تقديم: في هذه الترجمة لمقال البريطاني المتقاعد روبن هودجكن نجد شذرات من تاريخ "مكتب النشر"، وعن من عملوا به من البريطانيين والسودانيين. ويخص الكاتب هنا المرحوم جمال محمد أحمد بالثناء على بعض ملامح شخصيته الفريدة. لا شك أن "مكتب النشر" وكذلك"بخت الرضا" جديران بالاهتمام والبحث والكتابة الموثقة من محبيهما، وأيضا من مبغضيهما ، الذين لا يرون فيهما (وفي غيرهما من مؤسسات الأربعينات والخمسينات) غير مؤسسات أنشأها المستعمر البريطاني خدمة لأهدافه الظاهرة والباطنة، وليس لخدمة السودان وأهله. نشرت هذه المقالة في العدد الثاني من مجلة "دراسات السودان" التي كانت تصدر في بريطانيا، بتاريخ يونيو 1987م. ---------------------------------------------------------------------------------------- لا شك أن فكرة إنشاء "مكتب النشر" هي إحدى بنات أفكار جي. إل. قريفث، ولا شك أيضا أن من دعما تلك الفكرة الألمعية هما عبد الرحمن على طه وكثبرت اسكوت. كان من الطبيعي وبعد عملهم على كتاب للأطفال عامر بالحياة والخيال اسموه "كتاب الأطفال"، أن يسعوا إلي سد الحاجة الماسة لتكملة مشوار الكتابة والنشر الخاص بالأطفال. تبلورت الفكرة في عام 1946م، حيث انتدب عوض ساتي من مدرسة وادي سيدنا، وشجعت أنا على أن أترك المدرسة العليا (نواة الجامعة) للانضمام لمجموعة "بخت الرضا"، ذلك المعهد الرئيس لتدريس وتدريب المدرسين القريب من مدينة الدويم. عملنا معا كمجموعة سعيدة متجانسة من رؤساء الأقسام في "بخت الرضا"، وانضم إلينا في نهاية العام بشير محمد سعيد، حاملا معه خبرة صحفية قيمة. في أثناء وجودي في إنجلترا تعاقدت مع محرر فني ورسام اسمه آلان آشتون. اجتمع شملنا جميعا في ديسمبر في "بخت الرضا" للتخطيط لإصدار مجلة "الصبيان"، التي كان من المقرر أن تصدر كمجلة نصف شهرية مخصصة للأطفال السودانيين من هم في مراحل الدراسة. تلقينا العون من كثير من الناس فى خارج دائرة عملنا...اخص بالذكر منهم هنا إليزابيث، زوجتي فيما بعد، ومكي عباس والطيب إدريس، والذين كانوا في قرية "أم جر" المجاورة. وقعت لنا بعد ذلك حادثة أليمة، إذ مات غرقا في حوض السباحة فناننا ألن آشتون، وظهرت الحاجة الملحة لشخص يقوم بعمل رسومات المجلة. من حسن الحظ أن كان الفنان جان بيريه جرين لو موجودا، فقام بتصميم غلاف أول عدد من مجلة "الصبيان" على نفس النمط الذي كانت تصمم عليه المجلة الإنجليزية الشهيرة "بنشPunch". كان هنالك أيضا فنانان من شباب السودان الرائعين (رغم قلة خبرتهما) هما اسماعيل محمد الأمين وسر الختم عبد الكريم. كانا طموحين ويسعيان دوما لتطوير مهاراتهما، وظلا لسنوات من أعمدة مكتب النشر. قضينا نحوا من شهر كامل ونحن نسعى لإخراج العدد الأول من المجلة، وتبين لنا أن عملنا في مقرنا في "بخت الرضا" (التي تبعد مسافة لا تقل عن 225 كيلومتر عن الخرطوم) عسير وغير مجدي. بحثنا عن مقر جديد لدار النشر في الخرطوم، والتي فكرنا في أنها مركز ممتاز نستطيع منه التنقل بيسر لمناطق أخرى في السودان. بعد عام من ذلك التاريخ أتانا أول مصمم ورسام من ذوي الخبرة وهو هيثر كورلاس. كان الرجل يعمل في إحدى دور النشر البريطانية، وغدا في وقت قصير أحد أهم أركان المجلة. في نهاية عام 1946م سعدنا بانضمام جمال محمد أحمد لمجموعتنا الصغيرة، وكان قد عاد لتوه من عام دراسي كامل في جامعة إكستر (الصحيح أنه درس في تلك الجامعة لثلاثة أعوام من 1943م – 1946م ). مثل وجوده بيننا قوة اضافية. كان تقدميا في نظرته للأمور، معروفا بين الناس كأديب مثقف، وصاحب روح طفولية خفيفة الظل. كان بتلك الروح المرحة يكمل روح عوض ساتي بنظرته العلمية الجادة للأمور، والتى كانت ضرورية لكسب الاحترام الواجب في العمل. زامل جمالا في ذلك العام الذي قضاه في إكستر سر الختم الخليفة، والذي عاد للعمل في "برامج تعليم الكبار" التي كانت تنشط بصورة غالبة في الجزيرة، ولحق بهما هنالك محمد عمر بشير. عندما كنا نحضر لإصدار العدد الثالث من "الصبيان" كان مقرنا في متجر /مكتب صغير في عمارة أبو العلا (القديمة. المترجم) على بعد ياردات قليلة من مطبعة ماك كوركوديلز Mc Corquodales وهي المطبعة التي تولت أمر طباعة مجلتنا. كانت مهمتنا الأساسية هي تحضير مواد "الصبيان" وطباعتها وتنسيق عمل شبكة لتوزيعها على المدارس الأولية. عندما أصدرنا العدد الرابع من المجلة كنا نوزع أعدادا كبيرة، فالنسخة الواحدة كانت تباع بقرشين فقط، وبلغت مبيعاتنا 15000 (لم يذكر المؤلف فئة العملة، والرجح أنها 15000 قرشا، أي 150 جنيها، وهو مبلغ كبير بمعايير تلك الأيام. المترجم)، وكان هذا الرقم يماثل ضعفي مبيعات أي مجلة أو صحيفة (سودانية) كانت تصدر آنذاك. كانت مجلتنا بالطبع مدعومة بشدة، ولا تحتوي على أي مادة إعلانية، وكنا نجابه في بعض الأوقات شحا في ورق الطباعة، وصعوبات متنوعة في التوزيع. رغم كل ذلك فقد كان حماس "الأطفال" (من عمر 7 إلى 70) لقراءة، بل لالتهام "الصبيان" في القرى والمدارس يفوق الوصف. كانت أكثر الصفحات شعبية بين القراء هي الصفحة الأخيرة، حيث يجد القارئ قصص الجدة التقليدية (الأحاجي) ( لعل الكاتب قد قصد "عمك تنقو" وحرمه "العازة"). لعله من المفيد أن نسرد طرفا من الأعمال الأخرى التي كنا نؤديها خلال تلك السنوات الباكرة، إذ أن "الصبيان" كانت تستأثر فقط بنحو نصف وقت عملنا. أصدرنا عددا من الكتيبات الممتازة لتعليم الكبار حررها سر الختم الخليفة، وقام "مكتب النشر" بإصدار خمسة من تلك الكتيبات. بيد أنه ومن خلال تلك الكتيبات ظهرت قصة فشل ذريع لأول مرة في أعمال "مكتب النشر"، ألا وهي مجلة مخصصة للكبار اسمها "النور" تم نشر ثلاثة أعداد فقط منها. كان مرد ذلك الفشل هو طموحنا الزائد عن الحد، إذ أنه لم يقم على تحرير ونشر وتوزيع تلك المجلة غير ثلاثة أشخاص فقط. قام "مكتب النشر" أيضا بطباعة ونشر فيض متدفق من كتب ونشرات "بخت الرضا". كنا نقوم أيضا بتقدير تكلفة إنتاج تلك الكتب، ونستشار أيضا في اختيارها والتحضير لنشرها وتوزيعها. بدأنا في أواخر عام 1947م في تحضير وتمحيص مواد لمحو الأمية، فأصدرنا كتابين هما "المستاح" و"الباب المعرفة" (لعل المقصود هو "مفتاح المعرفة" و"باب المعرفة". المترجم). أصاب هذان الكتابان الممتازان نجاحا منقطع النظير. قام بتصميم الكتابين آدم عيسى، واستعان بمصلحة المساحة من أجل إصدارهما بالألوان. بيد أن طموحنا الزائد – فيما يبدو- كان قد قادنا للاستهانة ببعض المصاعب والعوائق التي لم تخطر لنا على بال فلم نحسب لها حسابا. بعد انصرام أربعة عقود على تلك الأيام فإني أشك كثيرا الآن في أن أي حملات لمحو الأمية لم تكن لتصيب النجاح لو لم يقف خلفها ويدعمها ويدفعها دافع ايديلوجي /ديني قوي، أو أن تستخدم طاقات مجموعات منظمة كالطلاب والجيش و"متطوعين" يقنعون برواتب ضئيلة. لعل هذا ما يفسر نجاح حملات محو الأمية في الدول ذات النظم الشمولية مقارنة بغيرها. لاريب أن القرن الماضي للإمبريالية كان مواتيا وملائما لأدب الأطفال الشعبي، بيد أنه لم يكن كذلك – للأسف- عندما يتعلق الأمر بالحملات الحكومية لمحو الأمية (وتعليم الشعب على وجه العموم). لعل أكثر ما ميز سنواتنا الباكرة تلك هي أنها كانت عامرة بالتجريب والتعلم المستمر لنا جميعا. منحتنا الحكومة فرصة أن نخوض التجارب، وأن نخاطر في بعض الأعمال، وقبلت عملنا سواء أن أصاب النجاح أو الفشل. كانت النتيجة الطبيعية لتك الحرية هو أننا كلنا كنا نعمل بجد واجتهاد، ونستمتع نحن أنفسنا في ذات الوقت بما نعمل. في هذه النقطة بالذات ينبغي أن نذكر جمالا. كنا إذا نجحنا في عمل ما فإن جمالاً كان أكثرنا طربا لذلك، ويقيم لنا حفلا ضخما...بيد أنه إن حدث العكس، فإننا كنا نعد ذلك من باب "التجارب واكتساب الخبرات" ليس إلا، فيقيم لنا حفلا صغيرا! كيف تأتى لجمال محمد أحمد أن ينجح ككاتب للأطفال لا يشق له غبار، ودبلوماسي ناجح، ومستشار حكيم لعدد من رجال الدولة من الإنجليز والسودانيين؟ لقد كان رجلا أنيسا ودودا لكل من صحبه، وراوي قصص عظيم الموهبة. كان يروي القصص الممتعة والحكايات المشوقة وهو يقلد من يحكي عنهم بحركات تمثيلية تكشف عن سخافاتهم وتهافتهم، وتثير عند مستمعيه ومشاهديه الضحك والسرور والتأمل أيضا. كان لجمال أيضا ميزة عظيمة أخرى ألا وهي قدرته الفائقة على الإحساس بالمتعة عندما يسعد الأطفال. ربما كانت تلك الصفات والمشاعر مخبوءة دوما في دواخل الرجل، بيد أني أزعم أن تلك الصفات والمشاعر نضجت تماما في سنواته في إنجلترا، خاصة وهو يدرس على يدي البروفيسور السيدة/ تبل في جامعة إكستر. عندما نضيف لكل ما ذكرنا عن جمال محمد أحمد ذهنه الوقاد، وذكاءه الحاد، وقراءته الموسوعية، يسهل علينا فهم شخصيته المتميزة بالمرح، وبحب الناس واكتساب ودهم. كان الرجل يحظى بحب وثقة عدد لا حصر له من أصدقائه من السودانيين والبريطانيين. كان وده صادقا، ليس بسطحي ولا شكلي، وكان يرحب دوما بالمصاعب، بل ويستمتع بها وبمعالجة حلها مع الآخرين، وكان يتفق مع الآخرين على الاختلاف معه "بدون زعل"! فوق كل هذا وذاك، كان سفيرا ممتازا عند زياراته لأرض طفولته، وأيضا عند زياراته لبلاد أكثر بعدا. ألا رحم الله جمالا مع الأمنيات الطيبة لعائلته وأصدقائه. نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]