[email protected] ليس ثمة مؤسسة إعلامية تستطيع أن تمارس العمل الإعلامي بحياد كامل حتى يرضى عنها خلق الله أجمعين، لأن أمر التقييم هو حق مكفول للمتابعين كل حسب تقديره ورؤاه وثقافته وهو حق خاص يعبر عن نبض المتلقي من القراء والمستمعين، وهو بذلك ليس حقاً مملوكاً لأصحاب النفوذ في المؤسسات الإعلامية من محررين وراسمي السياسات التحريرية مهما عظم شأنهم وتوسعت قدراتهم. نُعتت وسائل الإعلام عموماً والصحافة بشكل خاص بلقب السلطة الرابعة لما لها من تأثير في حياة الناس والمساهمة في إيجاد الحلول والاقتراحات لمشكلاتهم وقضاياهم، وللصحافة دور أكثر فعالية وتأثيراً مما تقوم به السلطات الدستورية الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وهي مهنة يجب أن تكون بعيدة عن العاطفة والتحيز والتعصب والإفك وأن تكون منصفة وعادلة وأمينة في نقل الأخبار حتى لأصحاب الآراء المعارضة، لذا فإن شعارها يجب أن ينبني أساساً على تنوير الناس وإحاطتهم بما يدور من أحداث بعيداً عن التضليل. السلطة الرابعة قال عنها توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة (1801-1809م): "أنها خير أداة لتنوير عقل الإنسان، ولتقديمه ككائن عاقل أخلاقي واجتماعي". وهي بذلك أداة للتوعية والإرشاد ولكنها قد تنقلب الى وسيلة لتضليل الشعوب إذا استعملت أداة للدعاية وتصفية الخصوم، وذلك بالضرورة سيكون خصماً على رصيد الجهة التي مارست التضليل. إعمالاً بالمقولة (إذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده)، وهذا ما حدث تماماً خلال الأيام الماضية لبعض القنوات الفضائية من خلال تغطيتها لأحداث مصر، لا يسعنا ونحن نتحدث عن تطرف بعض المؤسسات في تغطيتها لثورة الشباب المصري أن نغفل حقيقة جبروت النظام المصري وطغيانه، لاسيما وأنني أختلف مع سياساته في الداخل المصري والمحيط العربي والدولي. لقد كانت لنا تجارب سابقة أملت علينا عدم زيارة الكثير من الأهل والأصدقاء في مصر خشية الاحتكاك على خلفية بعض الآراء التي عبرنا عنها صراحة في السنوات الماضية من خلال بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية. إلا أنني أعتقد أن التغطية الإعلامية التي صاحبت تظاهرات الشباب المصري التي أسقطت نظام الرئيس حسني مبارك ألقت بظلالها على مصداقية بعض وسائل الإعلام العربية (المرئية) في تعاطيها من مبدأ الحياد المهني، أكرر الحياد "المهني" لهذه المؤسسات وهي تستخدم قدراتها المالية الضخمة من إيرادات النفط والغاز لخدمة مصالح ملاكها، الذين يروجون لوجهات نظر سياسية بعيدة عن مباديء المهنية، لا سيما وأن هذه الدول تنفق المليارات في سياق محاولتها تبوؤ مواقع ريادية عبر بوابات ومنافذ إعلامية عوضاً عن صغر حجمها الجغرافي والديمغرافي وضعف نفوذها السياسي وقدراتها العسكرية المبنية أصلاً على التواجد الأمريكي والغربي وقدراته التقنية في منطقة الخليج العربي. في المقابل هناك مؤسسات إعلامية أرست قواعد في المهنية والحياد، وكان من طليعة تلك المؤسسات هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) القسم العربي بأقسامه الثلاثة التلفزيون، الإذاعة والإنترنت، حيث قدمت (بي بي سي) إضاءات تعكس قيمة تجربتها العريقة الممتدة لأكثر من سبعة عقود، والتي كان عنوانها التمييز والتفرد والشفافية التي جسدت واقعاً إعلامياً أتاح الفرصة لمؤسسات حديثة التجربة الاستفادة من هذه العراقة التي أسست لشهرتها وسمعتها على أساس الالتزام بقيم الحياد، والدقة والنزاهة. لقد استحقت (بي بي سي) التقدير لفوزها بجائزة ترضية المتلقي العربي من خلال مصداقيتها في نقل الخبر النزيه، بينما عملت محطات أخرى علناً على إثارة البلبلة بين الأشقاء المصريين للحد الذي أزهقت معه آرواح العشرات من الأبرياء بفعل الإثارة والمعلومات الخاطئة والشحن الزائد. مصداقية النقل الخبري نأخذ لها على سبيل المثال نماذج للتغطية الإعلامية مقارنة بين طريقة عمل بعض المؤسسات المملوكة لبعض الأنظمة العربية وهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) والخيار متروك لأصحاب العقول للتمييز. فقد نقلت (بي بي سي) أن عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية دخل ميدان التحرير مطالباً المتظاهرين بالتهدئة فيما عرف ب(جمعة الرحيل)، بينما ذكرت مؤسسة إعلامية عربية تدعي الريادة أن موسى يشارك في تظاهرات ميدان التحرير. وفي خبر آخر أفادت (بي بي سي) أن مئات آلاف المتظاهرين تجمعوا في ميدان التحرير في جمعة الرحيل، في وقت ذكرت فيه ذات المؤسسة العربية أن ملايين المتظاهرين جاءوا لميدان التحرير في (جمعة الرحيل) وأضافت أن الأسبوع القادم سيكون (أسبوعاً للصمود). مهما يكن من أمر فإن من حق أي متلقي وقارئ أن يطرح سؤالاً مشروعاً عن الإعلام الموجه الذي من شأنه تهديد الأمن القومي للدول وتقويض الاستقرار وإثارة الفتن فيها، بينما يغض ذات الإعلام الطرف عن مشاكل أكثر تجذراً في الدول التي يبث منها، والتي ليس أقلاها القواعد العسكرية التي ضربت منها بعض البلاد العربية وعلى رأسها العراق، ووجود مكاتب لخدمة العلاقات التجارية بين هذه الدول ودولة إسرائيل وأكثر من ذلك سطوة حكامها وسيطرتهم على موارد شعوبهم. هذه الوسائل اختارت إثارة البلبلة وإلهاب مشاعر الغبن والفتنة في دول بعيدة وتجاهلت عمداً مشكلات أكبر داخل جغرافيا الوطن الذي تعمل منه. الاتحاد الدولي للصحافيين تبنّى مبادرة الصحافة الأخلاقية خلال المؤتمر العام للاتحاد في موسكو عام 2007م والتي استهدفت سبل الترويج للقيم الأخلاقية في العمل الصحافي والإعلامي وتقويتها وتعزيز الالتزام بمعاييرها ونشر الوعي المهني، ونقل الحقيقة مع التحرّي من المعلومة، ودعم الاستقلاليّة والنزاهة ومبادئ الإنسانيّة؟!. إن المصداقية الإعلامية تعد من أهم ما تملكه المؤسسات المتخصصة من رصيد، والدقة في نقل الأخبار هي أفضل وسيلة للحفاظ على سيرة هذه المؤسسات، ولعل ذلك مدعاة للتذكير بمقولة أدولف أوخس ناشر جريدة "نيويورك تايمز"عن الصحافة: (الصحافة مهنة لا تستميلها الصداقات، ولا يُرْهِبها الأعداء، وهي لا تطلب معروفاً، ولا تقبل امتناناً، إنها مهنة تقضي على العاطفة والتحيز والتعصب الى أبعد الحدود، مهنة مكرسة للصالح العام، ولفضح الألاعيب والشرور وعدم الكفاءة في الشؤون العامة، مهنة لا تؤثر الروح الحزبية الضيقة على ممارستها، بل تكون عادلة ومنصفة لأصحاب الآراء المعارضة، مهنة شعارها المرشد هو "ليكن هناك نور"). إذن، أين المصداقية الإعلامية من كل الذي أوردناه من تناقضات في أزمة مصر؟!، وهو في واقع الأمر سؤال أفضل من يجيب عنه هو نبض المتلقي في الشارع العربي، كل حسب تقديره!، ولكن "فليكن هناك نور". * صحافي مقيم في بريطانيا نقلاً عن صحيفة الأحداث السودانية - الجمعة 18 فبراير 2011