هنا في السودان- وكما أوردت الزميلة (التيّار) يوم الجمعة الماضية 14/ يناير وعلى صدر صفحتها الرابعة- لازالت حملات المحليات تطال الشباب العاطلين، الذين يعملون في مهن هامشية أو يفترشون الأرض ولا تلوح في الأفق بوادر حل لمشكلاتهم المستعصية، وكم من مرة استخرجت لهم المحلات تصاديق وقبل أن تكتمل فرحتهم بها تعود ذات المحليات وتصادر ممتلكاتهم لتسلمّهم للضياع ودائرة البحث عن موارد لاستئناف أعمالهم.... وأمس الأول- الأربعاء- حوالي الساعة الحادية عشرة ظهراً صباحاً داهمت عربة تتبع لمحلية جبل أولياء العاملين بسوق الكلاكلة شرق، وهرع أكثر من ستة أشخاص لجمع البضائع التي تخص المفترشين والمتمثلة في الخضروات.... ولم تسلم بضائع النساء أيضاً من فول وتسالي وحتى الكسرة.... بينما تصدت عربة الدوريات التي كانت تقبع شرق السوق لشاب في العشرينيات من العمر حاول المقاومة للدفاع عن أمواله وأخذها من دون وجه حق.... أما الكوارث الكبرى فإنّ أولئك المفترشين الضعفاء يدفعون بحسب تصريحاتهم ل (التيار) رسوماً مختلفة منها أرضية وكرت صحي ونفايات وتصديق من المحليات للعمل كمفترشين على الأرض)- انتهى بربكم أليس هذا المقطع يشبه سيناريو إقدام الشاب التونسي محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على منعه من بيع الخضروات وصفعه من قبل أحد موظفي البلدية، الشاب محمد مفجر ثورة تونس الخضراء والذي قلب رأس الطاولة على ديكتاتور تشبث ( وكنكش) في كرسي الحكم لأكثر من عشرين عاماً هو خريج جامعي عاطل عن العمل كبقية خريجينا المتفيئين ظلال أشجار أحيائنا وصوالين قرانا في سوداننا الحبيب.. إلا أنّ محمد بو عزيزي أعياه الانتظار في فضاء العطالة المحبط فسلك طريقاً آخر، اتتخذ لنفسه عملاً يسترزق به وهو عبارة عن (طبلية) صغيرة يبيع فيها الخضروات والفاكهة لكن ديكتاتورية المحليات والبلديات لم تصفعه على طبليته بل على خده إمعاناً منها في إذلاله كما يفعل بعضهم بباعة سوقنا المركزي وإشارات المرور و(فرندات السوق العربي)، السلطة لم تكتف بذلك بل صادرت (طبليته).. قاومهم فضربوه.. ذهب واشتكى للسلطة المحلية لم يسمعوا صوته.. لم يستطع التحمّل فاختار عدم التمسك بالحياة والشروع في الانتحار بإحراقه نفسه ليتحول إلى رماد يخرج منه طائر فينيق الشعب التونسي في مظاهرات باكية وغاضبة تذكر بمقولة ( جددناك يا أكتوبر في أبريل تلاحم جيش وشعب أصيل..). الرئيس الديكتاتور أحس بالخطر لذا أمر عسكره بضرب شعبه بالرصاص الحي فالغاية عنده تبرر الوسيلة إلا أنّ ثائرة الشعب لم تهدأ بعد فعمد إلى تقمص دور ( الراعي والرعية) وتفقده أحوال الشاب وهو طريح الفراش بالمستشفى، حاول الرئيس المخلوع التراجع عن قراراته بإلغاء زيادة الأسعار ( الثورة تراجِع – بكسر الميم- ولا تتراجع).. لكن المظاهرات استمرت، ثم أعلن بن علي فتح الباب واسعاً أمام الحريات التي صادرها تكميماً لأفواه شعبه الصابر، فتونس تعد ضمن أسوأ عشرة أنظمة في العالم قمعاً للإعلام، وعرف هذا البلد أول محاكمة في العالم لمستخدمي الإنترنت.. اتخذ بن علي لإنقاذ صولجانه عدة إجراءات على شاكلة إقالة وزير الداخلية والزج به في محرقة الغليان ككبش فداء وتحميله مسؤولية إطلاق النار على المتظاهرين.. وثالثة أثافيه إعلانه عدم ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة.. كل هذه الوعود التي منّى بها شعبه اعتبرها هذا الأخير من باب أماني أهل الكتاب ومواعيد عرقوب كانت لها الأباطيل، ولم يرجع بل استعرت الثورة وحمي وطيس التغيير.. وفي غمرة كل هذا الليل سرق الديكتاتور المخلوع بن علي طائرة وهرب، واستنجد بالمملكة العربية السعودية لتحميه وتعصمه من الطوفان.. الثورة في تونس لم تبدأها أحزاب المعارضة أو حزب النهضة الإسلامي بل خرجت من رحم معاناة الشعب وعبر أبسط فئاته المهمشة التي أخرجها الجوع.. ولو أنّ الراعي وولي أمرها أشبعها لأمنت السلطة على نفسها مكر الله، كيف لا وقد قرن القيوم سبحانه الجوع بالخوف في كتابه الكريم: ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).. الثورة بدأها أحد الباعة على قارعة الطريق حينما بدأت ذات الثورة متخذة شكل مظاهرات احتجاجية على الغلاء وارتفاع الأسعار.. ثورة أخافت كلا من الجزائر وليبيا والأردن وجعلت الحكام العرب يتحسسون قبعاتهم بحثاً عن الريشة.. ففي الأيام الماضية وخوفاً من تكرار سيناريو تونسوالجزائر ألغت ليبيا الرسوم الجمركية التي فرضتها على المواد الغذائية المستوردة، وبُرر القرار بالارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية في العالم، مقللاً من أهمية الدخل الذي توفره الرسوم الجمركية على المواد الغذائية لليبيا الدولة النفطية.. وفي الأردن سعت الحكومة لتفادي صراخ شعبها وخروجه للشارع باتخاذها خطوات جادة لمواجهة غلاء السلع فرصدت نحو مائتين وخمسة وعشرين مليون دولار لمواجهة الكارثة وخفضت من أسعار الوقود وفعلت دبلوماسيتها لجذب المزيد من المساعدات الأجنبية. وفي السودان قال الصادق المهدي إنّ ثورة الشعب التونسي نقطة تحوّل تاريخي يرجى أن تكتب براءة العروبة، ويرجى أن تواصل مشوارها حتى تقيم بديل يليق بكرامة الإنسان، والعدالة، والحرية محققة تطلعات الشعب التونسي ومانحة القدوة لكل شعوب المنطقة في إقامة حكومة راشدة"، و" كلنا في التحول الديمقراطي المأمول توانسة، ولأهل تونس تعظيم سلام"، معتبراً " استقتال بوعزيزي الذي أشعل في نفسه النار إشعال ناراً في جسم الطغيان وأشاع نوراً للحرية". وبرغم أنّ السودان شهد أيضاً ارتفاعاً في أسعار المحروقات والسلع الاستهلاكية حتى حدا الأمر بوزير بوزير المالية استصدار قرار يقضي بمنح العاملين بالدولة والقطاع الخاص مبلغ مائة جنيه لمواجهة الكارثة لاسيما وأنّ الزيادة المستفحلة في الأسعار ستلتقمها كلها وتفتح فمها ساخرة لتقول هل من مزيد.. فقد بلغ بالغلاء أن وصلت الزيادة في بعض السلع لأكثر من 80% وحكومتنا الكريمة تقبع في مكانها لا تحرك ساكناً فمستشار وزارة الإعلام د. ربيع عبد العاطي يصرح لبعض الصحف أنّ زيادات الأسعار في السودان تعد طفيفة عند مقارنتها بما يحدث في الدول الأخرى، وأنّ عهد الإنقاذ شهد نهضة وتنمية اقتصادية كبيرة.. إذا كان الأمر كذلك سيدي المستشار فأين انعكاس تلك التنمية على المواطن صحة وتعليماً ومعيشة لمدة عشرين عاماً مضت وتزيد.. والمؤتمر الوطني يتربع على سدة الحكم.. أين التنمية وذات سيناريو تونس يحدث يومياً هنا في السودان مع اختلاف المسرح والشخوص واتحاد الفعل.. لماذا لم تتخذ الحكومة ذات الخطوات التي اتخذتها الأردن بعدم مضايقة المواطن وسد عجز ميزانيتها من جيبه ودفعه دفعاً للخروج إلى الشارع.. هل ستنتظر الحكومة إقدام الشاب العشريني في سوق الكلاكلة على حرق نفسه ليلد رماد طائر الفينيق ثورة اسبارتاكوس والجوعى وملح الأرض.. أيفعلها الشعب السوداني كما فعلها التوانسة وفي بال كل مواطن منا أبيات نصر بن سيار: أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون له ضرام فإنّ النار بالعودين تذكى وإنّ الحرب مبدؤها كلام فإن لم يطفئها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام وقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظٌ أميّة أم نيام محمد الحضري [[email protected]]