كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    شاهد بالفيديو.. البرهان يصل من تركيا ويتلقى التعازي في وفاة ابنه    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنت سوداني وسوداني أنا "رسالة إلى حفيد التهامي" .. بقلم: معتصم كدكي
نشر في سودانيل يوم 19 - 02 - 2011


"إننا قوم منقطع بنا فحدثنا أحاديث نتجمل بها "
الطيب صالح


العزيز أحمد
أنا مدين لك بكثير من الود والمحبة..مدين لك بأجمل الأيام التي اخترقت جدار العمر عبر بوابة الأحزان..

العزيز أحمد
أتذكر انك كنت دائما بجانبي في أقسي سنوات العمر..تحملتني بكل ود ومحبة ونقاء وطهارة إنسان كردفان. كنت مثلا حميداً علي أن السودان بلداً واسع الأركان ومتعدد المناخات والأوطان والسحن والألوان لكن هنالك شئ واحد يميز كل ذلك ألا وهو "صفاء الإنسان". تلك أشياء لا نعرف قيمتها إلا بعد أن نتشتت في المنافي ونتبعثر في غياهب الشعوب الأخرى ونحاول أن نتحسس الإنسان في تلك الأماكن، عندها ندرك أن الإنسان لدينا لا يخترقه الصدأ ونادر الوجود في شعوب الأرض الأخرى. ففي دنيا يتحكم فيها الدولار والكمبيوتر ووصلة الهاتف نجد أن الأرض تحولت إلى ما يشبه النسخ المتشابهة في سعي الإنسان نحو النموذج الاستهلاكي اللاهث نحو الامتلاك والاستمتاع دون النفاذ إلى ما وراء ذلك الجدار القصير.

العزيز أحمد
تلك الشعوب عندما نلمس قلوبها نجدها قد تحجرت وعندما نسعى لدفئها نجد أن برودتها أقسي من "السكا"، وعندما نبرهم بشئ من دفئنا نجد أن عيونهم تجحظ وأفئدتهم تضطرب وكيانهم يتزلزل ويتسألون من "أين أتي هؤلاء؟"، لا كما تسأل صاحب السؤال ولكنهم يرنون بالدهشة تجاه الضفة الأخرى للسؤال.

العزيز أحمد
زملائي من شمال الوادي كما قابلتهم لأول مرة قالوا لي نحن "نحبكم" - رغم أننا لا نقول لهم شيئا من هذا القبيل - ثم يردفون "أنتم قوم علي الفطرة". هذا التعبير استعصي علي أول الأمر لكنني أدركت بعدها أنهم يعنون أننا كأننا ولدنا تواً، ما زلنا نحتفظ بكل بهاء الميلاد الأول ولم نتلوث بأدران الفانية وروثها.

العزيز أحمد
أنا غريب هنا وسط أقوام تصيبهم الحيرة إلى أي الأصناف من الأمواج البشرية يمكن أن نضاف. فالمكانة واللغة والثقافة تفرض شيئاً ولكن هنالك شيئاً ما غائب ومحير. وعندما لمحت شيئاً ما بين عيني مُضيفي قلت له :" عندما تنظر إلى تجدني وقد شوتني الشموس ، أتكلم بنفس اللغة لكن إيقاعي سريع، نفسي حار، وأفكاري تتقافز إلى مكان بعيد، أدري أنك تصاب بالإرتباك وتتساءل لماذا أنا لا من هذا ولا من ذاك. هذا لأنني أجمع بين ذاك وهذا. أنت عندما تراني تري هذا ولكن لكنك لا تري ذلك النيل الذي يتراقص في داخلي والأمطار الدائمة الانهمار والسهول التي تبتلع النظر، لا يمكنك أن تري تلك الجبال الشامخة وتلك الرمال اللامعة، ليس بإمكانك أن تشتم عبق تلك الغابات المضمخة بعبير الأمطار ورائحة ذاك الثري المبلل بعبق الأزمان السحيقة. ليس بإمكانك أن تسمع تلك الأصوات القادمة من زمن ما ، والأنفاس اللافحة لشئ ما وأن تري تلك الجذور الضاربة في ارض ما".

العزيز أحمد
أنني أتذكر أن في تلك اللحظة التي كانت أم عبد الله الأحمر في الأندلس تعيره بضياع ملك شيده الرجال وهو يبكي عليه كالنساء وأن في العام الذي وصل فية "كولومبوس" إلى ارض الأحلام (بلاد العم سام) كانت هنالك عملية حيثية تجري بين ضفتي النهرين في بلادي انتهت بإعلان ميلاد واحدة من أوائل الدول التي حملت النور في أحشاء القارة السمراء. لم يأتي غازي ولا فاتح ولم يكن هنالك قتال. ليس سوي أن شدوا علينا فأثخناهم بالنبال وانتهي الأمر. امتزجت ألوان وامتزجت اللغات والعادات والأديان. وظل الناس يتوافدون من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا دون حرج ولا عصبية. لم ننشد لهم "أمريكا..روسيا قد دنا عذابها" ولا " يا نفسي مالى أراك تكرهين الجنة" ولا وعدنا شبابنا بالحور العين مقابل أن نستأصل شأفة هؤلاء الذين يقع في خاطرنا أنهم من عبده الشيطان.

العزيز أحمد
نحن من هؤلاء وإلى هؤلاء وعندما تملأ تلك الوجوه الملونة عيني أحس بالراحة والاطمئنان.أتذكر أن السيدة "هاجر" زوج سيدنا إبراهيم علية السلام وأم سيدنا إسماعيل جد العرب كانت من بلاد النوبة وأتذكر أن "كوش" كانت حاضرة في ثنايا التوراة. وفوق كل هذا أتذكر أن النبي (ص) في رحلة الإسراء والمعراج رأي أربعة أنهار في الجنة : نهران ظاهران ونهران باطنان والظاهران ذكر بعض العلماء أنهم النيل والفرات وقيل أن معني هذا أن رسالة الإسلام ستتوطن في الأودية الخصبة وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا بعد جيل. وعندما أقرأ أن ابن كثير في تفسير سورة الواقعة نقل عن الرسول (ص) انه قال: "ألا وإن من آدم إليَّ ثلة وأنا وأمتي ثلة ولن تكتمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له". وعندما يخطر ببالى كل ما قيل يدخلني الإحساس بأننا من هؤلاء لم يفسدنا بعد شح الزاد كما غيرنا ولا أبطرنا توفر النعمة بعد الجدب والمحل.

العزيز أحمد
إنني افخر دائما بإنسان بلادي وسط تلك الشعوب ويطربني ذلك الإطراء الذي يدق طبول اذني ويزداد فخري ليس لذلك الإطراء فحسب، بل لان ذلك الإطراء ليس لأننا لدينا ذهب المعز أو سيف الوليد، بل لان لدينا شيئا آخر لا تستطيع شعوب الأرض الأخرى شراؤه بالمال أو اقتناؤه بسلاحهم ألا وهو "صفاء الإنسان" و"قوة الإيمان". العزيز أحمد قرأت ذات مرة مقالة ل"خافيير سولانا" مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي يعدد فيها ثروات السودان العديدة والعظيمة ويختمها بان أهم ثروة لدينا هي "الإنسان". وقيل أن العديد من المستعمرين والذين صحبوا المستعمرين والذين عاشوا فترة من الزمن في السودان وعاشوا بين أهله تعذر عليهم العيش وسط شعوبهم بعد أن عادوا إلى بلدانهم. أنظر إلى تلك الأسماء والألوان والإيقاع تجد أن هؤلاء تركوا ورائهم حياة عظيمة لينمو غرسهم في أرض أعظم. وهنا استحضر أنه قيل أن "جميس روبرتسون" آخر سكرتير إداري في السودان سئل عن أي الشعوب التي خدم فيها أصعب علي الحكم فقال في غير تردد:

"الشعب السوداني. فهم مهذبون وذو طبيعة طيعة وفخورون ولكنك لا تستطيع التكهن بما سيفعلون. هنالك شئ واحد مؤكد هو انه حتى العامل الذي يخدمك بأدب وانصياع يكاد يجعلك تشعر بأنه أفضل منك لأنه في نهاية المطاف سيدخل الجنة في الوقت الذي ستذهب فيه أنت إلى النار".

العزيز أحمد
قرأت ذات مرة لأديبنا الشامخ "الطيب صالح" انه قال أن أحب أعماله لديه هي "بندر شاه" فأصابتني الدهشة. فقد كنت قد قرأت كل أعماله منذ سن باكرة ما عدا "بندر شاه". لكنني ما قرأتها إلا وتحسست صدق مقالته وعمق وده ودفئه وحسن تقديره لذلك الإنسان. في تلك الرواية جاء "ضوء البيت" من عمق النهر جريحاً غريب السحنة واللغة والديانة فانتشلوه وصنعوا له حياة جديدة بعد شفائه، منحوه اسماً وداراً وأرضاً وديناً. وفي خطبة تنوير "ضوء البيت" بشروط الإقامة وسط أهل تلك البلاد قبل إعتماده رسميا – كما هو قسم الولاء عند منح الجنسية عند الاوروبيين - خطب الشيخ "محمود" مبينا حال وجوهر الإنسان الذي سينتمي إلىه ضوء البيت فقال :

" يا عبد الله.نحن كما تري نعيش تحت ستر المهيمن الديان. حياتنا كد وشظف لكن قلوبنا عامرة بالرضي وقابلين بقسمتنا ال قسمها الله لنا. نصلي فروضنا ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزِمين علي نوايب الزمان و صروف القدر. الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد. القليل ال عندنا عملنا بسواعدنا ما تعدينا علي حقوق إنسان ولا أكلنا ربا ولا سحت. ناس سلام وقت السلام وناس غضب وقت الغضب. ال ما يعرفنا يظن اننا ضعاف اذا نفخنا الهوا يرمينا، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول. وأنت يا عبد الله جيتنا من حيث لا ندري، كقضاء الله وقدره، ألقاك الموج علي أبوابنا، ما نعلم أنت مين وقاصد وين، طالب خير او طالب شر. مهما كان نحن قبلناك بين ظهرانينا زي ما نقبل الحر والبرد والموت والحياة. تقيم معنا لك مالنا وعليك ما علينا. إذا كنت خير تجد عندنا كل خير واذا كنت كنت شر فالله حسبنا ونعم الوكيل."

قبل "ضو البيت" شروط الإقامة وكان حسن السيرة ولكنه طمع في مزيد من الحب والكرم فأراد ان يكمل نصف دينه كما يقول دينه الجديد. وأنت تعرف سكان تلك الأماكن قد يسقونك دماً من أوردتهم ويقتطعون لك قطعة من قلوبهم ولكنهم لا يزوجون نسائهم للغريب كما في كل بقاع الأرض. وفي ذلك الموقف العصيب عاد الشيخ "محمود" بالقوم من سماوات الدنيا الفانية إلى عتبات الدين الحنيف فخطب في القوم قائلا:

" نحن لما آخينا "ضوء البيت" هنا في هذا المكان، وقلنا له ليك ما لنا وعليك ما علينا، كنا نتكلم كلام رجال مو كلام وليدات، كلام جد ماهو هزار، الخوه واحدة مو اتنين والدين واحد مو اتنين. لا يوجد دين للحياة ودين للموت، وصداقة في الشغل وفي الزواج لا. ضوء البيت اصبح زينا ومتلنا علي الخير والشر، في الحارة والباردة، ومادام طلب مصاهرتنا علي سنة الله ورسوله فاهلا وسهلا بيه ومرحبا به مرحبتين"

ما كان من القوم بعد إلا أن أفاقوا من غيبوبة الدنيا وفاءوا إلى حظيرة الإيمان في لحظه فارقة فكانت "نعمة" زوجة لأخ الدين المجهول الهوية والنسب وما كان للغريب إلا أن يكون حسن السيرة عطر والفعل إلى أن غاب في عمق النهر مرة أخري. ما كنت احسب أن "ضوء البيت" لو قدر له البقاء في دنيا الله الفانيه سيعود إلى أي مكان آخر بعد هؤلاء القوم، ولازلت اعتقد أن "ضوء البيت" مازال موجودا بيننا بشكل أو آخر في كل الأماكن وكل الأوقات. ورغم أنني لا أكاد اجزم هل من حسن حظ أو سوء حظ الآخرين أن تتقاطع طرقهم معنا فيفقدوا كل حياة سابقة لهم قبلنا ويجعلهم ذلك غرباء بين أهلهم وعشيرتهم إلا أنني اعتقد جازما في آخر الأمر أن كل ذلك يجعلني أردد بفخر " أن يولد المرء سودانياً فهذا بمثابة الفوز بالجائزة الأولي في يانصيب الحياة"

العزيز أحمد
هناك من شيدوا بنقودهم افخر البيوت واشتروا أجمل النساء. هؤلاء القوم ركبوا أفخم السيارات وبنوا أجمل المدارس والجامعات واشتروا حتى نتائج مباريات كرة القدم وزيفوا التاريخ ليبدأ من حيث ارتفع برميل النفط وذلك لأن النقود تفعل كل شئ:

إن الدراهم في المواطن كلها ** تكسو الرجال مهابة وجمالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحتة ** وهي السلاح لمن أراد قتالا

ومع ذلك ظلوا يرنون بنظرهم إلى إنسان السودان الكادح الممصوص من التعب والاستغلال بطرف عصي من الإعجاب. أن النقود تفعل كل شئ لكن ثمة أشياء لا يشتريها المال ليس أقلها سعادة الدنيا ولكن المال مع كل سطوته لا يستطيع أن يشتري "صفاء الإنسان" و" نقاء السريرة " و" بياض الضمير". تلك صفات تعبر عنها نكتة عابرة في تلك الصحاري المتوهجة. فقد قيل أن أميراً مشهوراً كان يمتطي سيارته الفارهه التي تطوي الأرض طياً عندما أبصر بسوداني - أظنه راعي أغنام - يتهادي في الطريق الشاق الطويل والشمس تكاد تبتلع الأرض بلهيبها. فأمر السائق بالتوقف ودعا السوداني للركوب ومن ثم أراد التبسط مع السوداني وسأله بعض الأسئلة وعندما أتي الدور علي السوداني في السؤال سأل الأمير:"الأخ ما تعرفنا؟" فما كان من الأمير إلا أن أجاب بأريحية :" أنا الأمير خالد بن الوليد" فأجابه السوداني بسرعة البرق: " وأنا خليفة المؤمنين عمر بن الخطاب".

العزيز أحمد
إنا دائما الفخر بأنني انتمي إلى بلاد ينتشر فيها قطاع الطرق في كل الأنحاء. ففي بلادي يقطع الناس الطريق علي السيارات والمارة ويجبرونهم علي التوقف والنزول لتناول الطعام والشراب في مساء رمضان. هؤلاء قوم ليسوا أغنياء من زاد الدنيا والكدح والشظف بادي علي وجوههم وجلودهم إلىابسة وعروقهم الناتئة لكنهم يعرفون قيمة إطعام الطعام وإدخال السرور في النفوس علي شح ما عندهم من زاد الدنيا. هؤلاء قوم وقع في خاطرهم "عيب الزاد ولا عيب سيدو" فجادوا بقلتهم ونشد منشدهم " قليلتي ولا ضبائح طي". هؤلاء أناس ساقوا المحمل إلى بلاد الحرمين لسنوات طويلة وذاعت أسماء سلاطينهم وبيض أياديهم في جنبات جزيرة العرب.

العزيز أحمد
في بلادي يجود الناس بمالهم وأرواحهم فداء الآخر. ففي المدينة الثرية في الزمن الغابر بحصادها وكرم رجالها تناقل الناس أن التجار توافدوا ليلا وفجرا علي بيت الثري ورجل الاحسان الشهير الذي أفلس من حطام الدنيا لا ليطالبوه بديونهم ولكن ليمزقوا صكوك ديونهم عليه إعترافا بفضلة وشهامته وحبا في الله. وهي ديونا ما كانت تحسب بالدرهم والدرهمين ولكن الكبار دائما كبار.

وتعظم في عين الصغير الصغائر * * وتصغر في عين العظيم العظائم

وفي بلادي يجود الناس بمالهم وأرواحهم فداء الفكرة. ففي بلادي أرسل الخليفة عبد الله قائدة ود النجومي مسلحا فقط بعزيمة الرجال وبزاد الإيمان لفتح مصر إلا أن ود النجومي في زحفه الذي كان يوقن بخسرانه ما تراجع وما تزحزح. وزحف المجاهدون إلى الأمام ليس مطلبهم إلا نصراً لا يملكون عدته أو شهادة في متناول أيديهم. و قد صور المرحوم محمد القاسم حاج حمد مشهد هؤلاء الرجال الزاحفين بإصرار إلى نيل النصر وهم لا يملكون من حطام الدنيا شيئا بقوله :

" كان الصبر السوداني المشبع بقوة الإيمان هو الحامل الوحيد لأجساد عطشي رفض كبرياؤها التهالك علي رمال الصحراء، فقدوا ماتوا وقوفاً وهم ينظرون إلى ذلك النيل الذي يجري أمامهم "

وفي سفح كرري برزت معادن الرجال. رفع الخليفة يعقوب "جراب الراي" سيفه وهو يصرخ : " تبلديه وقعت.. تبلديه وقعت " واندفع حتي استشهد. ورغم أن "إبراهيم الخليل" كان مصرا علي القتال ليلا إلا انه انهي الجدل : " المهدية مهديتكم ونحنا قدنا بنسدو لكن نُصرة مافي" وكان من أوائل من استشهد. وعندما شرعت مدافع المكسيم في حصد الرجال قرر جمعا منهم إعطابها بإدخال رؤوسهم في جوفها وهم يتصايحون "الله اكبر ..الله اكبر" والله اكبر! وقد أشاد – وقومي ليسوا في حاجة لإشادة من احد - رئيس وزراء بريطانيا وحامل جائزة نوبل "تشرشل" الحاضر أثناء المعركة بأولئك الرجال وعظمتهم. فقد كانوا رجال فوق الرجولة ونفوس تتسامي علي صغائر الفانية. وفي ثورة 1924م استشهد عبد الفضيل الماظ ممسكا مدفعة وفي أكتوبر كان القرشي شهيد الثورة الأول وكان بابكرعبد الحفيظ وحران وبخيته الحفيان وفي ابريل كان الشهيد عبد الجليل طه و أزهري مصطفى و بول مادتوت ، و محمد الحسن فضل الله و الطفلة مشاعر محمد عبدا لله.

العزيز أحمد
نحن الآن نتبعثر ونتدحرج في لاشئ. في الامبراطورية التي غربت عنها الشمس يقولون: "إن الحجر المتحرك لا ينمو فوقه العشب". ونحن أحجارنا دائمة التحرك وبل التدحرج. أنت من هناك وأنا من هنا ولكننا من نفس القوم ونفس الأرض ونتنفس نفس الهواء وكذلك أخي "ملوال" وصديقي "أوشيك". فإلى متي تتبعثر أحجارنا و تتناثر إزهارنا. وإلى أين يذهب ذلك الوطن الذي أحببناه وأحبه الناس في كل بقاع الأرض. العزيز أحمد قف في قارعة الطريق في أي ركن من أركان الدنيا – أنا لا أسال عن الحب - وأسال بكل اللغات العالم هل تجد احد يكرهنا؟ أنا علي يقين انك لن تجد عاقلا واحدا يفعل ذلك. فلماذا نوجه سهامنا إلى صدورنا ونصلب أغلي ما نملك فوق مشنقة الأوهام.

العزيز أحمد
أنا أحببت سودننا القديم كثيرا واعتز به كثيرا واقرأ مقالة "ثريا العريض" – "أنهم لا يصدأون" - الاف المرات وتطربني عشرات الحكايات الجميلة عن سودانيين مبعثرون في بقاع الأرض، ليس فيهم واحد من أبناء عمومتي أو بنات خؤولتي و لكني صرت الآن أنكس راسي عندما اسمع أن العامل الآسيوي يسأل: "سودان في يجي اتنين" أو يسأل الخليجي"ايش في في دارفور" أو يدعي قادم من وراء البحار انه سيبين لنا كيف نحافظ علي الوطن ونجنبه المآسي وهو يلعب دور صاحب "المديدة حرقتني" و"الحجاز" في آن واحد.

العزيز أحمد
أنا لا أريد سودانا مُنقَذاً أو سودانا جديداً، بل عودوا بنا إلى السودان القديم إلى أقدم سودان عرفه الناس. فكلما رجعنا إلى الوراء عرفنا كيف نحسن التقدم إلى الأمام.
معتصم كدكي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.