0909010501 في الآونة الأخيرة ، ونتيجة لتداعيات ما ؛ تعالت أصوات بإسقاط الجنسية عن الجنوبيين في الشمال ، ورغم أن رشد العقل في حدود علمه إلا أن بعضاً ممن توخينا فيهم العلم انساقوا وانجرفوا في اتجاه الغوغائية ، فأخذوا يحرِّفون أصول العلوم عن مواضعها ، ويتنكبون جهلا أو تجاهلاً عن مبادئها ، ومن ذلك القانون ، بمبادئه التي رسخت وفلسفاته التي بناها حراك الشعوب - عبر التاريخ - السياسي والاقتصادي والاجتماعي .. ، ولست هنا في سانحة الرد ، ولكني في سانحة إعادة الأمر إلى نصابه فيما يتعلق بإسقاط الجنسية عن الجنوبيين في الشمال والمبادئ التي تحكم ذلك فيما حفيت به . أولاً : الإسقاط بناءً على العرق : نادى البعض بإسقاط الجنسية عن الجنوبيين بمجرد الانفصال ، وذلك على أساس أن اختيار الانفصال يعني تنازلهم طوعاً عن الجنسية السودانية ؛ وهذا الكلام وإن كان مجرد هراء ولغو ، إلا أننا إن جاريناه على مثالبه لأفضى بنا إلى قانون غير دستوري وغير مشروع : 1- عدم الدستورية : إذا كانت مادة الجنسية ، من المواد المرتبطة بسيادة الدولة ومبدأ حرية الدولة في وضع ضوابط منح الجنسية ، إلا أن هناك ضوابط ما لا يمكن حتى لهذا المبدأ أن ينتهكها ، ومن ذلك أن الحقوق المكتسبة لا يجوز إهدارها بناءً على قانون يستند إلى تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللون ، إن أي قانون يصدر مستنداً في ضوابطه إلى العرق أو الجنس أو اللون يعتبر مخالف لكافة الأعراف الدستورية التي استقرت عالمياً ، فلا يجوز أن يصدر قانون يسقط الجنسية عن شخص لأن أصوله تنتمي إلى الدينكا أو النوير أو الحضارمة أو المغاربة أو الأتراك أو الأقباط ... الخ وإلا كان غير دستوري؛ وهو غير دستوري لأنه مبني على قاعدة ثابتة وهي عدم جواز وضع قوانين تصادر على الحقوق استناداً إلى تمييز عرقي . وإذا كان هذا التمييز السلبي (بإسقاط الحقوق المكتسبة) قد قطع الفقهاء وتبعتهم الدساتير والتشريعات في رفضه والتأكيد على عدم دستوريته ، فإننا نجد أن هناك جدلاً قائماً حتى بالنسبة لما يسميه البعض بالتمييز الإيجابي ، فهناك دعوات دائمة إلى إنهاء ما يسمى بالتمييز الإيجابي والاقتصار على التمييز على أساس الخصائص ، فالمرأة لا يتم منحها أفضلية إجازة وضع لأنها امرأة بل لأنها تتمتع بخصائص ما تجعلها مختلفة عن الرجل في مرحلة ما من تكوينها وهكذا ، بل أن الرفض يزيد عندما يتعلق الأمر بالحقوق السياسية حيث يجب أن يتساوى فيها الجميع نساء ورجالاً وأياً كان عرقهم دون منح أي ميزات أو أفضليات. 2- عدم المشروعية : وعدم المشروعية ، مبني في الأساس على عدم توفر المتطلبات الدستورية (وفق الاتجاهات العالمية الحديثة) ، وتشير إليه غالبا المدرسة الأخلاقية أو اللاوضعية في فلسفة القانون ، فأي قانون يقوم بإسقاط حق من الحقوق المكتسبة بناءً على معايير الجنس أو النوع أو العرق ، يعد قانوناً غير مشروع ، لأنه غير أخلاقي ، ومن ذلك قوانين الفصل العنصري التي كانت مطبقة في جنوب أفريقيا ، وقوانين الزنا على أساس اجتماع أبيض واسود في مكان واحد في بعض الولاياتالأمريكية وغيرها . ثانياً: الإسقاط بناءً على القانون : ومن الهزل ولغو الحديث أن قام البعض بالاستناد إلى القانون في إسقاط الجنسية عن الجنوبيين الموجودين بالشمال ، وهم يطلقون تفسيراتهم يمنة يسرة ، ولو أن طالباً بالسنة الأولى من كلية القانون قرأها لأصابه السأم من خلط علم القانون برغبات ذات دوافع استعلائية مريضة ، يحركها "نَفس حار" ودماء تغلي تنطعاً بالجهل وتدثراً بالنعرة النتنة. ومما استند إليه آباء الجهالة الفقرة (أ) من المادة العاشرة من قانون الجنسية لسنة 1994 ، والتي نصت على الآتي : 10 يجوز لرئيس الجمهورية أن يقرر إسقاط الجنسية السودانية عن أى سودانى بالميلاد من ذوى الأهلية، يكون قد بلغ سن الرشد، إذا ثبت أنه : (أ) قدم إقراراً بالتنازل عن جنسيته السودانية، على أنه يجوز لرئيس الجمهورية أن يرفض الإقرار إذا كان قد قدم أثناء أي حرب يكون السودان مشتركاً فيها.. وهم إذ يستندون فيها يلبسون الحق بالباطل ، ويزعمون أن نتيجة الاستفتاء بالانفصال ؛ تؤدي إلى تنازل ضمني عن الجنسية . ووالذي نفسي بيده ، ما علمت من قبل باطلاً أكبر من هذا ولا افتأتاً أشد حينما يلوى عنق القانون لتحقيق مرامي النفوس المريضة ؛ فهذه المادة الواضحة التي لا لبس فيها ذات عناصر وشروط لا تمنح الحق في إسقاط الجنسية بطريقة أوتوماتيكية عن الجنوبيين . فشروط هذه المادة كثيرة ، نجمل منها ما يتعلق بالتنازل على النحو التالي : 1- التنازل : ويشتمل هذا التنازل على أوصاف منها : الوصف الأول : (شخصية التنازل ) أو فردية التنازل لا جماعيته : فهو تنازل شخصي ؛ فلا يتم بشكل جماعي ، ومن ثم فإن الفصل فيه لا يتم بصورة جماعية . وتتطلب هذه الشخصية أن يكون مقدم التنازل ذا صفة فيه فلا يجوز أن يقدم التنازل أي شخص آخر غيره إلا بتوكيل خاص ، كما تشترط شخصية التنازل أن يكون التنازل طوعاً واختياراً فلا يجبر المواطن على التنازل ولا يوضع في موضع يسلكه إليه قهراً. ويترتب على ذلك أن التنازل لا تعرضه الدولة ؛ بل يجب أن يتخيره الفرد ابتداءً . الوصف الثاني : أن التنازل يجب أن يكون صريحاً ومكتوباً ؛ فلا يعتد بالتنازل الضمني ولا محل للحديث عن أن الاستفتاء يعتبر تنازلاً ضمنيا. الوصف الثالث : أن يكون باتاً ؛ فيشترط ألا يكون التنازل موقوفاً على شرط ولا معلقاًَ على أجل . 2- أن تتوفر الشروط العامة للتنازل عن الحقوق ، مثل بلوغ سن الرشد وعدم توفر إكراه مادي أو معنوي أو خلافه ..الخ. فمن أين لهؤلاء بهذه المادة لتحقيق آمالهم في إسقاط الجنسية عن الجنوبيين بناءً عليها ؟ وفوق ما سبق فإن هذه الفقرة من هذه المادة ؛ لم توضع في التشريعات الأخرى لاستغلالها لأغراض تصفية الحسابات الشخصية ولا إشباع النعرات العنصرية ولا العنت السياسي ولا إكراه الشعوب لو كانوا يعلمون ؛ بل الحكمة منها أن المجتمع الدولي وفقهاء القانون الدولي الخاص قد لاحظوا أن هناك مشاكل تنهض لدى الأفراد مزدوجي الجنسية أو متعددي الجنسية ، فمنحوا هؤلاء الحق في حل مشاكلهم عبر التنازل عن إحدى جنسياتهم مقابل التمتع بالأخرى ، فعلى سبيل المثال ، تقوم بعض التشريعات في دول كثيرة بتقييد الحقوق السياسية لمزدوجي الجنسية ، فلا يجوز لهم الترشح لمنصب عام أو الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات . فيضطر هؤلاء إلى التنازل عن جنسيتهم الأخرى مقابل الحصول على حقوق كاملة . وهناك معالجات قضائية عديدة أخرى مثل الأخذ بمعيار الجنسية الفعلية .. الخ . ثالثاً: الجنوبي في الشمال (مواطن كامل) : قبل إتفاقية نيفاشا وقبل الاستفتاء وقبل الإنقاذ، وقبل استقلال السودان ، كان الجنوبيون مواطنين سودانيين ، بعضهم عاش في الشمال والغرب والشرق ، وأكثرهم عاش في الجنوب ، ومنهم من ولد في الشمال والشرق والغرب ، وهؤلاء هم محط أنظار النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، وهم من أصول مختلفة كالدينكا والنوير وغيرهم ، لا خلاف عن غيرهم أصحاب الأصول ممن يزعمون انتسابهم إلى المغرب العربي أو الجزيرة العربية أو غيرهم ؛ والسؤال الذي يطرح نفسه ما الذي يجعل ممن ولد منهم غير شمالي ، كأصحاب الأصول الأخرى ؟ فمن هو الشمالي ؟ إن قلنا بأن الشمالي هو من ولد بالشمال فقد ولدو فيه ؛ وإن قلنا بأن الشمالي هو شايقي أو جعلي أو دنقلاوي أو خلافه فقط ، فإن هذا والله لخطب عظيم ؛ لأن هذا سيجعل كافة من لا ينتمون إلى هذه القبائل أجنبياً فنخرج نحن أصحاب الأصول المغاربية والتركية ، ويخرج الأقباط ، ويخرج الفور والزغاوة والمساليت وغيرهم جميعاً من كونهم شماليين ؟!! فكل هذه المعايير إن طبقت فعلى من بقى من الشماليين السلام ؛ فهذا المعيار خطر على الجميع ، لأنه يهدد وجود المنظومات الاجتماعية أيما خطر ، ويمكن تطبيقه بشكل واسع ، إن الشمال ليس مملكة للجعلين أو الشايقية أو أحد ما ليقرر من هو شمالي ؛ وإن عدنا إلى القانون لمعرفة من هو السوداني ؛ فإننا سنجد معايير عادلة وواضحة ؛ وقد وضعت المادة (4) من قانون الجنسية ضوابط واضحة كالآتي : 4 (1) فيما يتعلق بالأشخاص المولودين قبل سريان هذا القانون، يكون الشخص سودانيا بالميلاد إذا توافرت فيه الشروط الآتية :- (أ) إذا كان قد حصل على جنسية سوداني الميلاد، (ب) (أولاً) أن يكون قد ولد فى السودان أو أن يكون والده قد ولد فى السودان، (ثانياً) أن يكون عند سريان هذا القانون مقيماً بالسودان، وكان هو أو أصوله من جهة الأب مقيمين به منذ أول يناير سنة 1956. (ج) ......... (2) يكون الشخص المولود بعد سريان هذا القانون سودانياً بالميلاد وقت ميلاده. (3) ......... ورغم ركاكة النص ؛ فإن هذا يعني أن أي مواطن جنوبي الأصول ؛ مقيم في الشمال وولد في الشمال يعتبر مواطناً كاملاً ولا يجوز إسقاط جنسيته بأي حال من الأحوال دون رغبته . فقد أضحت الجنسية هاهنا حقاً مكتسباً مرتبطاً بكافة حقوقه الأخرى السياسية والمدنية والاقتصادية .. الخ . رابعاً : الحل: رغم أنني لا أميل أبداً إلى إسقاط جنسية عن مواطن سوداني ؛ إلا أنه وإن كان لا بد من وضح حدود قانونية لعلاقة أصحاب الأصول الجنوبية في الخارطة المتبقية للسودان ؛ فإن الحل الأمثل هو الانتقال من الإسقاط الشخصي غير الدستوري والمنافي للمشروعية ، إلى الإسقاط العيني ؛ فبدلاً عن الحديث عن إسقاط جنسية الشخص استناداً إلى عرقه وأصوله ، فيمكننا أن نجد معياراً أخف وطأة وأقوم قيلا ، فالمعيار العيني هو ربط إسقاط الجنسية بواقعة معينة ، وهو إسقاط لا تشوبه شائبة عدم الدستورية ، فيجوز للدولة أن تسقط الجنسية عمن يحمل جنسية مزدوجة ، فهو لا يرتبط بعرق ما دينكاوي أو نويري أو شايقي ، فكل من يحمل جنسية السودان عليه أن يمتنع أو يتنازل عن التمتع بأي جنسية أخرى ، فهو بالخيار ما بين الإبقاء على الجنسية السودانية وبين تركها لتحقيق مصالحه في دولة أخرى . فيجوز أن ينص القانون على الآتي : - لا يجوز لمن يتمتع بالجنسية السودانية أن يتمتع بجنسية (مسمى الدولة الجديدة في الجنوب ) أياً كانت أصوله . وعلى هذا ؛ يقع إلتزام على الجنوبي المتواجد بالشمال أو الشرق أو الغرب كما هو الحال على الشمالي أو الشرقي أو الغربي المتواجد بالجنوب.بدون تمييز بناءً على عرق أو جنس . خامساً : ادفع بالتي هي أحسن : "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (فصلت ،34) . رغم ما سقناه من معيار عيني لإسقاط الجنسية السودانية ممن يجمعون معها جنسية دولة الجنوب الوليدة ؛ فإنني أحذر أيما حذر من غلو العداوة الذي تنتجه مستقبلاً مثل هذه القوانين التي لا تعبر إلا عن حالة نفسية وقتية ورد فعل سلبي قد يبدو مبرراً في هذه اللحظة ولكنه وبعد سنوات أوعقود لا ينتج سوى المزيد من العداء والأعداء ، فإذا أردنا فعلاً دولة جارة صديقة أو على الأقل غير معادية ؛ فعلينا التروي كثيراً قبل إصدار مثل هذه القوانين التي لا تعبر إلا عن حالة انفعال مؤقت بالوضع الراهن . فلا يوجد قانون سوداني يمنع من الجمع بين الجنسية السودانية والأمريكية ؛ رغم أن أمريكا تعتبر (وفقاً للاتجاه الإسلامي للدولة) دولة كافرة أو على الأقل دولة معادية ، ولا يوجد أي قانون يمنع الجمع بين الجنسية السودانية والمصرية رغم أن مصر تحتل (وبالقوة) جزءً لا يتجزأ من أراضي السودان وللسودان تاريخ متوتر معها ؛ ليس هذا فحسب ؛ بل أن القانون السوداني الذي يراقب زواج الموظفين من أجنبيات يستثني الزواج من مصرية فقد نصت المادة (3) من قانون الرقابة على زواج الموظفين والطلبة بغير السودانيات لسنة 1959 على الآتي : 3 يستثنى من تطبيق أحكام هذا القانون زواج الموظفين والطلبة بالمصريات . فلماذا إذا يتم خلق حالة عداء تام بين دولتين من خلال قوانين الجنسية ؛ إن مثل هذه القوانين لهي استمرار لحالة الكيل بمعايير عرقية قبل كل شيء ، فالجنوب ليس أكثر خطراً من الدول الأخرى المحيطة بالسودان كتشاد وأثيبويا وأريتريا ومصر وليبيا ، ولنا مع كل هذه الدول تجارب مريرة ، فلم لا يتم منع ازدواج الجنسية السودانية مع غيرها من جنسيات هذه الدول . أنا لا أستطيع أن أتصور ؛ لماذا يمنح عصام الحضري أو أي لاعب كرة قدم نيجيري أو غاني أو غيره الجنسية السودانية ؛ ويصبح من غير المهضوم لدى بعض القبائل الشمالية أن يمنح "شول" أو "ملوال" أو خلافه هذه الجنسية ؟ . كان من الأفضل أن توجه كل الجهود المستقبلية إلى استيعاب الجنوب كخط دفاع استراتيجي للعمق الجنوبي للسودان ، بدلاً عن المحاولة المستميتة لإضعاف هذه العلاقة . أو تشويه الرابط النفسي شعبياً . سادساً: حالة التوهان والضياع : في كلمة أخيرة أقول ؛ إن الشعب السوداني كان ولازال منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا في حالة توهان وضياع كبيرين ؛ أنا لا أستطيع أن ألوم رجال المؤتمر الوطني ؛ فهؤلاء لم يأتوا من كوكب المريخ ، إنهم عينة صغيرة تعطينا صورة واضحة عن حالة عدم الاستقرار الذهني في التخطيط لمستقبلنا كأمة في أحسن الفروض أو كدولة في أسوئها ؛ فهذا الضياع الذي بعَّض الدولة وجعل أهلها شيعاً ؛ هو من سيتسبب في المزيد من التقيحات والمزيد من التفتت ؛ فالحذر الحذر ؛ فحالات التشنج هذه و التي تصدر عنها الأحكام ، لا تنتج سوى الخراب ، وما من أمة اتبعت أهواءها إلا وأركسها الله في عذاب مقيم .