كتب أحد أصحاب الأعمدة بصحيفة (الإندبندنت) البريطانية قبل يومين: (إذا رأيت جون سمبسون في أي بلد فإن ذلك الجزء من العالم سيشهد تغييراً في نظام الحكم بلا أدنى شك). و بالفعل كان جون سمبسون في مدينة أجدابيا بكل طاقم البي بي سي، متمنطقاً بالسترة الواقية من الرصاص، و متخللاً صفوف الثوار المقاتلين كأنه واحد منهم، و هو الذي أرانا الطائرة السوخوي التي كانت تقصف المكان، بينما يقسم القذافي و ابنه سيف الإسلام بعدم وجود أي قصف. إذاً، فالإعلام المتقحّم، من نوع البي بي سي و الجزيرة، لا ينقل لنا الحقيقة الموضوعية بعيداً عن أكاذيب الأنظمة الأتوقراطية فقط، و لكنه يسجل التاريخ، ويوفر الأدلة الجنائية التي سيستفيد منها موريس أوكامبو المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية. و لقد ساهم الإعلام في تنويرنا دقيقة بدقيقة عن أحداث تونس و مصر و ليبيا و اليمن... الخ، و لقد استخدمته الجماهير الثائرة نفسها في الاستزادة بالتفاصيل الصحيحة لما يدور بين ظهرانيها، و في عكس آرائها و المعلومات المرتدة من الشارع أولاً بأول. و لم يكن الإعلام ناقلاً للخبر فقط، و لكنه صاحب تعريف و تحليل و مقارنة و تذكير و إرشاد نحو مواطن الخلل و القوة؛ وبالطبع لم تكن القنوات سواسية، فقد تفاوتت درجات الموضوعية و رشحت النوايا المستبطنة وتجليّات التقيّة و العقل الباطن المشبع بأيدلوجية معينّة، أو بالخوف من المخدّم ومحاولة التماهي مع توجهاته، مهما كانت نظرته قاصرة و غير مستوعبة للتيارات التي تعصف بالمنطقة و ترجّها رجّاً. ( و بالطبع هناك قنوات سجلت غياباّ كاملاّ، مثل القنوات السودانية التي ما انفكّت ترفل في الأغاني و المدائح المدوزنة والرقص و الهيافة الانصرافيات، بينما الدماء تسيل بحوراً في دول شقيقة و جارة، و مصائر شعوب شبيهة بنا يعاد تشكيلها على نحو جديد، مما يعكس نفسية النظام الحاكم الذي يتمنّى لو أنّ هذه الأحداث لم تقع بتاتاً، و لعله يكرر في دخيلته المقولة السودانية المشهورة :"يا ريت موت الحمراء منام!"). و في حقيقة الأمر، فإن الذين أغدقوا على الإعلام و قدّموه على غيره من المؤسّسات هم الأخوان المسلمون، متأثرين بالحزب النازي الذي سخّر الإعلام الألماني لتجييش كل أفراد الشعب للسير خلف هتلر و قبول جميع ترّهاته و ادعاءاته، فتبعوه مثل اولئك الصبية الذين ساروا خلف الحاوي صاحب المزمار حتى أدخلهم جحر ضبّ خرب. و لقد أوفد الدكتور الترابي منذ منتصف السبعينات عشرات الكوادر الشباب من تنظيمه ليتخصّصوا في الإعلام والعلاقات العامة PR بالولايات المتحدة، و شرعوا في استخدام المهارات التي اكتسبوها منذ انتفاضة أبريل 1985، فساهموا في تسميم الأجواء و تشويه صورة المعارضين لهم بالحق و بالباطل، وفى تهديم القواعد التي بنيت عليها الديمقراطية الثالثة التي عاشها السودان في الفترة 1985-1989، و كانوا في حقيقة الأمر يمهّدون للاستيلاء على السلطة بالكامل، و هذا ما فعلوه يوم 30 يونيو 1989، عندما وضعوا أيديهم ليس فقط على السلطة، إنما على أجهزة الإعلام برمّتها، الحكومية و غير الحكومية، واستفردوا بالأمر تماماً لعقدين من الزمان، و أغرقوا أهل السودان برسالة إعلامية مؤدلجة حتى النخاع و آحادية الجانب، ولا تعرف غير الكذب وغسيل الأدمغة، بينما أغلقت الصحف الحرة و تم تكميم أفواه المعارضين و البطش بهم وتشريدهم في أركان الأرض الأربعة؛ و هكذا، خلا الجو للأخونجية الأصوليين فباضوا وأفرخوا، وفى نهاية الأمر تسببوا فى انفصال جنوب السودان، وستتبعه دارفور وجبال النوبة. و لكن تقلّبات الزمان، بالإضافة لنضالات المعارضة بالشمال و الجنوب، فتحت كوّة في جدار النظام بعد اتفاقية نيفاشا 2005 و اتفاقية القاهرة عام 2006 مع التجمع الوطني الديمقراطي، و أطلّت بعض الحريات التي نعم بها السودانيون لبعض الوقت، و لكن وضح فيما بعد أن النظام كان يهدف لاستدراج المعارضة حتى تعود بقضّها و قضيضها للبلاد، و توقف نشاطها الإعلامي بالخارج، و تصبح تحت إبطه و في داخل جحره، (و من يدخل في جحر الثعالب فهو مضّطر للعمل بقوانينها). هذا بالضبط ما قلته للسيد الصادق المهدي في ندوة عامة بأبوظبي عام 2003 عندما جاء ليتلمّس رأي السودانيين في الخطوة التي أقدم عليها مع السيد مبارك الفاضل و هي توقيع اتفاق جيبوتي والعودة للسودان؛ و لقد أضحك السيد الصادق القاعة كلها على شخصي الضعيف قائلاُ: (نحن نقول تور و الأخ الفاضل يقول أحلبوه. لقد تغيّر النظام و انفتح باتجاه الديمقراطية و عندما نعود فإننا سنأخذ بيده و نساعده للمضي قدماً في هذا الاتجاه). و يعلم الله من أخذ بيد الآخر، و حقاً... من يضحك أخيراً يضحك كثيراً. و من باب اهتمام الإسلاميين (النازيين) بالإعلام كونهم يجعلون قناة الجزيرة بالدوحة الثمن لمساعدتهم في الانقلاب الذي حدث في قطر، على حد قول شوقي بدري بهذه الصحيفة يوم الأربعاء الماضي، و لعلكم تعرفون ما يتمتع به شوقي من مصداقية و صدع بالحق، و لو ضد أبيه أو أقرب الناس إليه. و فعلاً كنّا نحس "بكوزنة" الجزيرة من مديرها العام الأخ المسلم المعروف، و نفوذ القرضاوي فيها، بالإضافة لما تكتظ به من الإسلاميين الوافدين من جميع بلاد العرب و العجم؛ و لكنها، كما قال شوقي، مكسورة ومدجّنة بنفوذ المخابرات المركزية الأمريكية التي تسعى لإحلال الوسطية في مكان الاتجاهات الأصولية المتطرفة، على طريقة ( و داوني بالتي كانت هي الداء). ذلك أيضاً واضح، إذ خرجت قناة الجزيرة للملأ كداعية للاعتدال و منافحاً عن الديمقراطية و مسانداً للشعوب المقهورة التي أخذت أنظمتها تتساقط واحداً بعد الآخر، (فيما عدا السودان؛ و هنا سيكون الاختبار الحقيقي للجزيرة: ما هو موقفها عندما تتفجر انتفاضة شعبية بذلك البلد الذي يبطش به نظام إجونجى منذ عشرين عاماً؟ و ليس ذلك ببعيد... بل يتوقعه المراقبون خلال شهر أبريل بمناسبة الاحتفال بذكرى انتفاضة 1985). مهما كانت منابت الجزيرة و أصولها، فلقد وقفت مع الشعوب و ضد الأنظمة القهرية في الأسابيع المنصرمة، و دخلت التاريخ مع الداخلين، مهما كانت تحمل في تلافيف ثيابها من خناجر، فالشريعة عليها بالظاهر، وعموماً... فقد وضح أن صوت الحناجر أشد مفعولا من الخناجر، و أن الشعوب التي خرجت من قماقمها لن تعود لها مرة أخرى مهما تلاطمت حولها موجات البطش و الاستفراد و الإرهاب. و لربما حدث تغيير بالنسبة للكوادر الغالبة في قناة الجزيرة بعد طول احتكاك مع أخيار و عظماء من نوع ليلى الشيخلى و ديفيد فروست و صديق محيسي وجعفر عباس، أو ربما أفسدهم البطر و الرواتب العالية و الحياة المنعمة بالخليج فتنكروا لأيدلوجيتهم و استطعموا الحياة الغربية المرتبطة بالديمقراطية وقيمها بالضرورة. أو، كما تقول الدراسات التي تتحدث هذه الأيام عن الاقتصاديات الصاعدة مثل الصين و البرازيل، فإن التقدم الاقتصادي الذي تتكالب نحوه هذه الدول سيجلب لها (الكفوة)، لأنه لن يتحقق بلا ثورة تقنية المعلومات، وهذه تجلب فى طياتها الفيس بوك والتويتر والمسنجر وكافة أنواع الإعلام الاجتماعي. وعند ذاك جاطت المسألة، كما قال الشاعر الحلمنتيشي. و بالفعل رأينا بصمات الانترنت في تونس و مصر، و كنا نتوقع الخطوة التالية في الصين، فإذا بها في ليبيا، و هنا يتدخل عام آخر أهم من كل ما سبق وهو حكمة رب العالمين الذي يعطي الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء بيده الملك وهو على كل شيء قدير. أورد أليستر كوك في الكتاب الذي صدر عن دار بنجوين بعد وفاته عام 2004، بنفس عنوان برنامجه Letter from America "خطاب من أمريكا"، أورد اقتباساً لبزمارك موحّد ألمانيا عام 1870 الذي قال: (على السياسي أن يرهف السمع لوقع خطى رب الكون في حركة التاريخ، و في اللحظة التي يتبيّن تلك الخطى عليه أن يستمسك بأطراف ثوبه و يتبعه حيث سار.) أو ربما يشرح الحديث النبوي الشريف هذا الموقف: (ألا إن لكم في أيام دهركم نفحات .... ألا فتعرّضوا لها). و لعل أخونجية الجزيرة أحسوا بنبض الشارع و قبضوا بأطرافه، وآثروا أن يبدّلوا جلودهم عملاً بالمثل الحلبي السوداني (ألف نطّة و لا واحد بعبوص) . و لربما تثقفوا بما رأوا من حركة التاريخ المعاصر، فلقد توصلت البشرية لعصر الحرية و الديمقراطية و الشفافية، و ذلك هو الترياق الوحيد ضد اللصوص و مصّاصي الدماء ..... فبدون الديمقراطية التي انبلج صبحها في مصر و تونس كيف كان سينكشف الغطاء عن هذه المبالغ الخرافية التى بطشها مبارك وبن علي ورهطاهما الأقربون فى بضع سنين؟ الآن فقط عرفت تلك الشعوب أين ذهبت ثرواتها.... كما توصلت البشرية لقناعة و معادلة واضحة المعالم و هي الفصل بين الدين و الدولة، فالدين للإله و الوطن للجميع، ولا مجال بعد اليوم للإسترزاق والنهب باسم الدين. و بمناسبة الإعلام الاجتماعي فقد انعطف الجميع نحوه هذه الأيام و غرقوا فيه تماماً، و قلبوا ظهر المجن للصحافة التقليدية، و ذلك خطأً فادح، إذ أن الانترنت ليس كل شيء، بل قد تستخدمه الدولة الأتوقراطية نفسها ضد شبابها المتمرد كما تفعل إيران في هذه اللحظات، في سعيها لملاحقة المعارضين و اكتشاف أوكارهم و مخابئهم و ضربهم قبل أن يتحركوا؛ و قد يتعرض الانترنت و الإرسال التلفزيوني و الاتصال الهاتفي لكافة أنواع القرصنة و التخريب كما تفعل الصين، وكما تفعل ليبيا هذه الأيام فى محاولة يائسة لإرجاع المارد الشعبي للقمقم الذي خرج منه. (و لقد تعرض كاتب هذه السطور لقرصنة سيرد ذكرها في ذيل هذا المقال.) أما في دول مثل كوريا الشمالية فإن استخدام الانترنت غير وارد أساساً، و الشعب يعيش في العهود الاستالينية مضافاً إليها مفاهيم التوريث التي بدأها البعثي حافظ الأسد، و يتأهب لها إيل كيم سونج الملك الشيوعي المفدّى لكوريا الشمالية. ( و تلك نعمة سيفتقدها جمال حسنى مبارك و سيف الإسلام القذافي ....راحت عليهما!). و بمناسبة الإعلام التقليدي الذي يمكن أن يلعب دوراً مفصليا كذلك في التاريخ، تحدث أحد الكتاب في العدد الأخير من السنداي تايمز البريطانية عن ما حدث في اسبانيا يوم 23 فبراير 1981، عندما نجح انقلاب عسكري بنبسبة 100% واستولى الجيش على مباني الإذاعة و التلفزيون و طوّق الوزارات و اقتحم البرلمان الذي كان منعقدا و أطلق الضابط عدة مجموعات على سقف القاعة، فانبطح النواب على الأرض و ظلوا مستخدمين الساتر لأكثر من عشر ساعات. في هذا الأثناء أصدرت صحيفة ألبيس Al Pais عدداً مسائياً خاصاً لأول مرة، به شجب و رفض و تفنيد للانقلاب على ديمقراطية ما زالت في أعوامها الأولى بعد وفاة الدكتاتور الجنرال فرانكو الذي حكم اسبانيا بالحديد و النار منذ عام 1936. و قام الصحفيون والموظفون والعمال والشباب بتوزيع ذلك العدد باليد لكل من يهمهم الأمر، و من ضمنهم الضباط و الجنود المتحلّقين حول مباني التلفزيون و الضباط الذين احتلوا البرلمان و المتمترسين أمام قصر الملك. كما قرأ الملك نفسه الصحيفة و ارتدى زيه العسكري و خرج من قصره متجهاً نحو التلفزيون دون أي مقاومة، فلقد اقتنع الجميع بما ورد في ألبيس و اقتنعوا و عملوا به؛ و رفع النواب رؤوسهم من تحت المقاعد ليجدوا الضباط منهمكين في قراءة المقال الافتتاحي بالجريدة، و بعد قليل انصرفوا كما أتوا، و كأن شيئاً لم يكن، و خاطب الملك شعبه من التلفزيون معلناً نهاية الانقلاب، و ذهبت جميع الكتائب لثكناتها دون أن تستخدم طلقة واحدة. و لم تعقب تلك المحالة الانقلابية أعمال انتقامية و تصفيات جماعية أو فردية، فقط ملاومة هنا وهناك وإجراءات إدارية مخففة، ثم المزيد من الشفافية و الالتفات لرغبات و احتياجات الجمهور، ثم عاشت ولا زالت تعيش إسبانيا فى تبات ونبات وبحبوحة من العيش تحسد عليها، فلقد كان ناتجها القومي الإجمالي عام 2009 أكبر من الناتج القومي الإجمالي لكل الدول العربية ونرى هذه الأيام أن الإعلام، سواء بحضوره أو تغييبه، عنصر أساسي في بقاء الأنظمة أو زوالها؛ و لكن دوره الأساسي في الديمقراطيات الراسخة هو أن يكون سلطة رابعة (كالقضاء الواقف)، زوداً عن مصالح البلد و دفاعاً عن كافة طبقات و فئات المجتمع، بعيداً عن قبضة الدولة. فلم نسمع البي بي سي تصدّر أخبارها بحركات وسكنات جلالة الملكة، أو خطب رئيس الوزراء، و نسأل الله عز وجل تحديداً أن يعبر شعبنا فى بلاد السودان كبوته باتجاه مجتمع تسوده الشفافية و حرية التعبير و التوزيع العادل للثروة و السلطة، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان، إذ أنه المرشح الرابع بعد تونس ومصر وليبيا. و السلام. ملحوظة هامة: لقد تعرضت لسرقة دنيئة من هاكر تافه، سطا على باسويردي و خاطب بإسمي كل معارفي و أصدقائي برسائل كاذبة. أرجو أن أعتذر للجميع و أشكر الذين هاتفوني مشفقين.. و مثل هذا الهاكر الحقير لا يشبه حتى اللصوص في بلادنا الذين يقولون (إن عشقت أعشق قمر و أن سرقت أسرق جمل) و ليس بضع دراهم، و لا يشبه ود ضحوية فارس الهمباتة الذي قال: ( ما بدبّى لي عنز الفطيم و الشاي...قصدي الفوق... فوق قرنهن وشّاي). نحن بصدد استخدام النت لثورات الشعوب و هناك من يستخدمه للسرقة و النصب. ياللحقارة! والسلام. El FADIL Mohamed Ali [[email protected]]