جوانب من الحياة الاجتماعية (الخاصة) للإداريين البريطانيين بالسودان فرانسيس دينق و م. دالي ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه ترجمات لإشارات متناثرة عن بعض "المسكوت عنه" من جوانب من الحياة الاجتماعية (الخاصة) للإداريين البريطانيين بالسودان، جاءت في كتاب لفرانسيس دينق (السوداني الجنوبي) و م. دالي (البريطاني) عنوانه "قيود من حرير : العامل الإنساني في الإدارة البريطانية للسودان Bonds of Silk: The human factor in the British administration of the Sudan من إصدارات دار نشر جامعة ميتشيجن الأميركية في عام 1989م.وهذا الكتاب يرصد آراء عدد من البريطانيين والسودانيين من الذين عملوا كإداريين في الفترة الاستعمارية حول العلاقات الإنسانية بين الشعبين. وقد سبق لنا ترجمة جزء من الكتاب عند الحديث عن "قصة دواؤد عبد اللطيف مع الانجليز" و"قصة بابو نمر والانجليز". حكى السيد كينيث هندرسون (1903م - ؟) حاكم دارفور في الفترة بين 1949م – 1953م عن السياسة الباكرة للحكومة التي كانت تهدف لعدم تشجيع صغار الإداريين البريطانيين على الزواج أو إحضار زوجاتهم للسودان، وضرب مثلا بنفسه حين قضى تسعة أعوام عزبا قبل أن يتزوج وهو في عامه الأخير بالنهود. في سنوات الاستعمار الأولي كان الزواج غير مسموح به بتاتا للموظفين البريطانيين، إلى أن أصدر بيلي باشا (الذي قضي في خدمة الإدارة البريطانية 24 عاما، وكان حاكما لكسلا في عام 1926م) قرارا اعتباطيا بأن لا يحضر أحد من الإداريين امرأته إن كان متزوجا إلا لشهرين فقط في العام! كان التبرير الرسمي هو أن الزوجة تشكل مصدر إزعاج للموظف يصرفه عن أداء عمله...كان الإداري البريطاني يقول دوما: "إن كان لابد من امرأة، فلتتخذ لك واحدة من ...( وذكر قبيلة بعينها) تعينك على تحسين لغتك العربية، بيد أن ذلك لن يؤدي إلا لتعقيد موقف مفتش المركز بسبب "الجانب المظلم"" قصد الرجل ب "الجانب المظلم" هو تعقيد وضع مفتش المنطقة كحاكم يتوقع منه الحيدة في الإدارة! ظلت علاقة الموظفين البريطانيين بالنساء المحليات محدودة ونادرة جدا لأسباب عديدة معقدة تتعلق بطبيعة الوظيفة أو لأسباب اجتماعية وثقافية أخرى. خلق "تبتل" الإداري البريطاني وبعده عن النساء فهما مشوشا عند معظم الذين وجدوا صعوبة في فهم وتقبل أن يظل رجل في عمر وسلطة مفتش المركز عزبا! ضرب أندرسون مثالا آخرا بنفسه حين قال إن قبيلة "...." قد شغلوا أنفسهم بأمر بقاءه عزبا، فطلبوه لقاءه ودعوه لشرب فنجان من القهوة ذات يوم خريفي جميل وسط أرض خضراء منبسطة وأنعام ترعى في سكينة. تحدثوا في شئون كثيرة،ثم ساد صمت قطعه "الشيخ" وهو يمسح على لحيته الطويلة بسؤاله لي إن كان بالإمكان أن يسألني عن أمر لا يخلو من خصوصية. أعطيته الإذن فقال لي ما يفيد بأنهم يتسألون عن ما إن كان ينبغي على الزواج الآن، إذ أنه ليس من اللائق أن يظل رجل في مثل سني وقدري دون زواج... وعرضوا على في نهاية المطاف الزواج من إحدى فتياتهم (بعد دفع مهرها من البقر)، وحين أغادرهم أو عندما أرغب في الزواج من فتاة من بنات جلدتي فيمكنني أن أطلق بنتهم، وسيعيدون لي أبقاري التي دفعتها كمهر. رددت عليهم بالسؤال عن مصير ثمرة ذلك الزواج (الأطفال)، فرد الشيخ في بساطة بأنهم سيكونون أطفالا رائعين وسيعملون كمترجمين... شرحت لهم إنني إن تزوجت من قبيلتهم فقد أظلم قبيلة كذا وكذا (سمى القائل المجاورة)، وسيصعب على أن أكون محايدا في أمور كثيرة تهم أهالي المنطقة بقبائلهم المختلفة. بدا لي أنهم اقتنعوا بمنطقي، ولكنهم قالوا بعد قليل من التفكير: "ولماذا لا تتزوج إذن بفتاة من "بنات البحر؟". رددت عليهم بالقول بأنه ما من فتاة محترمة منهن ستقبل بي. لم يقتنعوا بذلك فقالوا..."حسنا...نستطيع تدبير ذلك لك". لحسم الأمر قلت لهم في نهاية اللقاء إن ديني لا يسمح بما عرضوه على. كان ذلك عسيرا على التصديق بعض الشيء، إذ أن بعض زملائي كانوا يمارسون ما حرمته على نفسي. أكد أندرسون إن إقامة علاقة (عابرة) مع امرأة محلية من شأنها أن تنهي مستقبل الإداري البريطاني، وضرب لذلك بمثال لإداري بريطاني شاب في إحدى الأقاليم النائية أقام علاقة من نوع ما مع فتاة تبين أنها قريبة لأحد العمد. أثار ذلك العمدة كثيرا من المشاكل والتضييق بل والتهديد للإداري الشاب، مما عجل برحيله من وظيفته ومن البلاد بأسرها. تدخلت زوجة هندرسون (التي حضرت لقائنا مع بعلها) وأدلت برأيها بالقول أن قرار منع الزواج أو إحضار الزوجة كان أمرا حكيما لم كان في مناطق نائية كدارفور مثلا، التي يصعب الوصول أو الخروج منها، وفي حالات مرض الزوجة والأطفال سيكون الأمر حرجا جدا، خاصة في ذلك الزمان حين كانت الطرق رديئة، والطيران معدوما. كان من رأي جوان بيل (الذي عمل إداريا في الأبيض وكسلا ثم نائبا للسكرتير الإداري في نهاية الخمسينات) أن قرار منع الزوجات أو استقدامهن للسودان كان قرار صائبا، فالموظف البريطاني الشاب كان بحاجة إلى كل الوقت للعمل، وإلى أن يظل حرا ليسافر ويقطع الفيافي متى دعت الحاجة ودونما سابق إنذار. لا ريب أن وجود زوجة وعيال سيعيق عمل الإداري لحد كبير. كانت الإدارة البريطانية تمنع منعا باتا زواج ضباط قوات دفاع السودان، وتطلب ممن يرغب فيهم بالزواج التقدم باستقالته (رغم علمي أن كبار الضباط بالخرطوم كانوا يصطحبون زوجاتهم). أشار بيل إلى الأمر يتعلق أيضا بالزوجة وبرغبتها في ركوب المصاعب وتحمل المشاق والتعرف على ريف البلاد وأهلها، وربما تعلم شيء من اللغة العربية. كان هنالك بعض الزوجات البريطانيات من التشكيليات اللواتي ملئن أوقات فراغهن بالحديث مع، والتعرف (العابر بلا شك) على نساء القرى، برسومات الطبيعة والناس في الأماكن التي زرنها (بعد أخذ الإذن من عمدة أو شيخ المنطقة). كان من رأي لورنس بوخانان (المفتش البريطاني الذي عمل في غالب ناطق السودان) أن قرار منع الإداريين البريطانيين من الزواج أو اصطحاب أو استقدام الزوجات للسودان كان مطبقا بصرامة قبل عام 1924م، بيد أن الأمر صار أكثر سهولة من بعد ذلك. توالى قدوم الزوجات البريطانيات للسودان حتى في الأماكن النائية والقاسية والمعزولة مثل دارفور. وقبل ذلك – كما يزعم بوخانان- كان هنالك عدد قليل جدا من الإداريين ممن اتخذ له خليلة أو أكثر من النساء المحليات (اللواتي كان يحتفظ بهن في الخفاء بالطبع) وأثمرت بعض تلك العلاقات أحيانا أطفالا "هجين"، بينما كانت الغالبية العظمى من الإداريين تلتزم جانب التبتل والامتناع عن العلاقات مع معشر النساء (حتى ظن بهم بعض السودانيين الظنونا). لا شك أن العزلة والتبتل والبعد عن النساء دعا كثير من السودانيين لإفتراض أن المثلية (الشذوذ الجنسي) واسعة الانتشار في اوساط الموظفين البريطانيين، وأنها من الممارسات الوافدة التي أتت للسودان مع قدوم المستعمر للبلاد. ينكر البريطانيون الرسميون ذلك ويقولون أن اختيار موظفيين للعمل في البلاد المستعمرة لا يتم إلا بعد تدقيق وفحص ودراسة، وأنه يستحيل أن يعين في خدمة المستعمرات شخص مثلي (شاذ جنسي) معلوم الشذوذ، خاصة في تلك الأيام التي كان الشذوذ فيها مستهجنا ومحتقرا ومرفوضا في بريطانيا. ويجب أن نتذكر أن المثلية كانت ترتبط في المخيلة البريطانية بنوع من التخنث واللين، وهذا مما يتناقض مع ما كان مطلوبا من الموظف البريطاني في مناطق الشدة في بلد متخلف كالسودان. رغم كل هذا فقد سرت كثير من الاشاعات عن علاقات مثيلة بين البريطانيين مع بني جلدتهم وبين قليل من السودانيين. لم تثبت أي من هذه الاشاعات على أرض الواقع، وظلت مجرد "اشاعات غامضة" ليس لها ما يسندها من وقائع ودلائل. حكى هندرسون عن ما سمعه من زوجة أحد الإداريين عن مفتش بريطاني زعم أنه مثلي ويحتفظ في داره بصبي سوداني. تبين فيما بعد أن الأمر لم يعدو أن يكون مجرد كيد وتنافس "غير شريف" بين زوج تلك المرأة وذلك الإداري الذي زعم منافسوه أنه كان واقعا تحت تهديد والدة ذلك الصبي المزعوم! أكد هيندرسون أن البريطانيون كانوا متبتلين وليسوا مثليين. يعترف بأن بعضهم (مثل السير دوقلاس بيوبولد) كانوا يفضلون صحبة الرجال على رفقة النساء، بل وكانوا يرهبون الجنس الآخر! قال ساخرا أن وجه نيوبولد كان يشع بالسعادة وتبرق عيناه إن أخبرته أن زوجه ستسافر، فيسأل في حبور: "ومتي ستغادر؟ يوم الأثنين...حسنا... إذن تعال يوم الثلاثاء للعشاء"ّ. كان يحب صحبة الشباب من الرجال، وكثيرا ما كان يستضيفهم في داره لعدة شهور، فهم بحسب قوله "يثيرونه. لم يكن شاذا البتة، بل كلن يحب صحبة الرجال، ويفضلها علي رفقة النساء. كان كثير من البريطانيين مثله. لم يسلم (مع نيوبولد) حتى قريفث – مؤسس بخت الرضا- وكثبرت سكوت من تهمة ممارسة الشذوذ الجنسي، ولكني لا أصدق تلك الاتهامات، فهي لا تشبه صفات أولئك الرجال ثاقبي الفكر." كان الزواج بين السودانيين والبريطانيات أمرا نادر الحدوث وقليل النجاح ومستهجنا أيضا عند االبريطانيين (والسودانيين أيضا) بذريعة اختلاف الثقافات والعادات والدين. ذكر عدد ممن استطلعت آرائهم من الإداريين البريطانيين أن تلك الزيجات المختلطة قلما تستمر، وعادة ما تنتهي في سنوات قليلة. ضرب نيوبولد مثلا بالمبتعث السوداني الذي يتزوج من بريطانية في بلد دراسته، ثم يعود بها للسودان بعد إنتهاء بعثته. ستجابهها بلا ريب عوائق كثيرة وصعوبات جمة في الاستقرار والتأقلم على تقاليد وعادات المجتمع السوداني المسلم المحافظ، وعلى التعامل مع عائلتها الجديدة وبخاصة مع والدة زوجها! حكى جون فيليبس مفتش المركز بمدينة واد مدني عن قصة نية السيد مكي أفندي عباس (نائب محافظ مشروع الجزيرة) للزواج في عام 1951م من بريطانية هي الدكتورة اليمر ديفيدسون. اجتمع مجلس إدارة مشروع الجزيرة لمناقشة الأمر، وسأل أحد "المحافظين البيض" السيد رابي رئيس المجلس عن السياسة الرسمية في أمر الزواج المختلط. رد السيد رابي في حدة أن السياسة الرسمية لمشروع الجزيرة بخصوص هذا الأمر (والأمور الأخرى) هي أن ينشغل المجلس بشأنه، وشأنه وحده فقط! كان الشباب البريطانيون يحذرون قبل الالتحاق بوظائفهم الإدارية في السودان من أنهم مقبلين على فترة شديدة القسوة والشدة والوحدة في حياتهم، وكانوا يتعهدون بالمحافظة على "السلوك الأخلاقي القويم" أثناء عملهم، خاصة مع السكان المحليين. في المقابل تعهدت الحكومة بمنحهم عطلة سنوية طويلة (تصل لربع عام)، وتم الالتزام بذلك خلا أثناء سنوات الحربين الأولي والثانية. ساهمت تلك العطلة الطويلة في كبح جماح السلوك الجنسي عند أولئك الشباب، وذلك بحسب قول موريس ليش (والذي عمل مفتشا لمراكز عديدة مثل كسلاوالخرطوموالدويم). لم يسمع الناس عن علاقات حب (حقيقي) بين إداريين بريطانيين ونساء سودانيات، خاصة في شمال السودان المسلم الذي لا يقبل بزوج غير مسلم، وحيث كانت النساء شديدات التحفظ والتمسك بالعادات والتقاليد المذكورة وتحت رقابة مشددة من أهاليهن، بعكس جنوب البلاد، حيث يمكن للبريطاني أن يتخذ له زوجة من فتيات الجنوب (من غير المسلمات)، وحيث يمكن للبيمباشي أن يحتفظ لنفسه بفتاة جنوبية يمكنه من خلالها (على الأقل) الحصول على معلومات استخبارية عن أحوال السوق! كان من رأي جون فيليبس (آخر مفتش مركز في الدويم، ثم سفير لاحق لبريطانيا في الخرطوم وعدن) أن حياة الزوجة البريطانية في السودان كانت أكثر صعوبة من حياة زوجها، خاصة في الأماكن البعيدة، إذ أنه كان للزوج عمله الذي يقضى فيه سحابة يومه، بينما تبقى الزوجة في المنزل تحت ظروف مناخية لا تشجع على أي نشاط يذكر. ساهم بعض الأزواج في أعمال أزواجهن، وفي التعرف على الحياة والنساء في مناطقهن، وتعمل بعضهن اللغة العربية أو اللهجة المحلية. كان دور الزوجة البريطانية – بحسب قول جان بييرجرينلو (الذي انشأ أول مدرسة للتصميم بالسودان عام 1946م، والذي غادر السودان قبل سن المعاش لتبدل قناعته بالاستعمار ولأسباب دينية)- في مساعدة بعلها الإداري واضحا عندما يعمل ذلك الإداري في الريف، حيث تتحمل مشاق الرحلات الطويلة وتعمل مع النساء السودانيات في الحقول والمدارس والمستشفيات. يصعب وجود مثل ذلك العمل في المدن مثل الخرطوم وبورتسودان وملكال، لذا تبقى زوجات البريطانيين في إسار دائرة ضيقة من بنات وأبناء جنسهن في الحفلات والكنائس وما إلى ذلك. نقلا عن "الأحداث"