على بعد 200 كلم شمال منطقة القصيم كان شباب "حائل" يخيمون في البرّ الممتد بين نفود حائل ، مستمتعين بطقس خلّفه المطر المصحوب بالبَرد . في هذا الموسم من نزول الأمطار الشتوية التي تسقي عطش الصحراء ، بينما تترك لهم تلال الرمال مسجاة صالحة لأغراض ممارسة رياضة "التطعيس" ، بسياراتهم الجيب والبيك آب الفارهة.و"التطعيس" في الثقافة الخليجية وخاصة السعودية هو ارتقاء الكثبان الرملية المرتفعة والتي تسمى باللهجة السعودية الدارجة "طعوس" ومفردها "طعس". رفع أحد الشباب بصره إلى السماء فوجد نسراً من نوع لم يألفه من قبل في الجزيرة العربية ، وهو العالم الخبير ببواطن أمور الصيد والقنص وفرائسه ، فأصرّ بعدها بمعاونة رفاقه على اصطياده . ففعلوا ووجدوا الطائر محمّلاً بأجهزة قرروا فيما بينهم بأنها أجهزة تجسس ، وقد زاد من تعميق هذا الاعتقاد في نفوسهم أنهم وجدوا رمزاً من أحرف وأرقام على إحدى رجليه وعلى الأخرى وجدوا مكتوباً "جامعة تل أبيب" . ومنذ تلك اللحظة التي تم فيها اصطياد النسر ، أصبح مادة حية لكمٍّ كبير من الحكايات الإلكترونية . كما أصبح مادة سياسية وأمنية في الوطن العربي وبخاصة في السعودية والسودان ، وتزاحمت المواد والمقالات وتجددت عن القضية الفلسطينية وقطاع غزة ومؤامرة التهويد والاستيطان. وفي حين أعلنت السعودية على لسان أمين الهيئة الوطنية للحياة الفطرية الأمير بندر بن سعود تبرئة النسر وأن ما وجد بقدميه هو عبارة عن جهاز مثبت يستخدم للتتبع عبر الأقمار الاصطناعية لمراقبة هجرة الطيور لأغراض الأبحاث والدراسات ، تصرّ العديد من الجهات على أنه أداة تجسس لا ينبغي تمرير حكايته بهذه السهولة. وكأني بهؤلاء المستمسكين بقصة وجدوا فيها ضالتهم ، لا يريدون الاقتناع بحقيقة أثبتها لهم المختصون في أمر الحياة الفطرية وفي بلد له نفس التجارب مع هذه الشاكلة من الطيور والتجارب البحثية التي تُجرى عليها .فكأن هذا الاستمساك إعادة لمرثية قديمة لشمس العرب الغاربة التي لم يُبلها الدهر عن المؤامرة الصهيونية التي لم تبدأ بوصول أسماك القرش المفترسة إلى سواحل شرم الشيخ كمؤامرة كبرى لتدمير السياحة المصرية في ذلك الجزء من سيناء، ولن تنتهي بنسر أصلع. أما السودان الذي قضى فيه النسر إجازة الشتاء كجزء من هجرته السنوية ، وأهل السودان مشغولون بما يحدث من انفصال وتقسيم على الأرض فلم يعيروا السماء نظرة ليروا الطائر يُحلّق فوق رؤوسهم ، إلا بعد أن صرّحت مجموعة إعلامية اسرائيلية بأن النسر الأصلع كان في السودان وأُمسك به في السعودية . وزادت المجموعة أنه ليس الطائر الأول الذي يُرسل ضمن مشروع تتبع الطيور لأهداف بحثية ، وإنما هناك سبعة طيور من فصيلة النسر الأصلع خضعت لذات التجربة خلال السنوات الماضية. ولكن حظ الطائر العاثر هذا جعله يقع في يد قنّاص "حائل" بينما فُقد الاتصال بالبقية. ولا يدري السودانيون بطبيعة الحال عن الطيور الأخرى شيئاً ، لأنهم مشغولون باستتباب الأمن على الأرض ، فهذه أيام يستتبع فيها دبيب النمل بينما لسماء السودان ربٌّ يحميها. والحمد لله على عدم الانتباه هذا لأنه لو حدث فستتحول عملية الاستفتاء التي ينتظر الجنوبيون نتيجتها لتقرير مصيرهم إلى مؤامرة أخرى فرضها الغرب ورعتها اسرائيل بجواسيسها من نسورها الصلع. الطائر التائه بين فيافي جزيرة العرب التي يغطيها البرَد في هذا الجزء من السنة ، والعائد من شتوية أفريقية دافئة نوعاً ما من السودان ، لا يدري أنه سيدخل موسوعة نظرية المؤامرة التي تمثل أقصر الطرق لإيجاد المبررات وإلقاء اللوم على الآخر المتربِّص خاصة لو كان هذا الآخر هو اسرائيل. فقد دخلت نظرية المؤامرة قاموس العرب قبل أن تدخل موسوعة أكسفورد عام 1997م بكثير. وها هي الآن المؤامرة بصفتها جزء من "أسرار الآلهة " على الطريقة الأفريقية تنضم إلى سلسلة المؤامرات التي تُحاك ضد السودان وأهله. عن صحيفة "الأحداث" moaney [[email protected]]