أصبح انفصال أو استقلال جنوب السودان أقرب في الواقع إلى أن يكون حقيقة ماثلة، بصرف النظر عن الاحتمالات المظلمة لعلاقات الشمال بالجنوب بل ومستقبل السودان نفسه.. وسيكون مطلوباً من العالم العربي وأفريقيا أن يحدّد كل منهما موقفه من الاعتراف بالدولة الجديدة، وأمام العالم العربي احتمالان: الاحتمال الأول: أن يعترف بالدولة الجديدة على أساس الافتراضات الآتية: - أن الدولة الجديدة هي تعبير عن حق الجنوب في تقرير مصيره، بصرف النظر عن أن عملية التعبير قد تمت بطريقة صحيحة أو أنها مؤامرة منسقة. - أن واشنطن هي أول معترِف بهذه الدولة الجديدة، ومعها الدول الغربية التي أسهم بعضها في ملحمة الانفصال. - أن الانفصال يتم بالتوافق ولو الصعب بين الشمال والجنوب، وأن لجنة حكماء أفريقيا أشرفت على مراحل وعمليات تقرير المصير. - أن مصر سارعت بالإيحاء بأنها سوف تعترف بالدولة الجديدة تحت ستار احترامها لحق تقرير المصير الذي ترجوه أيضاً للشعب الفلسطيني، رغم الفارق الهائل بين النموذجين في المدرك الفني والمتخصص.. وقد تقاربت مصر مع الجنوب استباقاً لتيار الانفصال، وربما كان ذلك أملاً في تأمين حصتها من مياه النيل. - أن الخرطوم ستُضطر إلى عدم الممانعة في الاعتراف بالدولة الجديدة وقبول نتائج الاستفتاء، وقد يتأخر اعترافها بعض الوقت، وذلك أملاً في أن تؤدي التسويات الودية للملفات الشائكة إلى إعادة توحيد الجنوب على أسس جديدة، وألا تظهر الخرطوم على أنها فرّطت في وحدة السودان على الأقل أمام شعبها وحكم التاريخ. - أن الاعتراف ينسجم مع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في قضية كوسوفا. - أن عدم الاعتراف العربي لن يكون له أثر إذا اعترفت أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة، وسيعمق العداء بين العرب وجنوب السودان وأفريقيا. والاحتمال الثاني: أن يرفض العالم العربي الاعتراف بالدولة الجديدة على أساس الافتراضات الآتية: - أن فكرة فصل الجنوب فكرة استعمارية ليس فقط في السودان وإنما في عموم المنطقة العربية، كما أن الحركة الشعبية نشأت أصلاً لتنفيذ هذه الفكرة. - أن فصل الجنوب مقدمة لتفتيت السودان على أساس وحدة المؤامرة على السودان والمنطقة، وهو مخطط يتم في كل دولة عربية على حدة، ومن شأن الاعتراف بدولة الجنوب تحت أي ذريعة أن يؤدي إلى انفراط عقد السودان الموحد بصرف النظر عما يُقال عن مسؤولية النظام وأنانيته وعدم العدل في توزيع الموارد، فتلك كلها حجج خارجية في نطاق المؤامرة التي تستخدمها ذرائع، والمؤشرات على ذلك كثيرة، أهمها أن الحركة الشعبية هي أكبر داعم لمتمردي دارفور وكردفان. - دخول الكيان الصهيوني والولايات المتحدة علناً لفصل الجنوب، واعتراف مدير جهاز «الموساد» بدوره في الجنوب وفي دارفور، وانطلاق المؤامرة من واشنطن لصالح «إسرائيل» وبالتنسيق معها مثلما يحدث في العراق. - أن عدم اعتراف العرب بالجنوب ينسجم مع مبدأ في القانون الدولي العام، وهو المحافظة على السلامة الإقليمية للدولة واحترام الحدود الموروثة من العصر الاستعماري، وهو مبدأ قدسية الحدود الذي تضمنه ميثاق الاتحاد الأفريقي بعد أن طوف في أمريكا اللاتينية منذ بدايات القرن التاسع عشر، ثم قفز إلى أفريقيا في الستينيات من القرن العشرين، ثم إلى أوروبا الشرقية والبوسنة في نهايات العقد الأخير من القرن العشرين. - أن المشكلات داخل الدول في العالم الثالث بين الحُكم والقوى السياسية والاجتماعية ناجمة عن التخلف، ولا يجوز أن يتوهم أحد أن تقسيم الدول هو الحل السعيد لهذه المشكلات، بل هو الخطوة الأولى نحو صراع أبدي وفوضى عارمة. - أن القانون الدولي يُعلي مبدأ وحدة إقليم الدولة وسلامتها الإقليمية على مبدأ تقرير المصير، وليس صحيحاً ما قررته محكمة العدل الدولية في قراءتها للعلاقة بين المبدأين بأنه يجوز للأقاليم أن تنفصل عن الدولة انتصاراً لحق تقرير المصير، ولا أن تختبئ الدولة وراء مبدأ السلامة الإقليمية لتُلحق الظلم بسكان أقاليمها. - أن حبس الاعتراف العربي عن أول سابقة في التاريخ المعاصر لتقسيم دولة عربية اختبار مهم ومفصلي، وإدراك دقيق لعالم فرّط في وحدته الشاملة وركز على قطريته، فأصبحت قطريته نفسها عرضة للتهديد والزوال. - أن الجنوب أعلن هويته منذ زمن، وهو أنه سوف يعترف بالكيان الصهيوني ابتداء، كما أن «إسرائيل» وواشنطن هما أول من سارع إلى الاعتراف به؛ ليكون الوليد الجديد شوكة في جسد العالم العربي الذي بدأ يتهاوى في أركانه الأربعة. - أن الاعتراف بالجنوب سوف يُحدث انقساماً عربياً وأفريقياً يستفيد منه الكيان الصهيوني، ويُحدث مرارة لدى الخرطوم التي لا نظن أنها ستعترف في وقت قريب، لأن عملية انتزاع الجنوب قد تتبعها تداعيات خطيرة، خصوصاً وأن الخرطوم مهددة بانقسام آخر في دارفور ظهرت نُذره. خلاصة القول: إنني أدعو الدول العربية إلى تدارس قرارها بسرعة، فلم يبقَ على خيار الانفصال الرسمي إلا أسابيع، وأخشى أن يكون اتجاهها نحو الاعتراف بالانفصال أحد أهم أسباب تكريسه في الواقع الدولي؛ لتبدأ خطوات التجزئة الأخرى القادمة في بقية بنود المؤامرة.. فالمؤامرة ضد الجميع، وقد أُكل الثور الأبيض يوم أُكل الأَسْود!