سوف تمثل تجربة الثورة الشعبية الشبابية فى مصر فى يناير 2011 مصدرا حقيقيا للفكر الاجتماعى والسياسى سواء على المستوى المحلى أو بين شعوب الجنوب بعامة ، ومع ذلك أشعر بضرورة تأمل ما حدث ويحدث فى ضوء تجارب سبقت التجربة المصرية نفسها بشكل أو آخر وخاصة على المستوى الأفريقى . وقد تعود هذه التجارب فى أفريقيا –وغيرها- لتأمل الحالة المصرية مجددا كما أرى فى كتابات وأمانى أفريقية حديثة عرفت شعوب أفريقية عديدة حالات"الرئيس السابق" – وليس فقط المخلوع – مبكرا سواء بوسائل سلمية بل وديمقراطية مثل سنغور ونيريرى وسوار الذهب فى الثمانينات وكاوندا وأراب موي وغيرهم بعد ذلك ، كما عرفت أفريقيا زحف الشعوب إلى قصور الحكام قادمة من الأطراف أو الأرياف ، أو المناطق الحضرية المهمشة مثلما رأيناه فى أوغندا والكونغو ومالى ومدغشقر وبنين والنيجر ....وهى حالات زادت على العشر فى تتابع مدهش بين 1989-1995 . فى كثير من هذه الحالات عرفت الشعوب فيما قبل الزحف الكامل أو خلاله ظاهرة "مؤتمر السيادة الشعبية الوطنية " يجمع ممثلين ساخطين ومتمردين على السلطة من قبل تجمعات شعبية أو فئوية ، فقراء ومتعلمين ونقابيين ، قد تقترب من حالة تونس ، ولكن ليس مثل حالة مصر فى غلبة فئة الشباب وتكتيكاتهم بالنسبة العالية التى شهدتها . كانت هذه التجمعات "الجبهوية " –بدون جبهات سياسية مؤطرة كما تدعو لها الاحزاب عادة ، بل تتجاوز التشكيلات الحزبية التقليدية وقد تحتويها داخلها ، ولكنها فى الأغلب كانت ذات "أطر شعبية" إلا فى حالات قليلة ، كانت ذات طابع عمالى أو سياسى وفى كثير من الحالات اتفقت هذه التجمعات بسرعة على شكل من أشكال "المؤتمر الشعبى" وهو ما تنوعت مسمياته بين مؤتمر"السيادة الوطنية " أو" الشعبية "أو كلتيهما كما اتخذت مسميات مثل المؤتمر الوطنى أو الجبهة الشعبية أو المبادرة الوطنية الديمقراطية ، وقد تحدت هذه المؤتمرات عبر الزحف الشعبى ( الذى سمى فى مصر بالإنتفاضة ..) نظم ا لحكم العسكري ( فى مالى وبينين واثيوبيا ) أو شبه العسكري فى (غانا وأوغندا ومدغشقر والكونغو) . بل وأزاح أحيانا ، زعامات كاريزمية متجذرة مثل كاوندا فى زامبيا ،أو زعامات طالت فاستقرت مثلما حدث فى السودان 1985(نميرى) أو الكونغو(موبوتو) وظهرت فى هذه التجارب ظواهر جديدة للقيادة ، كان بعضها قيادة عمالية عبرت فترة باسم شباب العمال عن الاحتشاد الشعبى مثل "شيلوبا فى زامبيا " بل واعتلى السدة شباب المتعلمين من التجمعات الأهلية مثل "عمر كونارى فى مالى" . وسميت كل هذه التجمعات بالشعبية والشعبوية ، وعرفت تنظيماتها بالمؤتمرات الشعبية التى شكلت جمعيات تأسيسية لصياغة دساتير جديدة (غانا-بنين-مالى)! كان ذلك كله بسبب وطأة سياسات التكيف الهيكلى وما سمى بالاصلاح الاقتصادى لصالح الخصخصة التى قضت فى مطلع مشروعها على "دور الدولة" بإعلان صريح لذلك فى 1981، وفى بلاد تتطلع للتنظيم الدولتى لهياكلها ، سواء بالمشروع الوطنى أو باستثمارات وطنية وخارجية لصالح المشروع ، وترتب على ذلك سيطرة صفات وفئات جديدة على الاقتصاد الوطنى على نحو ما حدث فى عقدى السبعينات والثمانينات ، مكتفين قبل هذا الزحف الشعبى بترسانة المصطلحات الجديدة عن الليبرالية والمجتمع المدنى على نحو ما عرفنا الكثير منه فى مصر . وقد أدى استمرار هذه الصيغ والأطروحات لبعض الوقت إلى تجذير المصالح الطبقية إلى حد نجاحها عقب الانتفاضات الشعبية فى الأمثلة الأفريقية العديدة فى استيعاب نتائج هذا التحرك الشعبى وللتعثر الكامل لمعظمها فاختفت دعوات وأشكال السيادة الشعبية الوطنية من الخريطة السياسية حيث غطتها انماط الأحزاب التقليدية وفلسفاتها حول التعددية الليبرالية وليس لغلبة أنماط التنظيمات الاجتماعية والنقابية وحتى الفئوية . ونتيجة لضعف هذه التنظيمات الأخيرة فيما قبل الانتفاضات الشعبية ، إلا أنها لم تستطع فرض أجندتها على حكومات ما بعد الانتفاضة ، بل عاد" العسكر الوطنيون " فى حالات مثل غانا ومدغشقر وبوركينا فاسو وبنين ، ليقودوا تحولات تقليدية فى إطار سياسات "الاصلاح الاقتصادى" مرة أخرى .بينما مضت الجماهير – إزاء هذا التعثر لأمانيها وحركتها – إلى الإنكفاء على الذات فى حالات من التفتت القبلى والعرقى أو الاجتماعى أوالطائفى . وقد أدت بعضأزمات هذه التجارب غلى إنقلابات عسكرية جديدة اضطر الرؤساء المستقرون فى القمة الافريقية لتأسيس الإتحاد الأفريقى 2002 ، إلى عدم الاعتراف بنظم الانقلابات العسكرية ،فى عضوية الاتحاد ، وهو ما يجب بالمناسبة أن يعيه القادة العسكريون والقيادات الجديدة فى مصر ! وقد يمكن القول أن التاريخ الاجتماعى والسياسى فى مصر يبدو أغنى من مثيلاته الأفريقية فى التنظيم السياسى والاجتماعى ، ولكنا يجب أن نراجع ملف الثقافة السياسية السائدة فى مصر الآن حول بقايا فلسفات انتظار " الزعيم المخلص " أو "المستبد العادل" ، ثم هيمنة ثقافة الإعلام مقابل التعليم ورفض ثقافة تطوير الحداثة إلى حد صعوبة توصيل مفهوم "الدولة المدنية " الديمقراطية أو الحديثة للأطراف الاجتماعية . وهذا ما كان يمكن ملاحظته بسهولة فى ميدان التحرير , ونلاحظه عقب الانتفاضة فى حالة التحفظ تجاه بروز المطالب الاجتماعية أو تنظيماتها النقابية ، سواء بين الحكم الجديد أو بعض فئات الطبقةالوسطى نفسها . لم تعرف التجارب الأفريقية كثيرا دورا كبيرا" للمؤسسة العسكرية" سواء فى عملية البناء او ، حيث العسكرية كانت نوعا من الجندرمة أو الميلشيات الحامية للزعامة فقط ، وهذا ما كان الحكم فى مصر منذ السادات يحاوله وعندما فشل حول الدور للشرطة كما بدا نسبيا عقب التطورات الأخيرة ، وبالمثل سرعان ما قفزت" العسكرية الأفريقية"- الميليشيا للحكم عقب فشل تجربة مؤتمرات السيادة الشعبية الوطنية ، لتعيد المكون الاقتصادى إلى الطبقات الجديدة ، ويستعيد السوق العالمى نفوذه على المجتمعات الافريقية عبر صندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية ، ويتواصل فى هذه الدول حرمان القوى الاجتماعية من التنظيم وحتى الحريات الليبرالية التقليدية .ومن هنا جاء هذا الاستمرار الظاهر الآن فى يبعية أفريقيا للرأسماليات الكبرى شرقا وغربا . فى مصر نخشى مواقع نفوذ من نوع آخر هو استبداد –مفاهيم التكنوقراط ، واستبداد وفساد البيروقراطية ، ومؤسسة الفساد التى استقرت عبر عشرات السنين ، وهذه جميعا يمكن أن تحجب حتى دور العسكر الوطنيين ، كما ستحجب امكانيات " التنظيم الشعبى" ومتطلباته الاجتماعية فى ظل مبالغة رومانسية لمفاهيم "ثورة الشباب" و"ميدان التحرير" ، علما بأن الثورة كانت تضم معظم فئات المجتمع الفقيرة وصغار الموظفين ناهيك عن شباب العاطلين ،وكانت تحركات المدن الأخرى خارج القاهرة ، مثل تحركات الفئات المختلفة عقب 11فبراير 2011 تعبر عن "شعبية " "اجتماعية " واسعة لمعنى "ثورة التحرير "الصاعدة .وإذا احتجنا للمثال فإن ثورات أمريكا الاتينية هى الجديرة هنا بالتأمل أيضا ومعنى ذلك أن دراسات أخرى لابد أن تتجه لحالات التقدم فى أمريكا اللاتينية فى نفس فترة التعثر الأفريقى خلال العقد الأخير . وعلى من يدرس تجارب التعثر الافريقى أو التقدم الأمريكى الجنوبى _ ولا أحب كثيرا تعبير اللاتينى – أن يتعمق أهمية الانتباه لدور الحركات الاجتماعية التى يتصاعد مطلبها التنظيمى إلى جانب المطلب الاقتصادى الاجتماعى للعمال والمهنيين أبناء الطبقة الوسطى العاملين بأجر ( الحد الأدنى للأجور- التأمينات- الصحة-التعليم) ، دون تجاهل المشروع الانتاجى الوطنى لتوفير فرص العمل .لقد غابت التنظيمات الشعبية الاجتماعية عن المسرح عقب الانتفاضات الافريقية لظروفها الخاصة ، فحدث تعثرها الكامل خاصة مع ضعف الأحزاب التقليدية التى عادت للظهور. لكن الأمر ليس كذلك بالضرورة فى الحالة المصرية والتونسية بسبب تراث قديم فى الثقافة السياسية يمينا ويسارا ، مما يتيح المجال لتنظيمات سياسية جديدة ذات برامج وعقلية مختلفة تحمل النفس الثورى الذى أسست له انتفاضة يناير 2011 . helmi sharawy [[email protected]]