في الستينات كنا نسكن في العباسية فوق, شمال ميدان الربيع , و على مرمى حجر من فريق عمايا , الذي يقطنه مجموعة ضخمة من المكفوفين . و كنا نسكن في منزلين احدهما منزل الاسرة . و الاخر ما عرف بمنزل الجنون . و منزل الجنون يسكنه مجموعة ضخمة من البشر , بعضهم ابناء اهلنا و معارفنا و الذين يدرسون في المدراس الثانوية . و البعض يعمل في مهن مختلفة و يمتون لنا بالقرابة او الصداقة . و يأتي البعض بأصدقائهم , في زيارات قد تقصر أو تطول . و كنا نتجمع في بعض الاحيان امام الدار, و البعض جلوسا او وقوفا , للمؤانسة أو التأهب للسهرة , أو للذهاب لسينما العرضة . التي كنا نذهب لها في المساء . و في الشتاء كنا نذهب و نحن نحمل المخدات و البطاطين . و كأننا ذاهبون الى الغرفة المجاورة . فمن يدير السينما هم من اصدقائنا و معارفنا. و تبدأ السينما باسطوانة فريد الاطرش منديل الحلو, ثم تقلب الاسطوانة و نسمع بالماكرفونات نورا يا نورا يا نور العين و نعرف أن المناظر ستبدأ فنهرع للسينما كي نشاهد الجريدة الاخبارية أو اي شئ أخر أو البرنامج القادم . و عندما بيكون فلمين في بروجرام واحد لا تكون هنالك مناظر. و نحن جلوس امام الدار, و هذا في الليل , أتى حسين باشا ماشيا بعد ان ابتاع بعض الأغراض من دكان اليماني علي بن علي الكبير في ناصية حي الامراء . و على بعد بضعة امتار من على الدار, اصظدم حسين باشا برجل ضخم. ثم واصل سيره و أنفجر المصدوم في ثورة عارمة قائلاً ( انت عميان ؟ ما بتشوف ! ) و عندما لم يرد حسين باشا لحقه الرجل و امسك به و بدأ بهزه . فأندفعنا نحوه , و بدأ على الرجل الاستغراب لغضبنا و تحفذنا . و قلنا له ( ياخ الزول دا عميان ما بشوف ) . و عندما استفسر عن سبب غضبنا الشديد , و تحرشنا به , وصلتنا بي حسين . قلنا له ياخي دا شغال معانا في البيت. فقال شغال معاكم شنو وهو عميان . فقلنا له ياخي شغال خدام . فهز الرجل رأسه غير مصدق, ثم واصل طريقه قائلاً ( والله ناس العباسية حاجة تحير, خدامكم عميان ) . قبل فترة من تلك الحادثة كانت والدتي في زيارة اسرة . و عرفت منهم ان خادمهم قد صار اعمى و انهم قد طلبوا منه الرحيل , و لكنه يتلكأ و يقول امشي وين . فأخذته والدتي لكي يسكن معنا . و كان هذا في سنة 1963. و صار احد سكان المنزل. إلا انه كان يصر على ان يعمل . و كان يتلقى مرتب خادم كامل . حسين كان نحيل الجسم و هو من الفرتيت و أتى من راجا . و الفرتيت هم اكثر قبيلة سودانية تعرضت للاسترقاق . حتى كادوا ان يفنوا . و حسين باشا تعرض لعمى الانهار و ما عرف بعمى الجور. و سببه ذبابة تنتشر في منطقة الزاندي بالأخص . و تضع بيضها في عيون الناس , و تتغذى تلك اليرقات من العين . و لهذا يكثر العمى في تلك المناطق. حسين باشا كان نشطاً لم يدع عماه يقف طريقا امامه . و بسرعة شديدة جدا , حفظ خرطة حوشين . و كان يندر ما يصطدم بأي شئ. بل كان يحتج قائلا( الكرسي دا محله البرندا الجابو هنا شنو ؟ الطربيزة دي الحركها منو ؟) . و كان يقرع الخدم الاخرين قائلاً( الواطه بقت نص النهار السراير دي ما دخلت جوه ليه ؟ ). و صار حسين باشا مكملاً لمنزلنا . و صار شخصية معروفة . خاصة بأنه كان يحب الثياب الجميلة و يصرف جل ماله على ثيابه. و يصر على تلميع الحذا قبل الخروج . و كان يحب الاستماع الى الموسيقى . و يحب الغناء و يحفظ كثير من الاغاني الشمالية. و كانت لغته العربية جيدة جدا . و يسأل عن ألوان الملابس قبل ان يرتديها . و أنا في اوربا اتاني خبر تعرض حسين باشا لحادث حركة . فلم يقًدر صاحب كارو مسرع أن الشخص صاحب الثياب الأنيقة أعمى و لا يستطيع ان يتحرك بسرعة فدهسته الجياد و عربة الكارو . و أصيب بعدة كسور . و كانت والدتي, و اختي نظيفة عندما يذهبون لزيارته في المستشفى مصحوبين بعواميد الغداء يبكون لالامه . و كانت أمي تغضب عندما يقول لها الناس البكاء شنو و الاهتمام, ما خدام و أعمى. و أذكر ان والدتي كانت تذهب لشراء الصحانه و الكبابي و عدة المنزل . و كان صاحب الدكان يعطيها تخفيضات معتبرة , لأنها زبونة قديمة . و توقف صاحب الدكان من اعطائها تخفيضات قائلا( ما بديك, انتي ما تاجرة زيي , انتي ما دلاليه ) و عندما نفت والدتي التهمة قال لها التاجر , ( في زول بشتري عدة قدر دا لو ما دلالية ) فقالت والدتي ( و الله انا عندي خدام اعمى . بعد ما يغسل العده و يرصها مرات بنسى و يقوم يلزها يدشدشها كلها ). فقال التاجر ساخراً ( كل شئ سمعناه , بس خدام اعمى أول مرة نسمع بيه ) . و لم يصدق التاجر إلا بعد ان شاهد حسين باشا شخصياً . حسين باشا ارتبط بأشقائنا الصغار بابكر بدري و اسعد و لمياء و الهام و مختار و كان جزء من زكرياتهم و طفولتهم . و ابناء اختي احمد و ابراهيم و علي و حنان و صفاء . وهم يسكنون في المنزل الملاصق لمنزلنا . بعد سنة من حضور حسين باشا لمنزلنا . أتى أتيم و هو من دينكا أعالي النيل , و يسكن بلدة أوتل , جنوب خور فلوس , عند التقاء السوباط بالنيل . و هو احد معارفنا . و شارك حسين باشا في السكن في الغرفة . و كانا يخرجان سوياً في بعض الاوقات . و أتيم طويل القامة و كان يعمل خادم لأسرة مسيحية في المسالمة , و كان كذلك أنيقاً نظيف الثياب و الجسم . و عندما يحضر في المساء كان يضع الكرسي في المسطبة . و يجلس معه حسين باشا . و أتيم كان قليل الكلام يجيد الاستماع و هذا ما يفرح حسين باشا. و كان حسين باشا يخدم أتيم . فأتيم كان صاحب منزل و صديق الأسرة . و عندما كانت الأسرة المسيحية تسأل أتيم عن مكان سكنه كان يقول لهم انه يسكن عند أهله . و في احد الايام و في المساء حضر شاب الى الاسرة بصحبة أتيم . و ربما ليتأكد من زعمه . و لاحظ أهتمام أهل البيت بأتيم و قام حسين باشا بأحضار ماء بارد للضيف و جلس معنا الضيف قليلاً ثم ذهب , و يبدو أنه كان يريد أن يجد اجابة على سؤال , و لكنه خرج بأسئلة أكثر. فعلاقة البشر في امدرمان القديمة كانت جميلة و محيرة في بعض الاحيان. عندما رجعت بعد فترة انقطاع عن السودان في سنة 1975 , بسبب زواج تؤام الروح احمد عبدالله ( بله) رحمة الله عليه . كان حسين باشا قد ترك المنزل. و بالسؤال قالو لي , ان حسين باشا قد اشتكى والدتي في المحكمة. و لقد قام بجرجرتها بالمحاكم . و أضاف البعض من أهل المنزل, و ما اكثرهم . أن حسين ظهر بأنه رجل ما عنده عشرة . بسؤال والدتي عرفت ان عندها رأي مغاير . و أن حسين باشا قد صار مغنى في الاذاعة فبعد اتفاقية السلام في 73 صارت الاذاعة السودانية تعطي فرص اكبر للجنوبين . و أن البعض قد اكتشف حسين باشا كمغني من راجا . و صار يجد بعض الاهتمام . و تبرع أحد المتشنجين بأخباره بأنه قد مضى عليه اكثر من 10 سنوات كعامل عند ناس بدري . و أن له الحق حسب قانون العمل بمكافأة . و طالبوه بأن يطالب بحقه . قفالت له والدتي أمشي شوف حقك كم و بنديك ليه . و لكن بعض سكان المنزل و خاصة من الرجال , و بعضهم لا دخل له في الأمر. اغلظوا لحسين باشا في الكلام و وصفوه بناكر الجميل و تحدثوا عن اصله و فصله . و يبدو انه عكس هذا الهجوم لمن حرضوه . فأخذوه الى مكتب العمل و سجلوا شكوى و قضية ضد المخدم , أمينة خليل اسماعيل . وصور الأمر على ان الأسرة الثرية قد هضمت حق الخدام العميان . و قامت والدتي بدفع المبلغ المقرر. وواصل حسين باشا حضوره للمنزل . لأن والدتي قد منعت أي انسان من التعرض له . بعد أيام من حضوري حضر حسين باشا مرتديا بنطلون اسود انيق و قميص أبيض مكوي سيف . و قال انه قد سمع بحضوري . و طالبني بأن احضر له جزمة من أوربا مافي زول عنده زيها و لازم لمن يلبسها تقول ظرر ظررر . و قمت بشراء جزمة جميلة من السويد و ارسلتها له . و لكن لم استطع أن اشرح للبأئعة في السويد انني اريد شراء جزمة تظرظر و لا أعرف اذا كان حسين باشا قد اقتنع بالجزمة او اذا كانت تزرزر أو لا . فلقد انقطعت اخباره . و لكن أهل المنزل يذكرونه دائما خاصة اخي بابكر بدري ( العميد ) الذي معي في السويد . فقد ارتبطت طفولته بحسين باشا. في الثمانينات , بدأت في تحريك بعض الاشياء في الصالون التي تعيق السير . و بعد يومين حذرني شقيقي ايمان بدري قائلاً ( شوف انت ضيف , عشان كدا امك ما اتكلمت معاك , لكن في البيت دا تقعد ساكت . البختو ليك قدامك تاكله , الملايه البفرشوها ليك تنوم فيها , ما تحرك أي حاجة من محلها , و لا بدوك الكرت الأحمر . أمك دي من ايام حسين باشا مانعا اي حاجة تتحرك من محلها ) . رحم الله حسين باشا حياً أو ميتاً . لقد كان جزءاً من حياتنا و لقد اعطاني احساسا بالقوة . و كان عنيداً و لم يترك عماه يطغى عليه . و عندما بدينا في حفر السايفون و مد المواسير في السبعينات كان هنالك ما يقل عن حوالي اربعين سنتميتر من الحائط و حفرة حوض التحليل الذي كان تحت التشييد . و كان حسين باشا يعبر ذلك الشريط الضيق عشرات المرات في اليوم بسرعة , و كأنه يرى كل شئ . كما كان يحب أن يستمع الى الراديو و الأخبار و يشارك في النقاش . و كان ملماً بكثير من الاشياء التي تحدث في امدرمان و العالم الخارجي .