقا لنتدبر في الذي كتب . كان الأنسب أن يكون الرجل مقيماً بيننا ، إذ هو حجتنا الأولى والأخيرة في موضوع التسامح والتعايش بين الإثنيات، وصاحب القدح الأكاديمي المعلّى فيه . أن يكون بيننا ومعنا، يحدّث ويسمع ويحاور ويناظر ويروّج للخيار الذي ارتآه منذ سنوات طويلة ، وهو الخيار الثالث ، الواقع – جغرافيا- إن جاز القول – بين وحدة صماء ينقصها التراضي، وانفصال محض مجافٍ للوجدان . يلاحظ القاريء للكتيب، كيف أسهب الدكتور دينق في إبداء المبررات التي دفعته لمخاطبة الندوتين اللتين جاء على ذكرهما : مؤتمر الحوار في عام 1989 وندوة "اليونميس" في مركز دراسات المستقبل عام 2009 ، حيث أوضح جلياً أن مشاركته كانت بعد إلحاحٍ وضغوط. وبرغم المنطق المقبول فيما أورد د. فرانسيس ، إلا أن اللهجة التي جاءت منه طغت عليها مسحة اعتذارية ، بدا معها وكأنه يدفع عن نفسه تهمة خفية لا نكاد نراها . الملاحظة الثانية : أوضح د. دينق بأصدق تعبير، أن الدعوة لجعل الوحدة جاذبة تقع بكلكلها على الطرف الأقوى . الطرف الأصلب مؤسسية . الطرف المسيطر في المركز . على أن الاسراع بالقاء اللوم على طرف دون آخر ، أو عليهما معاً ، لابد أن يلحظ أن تعبير الوحدة الجاذبة ورد في اتفاقية السلام الشامل بلا توصيف . وللوحدة الجاذبة بالطبع وجهان : ناعم يتصل بالتوجهات السياسية وعقائد الحكم ، ووجه صلب يعنى بترتيبات مادية تؤسس على الواقع الماثل ، مثل مشروعات التنمية وتطوير مختلف الخدمات وخلافه. وفوق كل ذلك نقصان المعايير ، بل وغيابها تماما. تحضرني هنا إشارة تفضل بها الدكتور لام أكول في مداخلة ذكية بعد محاضرة الرئيس تابو مبيكي عن السودان وافريقيا :رؤية للمستقبل، في قاعة الصداقة في الخرطوم، يوم 5 يناير 2011، إذ تساءل عن معيارية الوحدة الجاذبة، وكيف تقاس، وعلى أي ميزان تقيّم ؟ الملاحظة الثالثة : لابد من الإفصاح عن تقديرنا جميعاً، للغة المتفائلة التي عبر بها دكتور فرانسيس عن طروحاته حول نزاعات السودان . ولعل رؤيته بدت أكثر شمولاً للظاهرة بأبعادها السياسية والإجتماعية والثقافية ، بل وأعمق نظراً ، إذ أن السودان لن يختزل تاريخه في خمسين سنة أو مائة سنة ، بل سيمضي التاريخ به كمثل جريان الأنهار، لا تتوقف عند شلال أو حجارة عارضة ، وعليه فلن تكون المرحلة الماثلة بنزاعاتها واختلافاتها، باتفاقاتها وبروتوكولاتها، إلا مرحلة في زمن معيّن وستعقبها مراحل قادمة . لن تكون محطة تقرير المصير، محطة النهاية ونقطة الوقف ، بل قد تكون – باستصحاب التفاؤل اللازم- محطة التمهيد لالتئام جديد أقوى صموداً، ولتلاحم أكثر وعياً ، تتجذر فيه ممسكات الوحدة ، وتنقشع معه مشتتاتها، وتتبدد خلافاتها . رحلة تشكيل الهوية لا تحسم في جيل واحد، بل هي مسيرة تاريخية تتوالى عليها تجارب أجيال وأجيال. بُعد النظر يفتح أبواب التفاؤل مشرعة . ذلك هو روح الطرح الذي جاء من د. فرانسيس في خاتمة كتيبه الجامع لمآل الوطن الآن . الملاحظة الرابعة : برغم خلو الكتيب من محاججة عن الأبعاد الخارجية المؤثرة على نزاعات السودان ، لكن ذلك لن يكون قدحاً في الطرح الذي جاء منه ، بل لعل في ذلك تنبيه لنا، لأن لا نكثر من القاء تبعات مخازينا على الآخرين ، وأن لا نجنح في ذات الوقت - في غلوٍ غير مرغوب - لأن نتهم الآخرين بالتآمر علينا. برغم ذلك، لن يكون الخيار في نظري، هو جلد الذات بما يقترب من الانتحار، غير أن البصر لن يغفل عن سقطات النخب التي توالت على إدارة البلاد، مع ما صاحب جهدها من نجاحات محدودة . ( 4 ) لا أخفي إعجابي بمجمل الطرح الذي جاء من الدكتور فرانسيس دينق ، بل وأنا ممتن أيضاً للسفيرة النابهة نادية محمد خير عثمان، إذ وفرت لي الإطلاع على نسخة من الكتيب وتحاورنا حوله، وأفدت منها كثيراً . وأقول مختتماً مقالي أن البلاد في محطاتها المصيرية، لهي أكثر حاجة لحكمة شيوخها ومفكريها ، بل ومبدعيها .لفرانسيس دينق إلى جانب دراساته الفكرية، سهم في الإبداع كبير، إذ له كتابات روائية مذهلة. هذا رجل جدير بأن نطلع جميعنا - في الجنوب وفي الشمال - على مساهماته الثرة.. لفت انتباهي في مقال جاء من الأستاذ ثروت قاسم في مواقع الإنترنت، ملاحظة طريفة مفادها أن قادتنا وزعماؤنا في حاجة لتطوير مقدرات الاطلاع الإلكتروني، والتفاعل مع ثورة الإتصالات والمعلوماتية . هي دعوة حقيقية لأن نطور مقدراتنا على الإطلاع، وليس ذلك أمراً صعبا . وإلى أن نتدارك مثل هذا النقصان في القدرات ، أقول مناشداً د. فرانسيس دينق لأن يجد سانحة ليخرج إلينا هنا في هذه الأيام المصيرية في الخرطوم وفي جوبا، وينتفض من بين أوراق كتبه وكتيباته، فنراه يحدثنا جميعاً، قادة وولاة أمر ورعايا ، فتكون الحكمة التي جاءته من السلطان الراحل دينق مجوك ، وتمازجت مع علوم العصر من انثروبولوجيا وعلم اجتماع وقانون، متاحة لنا ، فنعي ما بنا وما حولنا . ما أشدّ الحاجة إلى حكمة الكبار . فرانسيس دينق حكيم كبير مكانه هنا الآن. يراوح ذهني بين هذه الأيام تلك الأيام البعيدة في بكين، حين شهدت بحضوري هناك، كيف أقنع الصينيون قادة بريطانيا بصيغة "نظامين في بلد واحد" ، لضم هونغ كونغ إلى الوطن الأم، فأسأل : هل حكمة الصين البترولية هي كل ما جاءنا من بكين ؟ الخرطوم- 7 يناير 2011 نقلاُ عن صحيفة "الأحداث" jamal ibrahim [[email protected]]