"ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رثاء الرئيس عبد الرحيم محمود ... بقلم: د. شهاب فتح الرحمن محمد طه
نشر في سودانيل يوم 22 - 03 - 2011


أستغفر الله العظيم
من لوعتي و مناحتي
ومرارتي وتعنتي
من ذلك النبأ اللئيم
يوم أن رحل الأمير عبد الرحيم
رحل الكرم، رحل الفهم
رحل الحَكم، رحل العَلم
رحل النضيف، رحل العفيف
رحل الحليم
رحل العطوف عبد الرحيم
كل البلد أصبح يتيم
إستغفر الله العظيم
فلنرضى بالفقد الأليم
ولنرضي بالوجع المقيم
عزاؤنا أن الأمين عبد الرحيم
في ضيافة الرب الكريم
في أعلى جنات النعيم
ولكنها مدني العزيزة االباكية
من العسير لحالها أن يستقيم
بعد أن رحل الحكيم كبيرها
عبد الرحيم
غاب الزعيم، غاب الفهيم
غاب الحليم
وترك المكانة خالية
في زمن يسوده الفكر السقيم
رحم الرحيم عبد الرحيم
وأستغفر الله العظيم
أستغفر الله العظيم
أستغفر الله العظيم
**********


عبد الرحيم محمود، رجل يضاهيه الوطن
و معهد دراسات أخلاقية الحُكم الرشيد
بدأ السيد عبد الرحيم محمود، حفظه الله، حياته مثله مثل الكثير من أبناء هذا الوطن العظيم، مفتش زراعي في مشروع الجزيرة العملاق، في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، و تدرج تدرجاً مستحقاً في السلك الوظيفي و لكنه تمييز بالتفاني و التجرد و الإخلاص في العمل و حتى سطر حياته أنموذجاً للخدمة المدنية الوطنية الشريفة و خبيرا قومياً ملماً بكل مكونات العمل التنموي و التطور في كل أوجه الحياة و أنشطتها. كانت فلسفته في عمله أن الزراعة ليست تربة و ماء و بذرة و سماد فحسب بل هي هوية و ثقافة و مجتمع أولاه الرجل الكثير حتى أصبح عبد الرحيم نبضاً قوياً و شريان بليغ في جسد الجزيرة المعطاءة، صرحاً و منارة اجتماعية لا يفتر و مضها. ما يزيد على نصف قرن من الزمان و الرجل يتواصل عطائه و حتى اليوم تظل داره العامرة في مدينة ود مدني خلوة لتلاوة القرآن يؤمها الكثير من مختلف طبقات المجتمع، البسطاء منهم و الوجهاء، في مساء كل أربعاء، و يبقى مجلسه برلمان شعبي تناقش فيه كل القضايا التي تهم أهل مدني و أعيانها و تجارها و الجزيرة و مزارعيها و خبرائها، تلجأ له الصفوة و العموم لتحسن الاستماع للحِكم النفيسة و تجارب ثرة و أيضاً لتحظى بحسم الخلافات و التصافي.

ذخرت حياته بالعمل المتواصل و الحافل بالإنجاز و تنقل كثيراً ما بين إدارات الأقسام الجغرافية لمشروع الجزيرة و عايش مجتمعاتها التي أصبح جزء لا يتجزأ منها. في العام 1974 تقلد السيد عبد الرحيم محمود منصب مدير الإدارة الزراعية في مشروع الجزيرة و شهدت تلك الفترة طفرة كبيرة في ارتفاع إنتاجية القطن و جودته. و في العام 1975 تم اختياره من قبل حكومة الرئيس جعفر نميري ليعمل محافظاً لمديرية الجزيرة و التي قسمت الآن إلي عدد من الولايات يصعب علي حصرها. و في العام 1981 و بعد نضج دراسات المفكر السوداني الدكتور جعفر محمد علي بخيت بإطلاق منهجية اللامركزية قام الرئيس نميري بتعيين السيد عبد الرحيم محمود حاكما مكلفا للإقليم الأوسط تكليفاً مؤقتاً و حتى قيام الانتخابات، و كان الإقليم يتكون من ثلاثة محافظات هي الجزيرة و النيل الأبيض و النيل الأزرق. قام الرجل بتنفيذ المقترحات العلمية لتجربة اللامركزية و عمل على إعادة هيكلة العمل الإداري التي نقلت الإقليم إلى عهد جديد و أنجز ترفيع الأجهزة الشريعية ذات الاستقلالية و السيادة الإقليمية، و أيضاً تقنين العلاقات الحكومية ما بين الإقليم و الحكومة المركزية و وضع اللمسات الأخيرة على دستورية الحكم و أنشأ آلية تنظم التداخل ما بين سلطات المحافظات الثلاثة و حكومة الإقليم الأوسط، و اشرف على تأهيل الضباط الإداريين و فعالية الحكومات المحلية، فكانت تجربة ميدانية عظيمة و مجسمات فنية بذل و قدم فيها الرجل عمل بحجم دولة! و في أول مؤتمر قومي جامع لمراجعة جدوى نظرية اللامركزية كانت انجازات عبد الرحيم محمود و مقترحاته المطبقة هي العناوين الرئيسية لفعاليات المؤتمر، بفهم أن الإقليم الأوسط هو أكبر أقاليم السودان و يحتل الإستراتيجية الجغرافية الأهم و هو الاقتصاد السوداني و هو الركيزة و الأساس، فكانت أنظمة الإقليم الأوسط محل إشادة مجلس الوزراء الاتحادي و أصبحت الأنموذج و المرجعية القياس لبقية أقاليم السودان، فقال النميري متباهياً: و الآن تعرفون لماذا اخترت حاكماً من خارج دائرة الإتحاد الاشتراكي.

كان عبد الرحيم محمود رجل دولة بكل ما تحمل تلك الكلمة من معان، متحيزاً لمبدئية الشورى و مصطفاً مع اتحادات و نقابات المزارعين و العمال و المعلمين، و كانوا جميعهم محل احترامه و تقديره، لم يستعدى و لم يقصي أي نقابة أو تجمع على الأسس الحزبية أو الطائفية و لكنه كان يلقى على عواتقهم المسئوليات الجسام و من أروع خطاباته السياسية في أحد أعياد العمال التي لا تزال منقوشة في ذاكرة الكثيرين منهم يوم أن قال لهم أن الدور المناط بهم عظيم و أكبر بكثير من المطالب النقابية الضيقة و الخاصة و طالبهم بأن يكون حراكهم ثورات تنموية وطنية تذخر بالتضحيات و قال أن مكتبه مفتوح لكل قيادات العمل النقابي، و دون تمييز سياسي، لتشاركه مسئوليات الحكم الرشيد، و لم تكن تلك أهزوجة خطابية تلطف أجواء الاحتفال بل أصبحت حقيقة و واقع معاش تشهد له كل جماهير الإقليم الأوسط القديم و حتى اليوم. و في العام 1991 و بعد أيام من دخولي لبيت العم عبد الرحيم بصلة المصاهرة قابلت أحد قدامى المحاربين الشيوعيين، و كان معلما و نقابياً، فصل من الخدمة بعد حركة هاشم العطاء في 19 يوليو 1971، و قال لي أنه كان يذهب لسيد الرحيم في مكتبه بعد توليه منصب المحافظ و يقول له " أدينا من الجيب المنفوخ بى قروش الشعب دي" فكان عبد الرحيم يضحك و يمد له مبلغ من المال و يقول له "و الله يا فلان دي من ماهيتي"، و قال لي أن عبد الرحيم بعد توليه منصب الحاكم ابتدع بعض الوظائف الإقليمية، دون الرجوع للحكومة المركزية، و عين فيها بعض المفصولين و خصوصاً المعلمين الأكفاء. ختم الرجل حديثه، وعيناه تذرفان دمع نبيل، قائلاً و الله هذا رجل لن يجود الزمان بمثله.

بانتهاء فترة التكليف السياسي تم قيام الانتخابات الإقليمية و أقرت جماهير الإقليم، و بإجماع مهيب، بضرورة، اختيار السيد عبد الرحيم محمود حاكماً للإقليم وروجت لذلك الفرح باحتفالات شعبية عارمة. رجل يكره الجعجعة السياسية الجوفاء التي تهدر الطاقات و لا تخدم مصالح الوطن و المواطن، و لا يؤمن إلا بالإنجاز. أسس و رعى جامعة الجزيرة، بنك الادخار، مشروع النيل الأزرق الصحي لمكافحة الأمراض الوبائية، النهضة الصناعية الهائلة التي شهدها الإقليم و الاستقطاب الكبير للأعمال الاستثمارية الضخمة، الإشراف المباشر على كل نشاطات الهيئة العربية للاستثمار، والشركة الكويتية للاستثمار و كل المؤسسات و الشركات التنموية و تقديم العون و التسهيلات لها و تخصيص الامتيازات لشركة سكر كنانة العالمية، وكل ذلك بجانب رعاية الأنشطة الثقافية و الرياضية، و الكثير الذي يتعذر حصره. أهيب بنقابة المهندسين السودانيين و كلية الآثار بجامعة الخرطوم بإرسال بعثة مشتركة لمدينة ود مدني لعمل الحفريات اللازمة للتنقيب عن شوارع الأسفلت التي أنجزها عبد الرحيم محمود.

كان الرجل و لا يزال يعتبر الدين و السياسة صنوين مقدسين لا يجوز استغلالهما من اجل المصالح و المكاسب الخاصة. لم يكن عبد الرحيم محمود سياسياً بقدر ما كان إدارياً و مفكراً تنموياً و تنظيمياً رفيع المستوي و لتلك المؤهلات كان اختياره و كانت تلك أحد نجاحات النميري.

في العام 2000 جاء العم عبد الرحيم في زيارة لمدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، و حل ضيفاً عزيزاً في بيتي و قام نفر كريم من الإخوة السودانيين بتنظيم رحلة صيفية ممتعة على شرفه، شكر الجمع الكريم و لكنه لم يخفي قلقه الشديد و البائن على الأعداد الهائلة من الخريجين من أبناء الوطن و تلك الجموع الطيبة و الخيرة من أسر هجرت أوطانها. كان يستوعب الظروف التي اضطرت الناس للهجرة و لكنه لم يدارى أسفه لذلك و قال أن أهم ثروات السودان هي الإنسان و ليست العملات الصعبة و التي يمكن الحصول عليها بالإنتاج و ليس باستبدال العقول و السواعد البناءة و كان ذلك على النقيض التام مما أوصى به أحد كبار مسئولي حكومة الإنقاذ و الذي كان ضيفاً عند أخوة أعزاء في نفس المدينة، قبل عامين من ذلك التاريخ، و تمت دعوتنا لحفل شاي على شرفه و تعهد فيه المضيفين بفتح أبواب النقاش في كل ما يخص قضايا الوطن، فتقدمنا لذلك المسئول بالسؤال عن إمكانية و ضمانات العودة للوطن؟ فقال الرجل أن وجودكم في تلك الغربة أفضل لكم و لأهلكم لأن بإمكانكم أن تساعدوهم بالعملات الصعبة، و كانت تلك السياسات التشريدية و الاستغلالية هي منهج إستراتيجي لثورة الإنقاذ، و التي كانت و لا تزال تسعى سعياً حثيثاً لزيادة مخزون السودان الإستراتيجي من احتياطي القوة البشرية في دول الخليج و الدول الغربية و المضاربة في بها في أسواق العمالة الرخيصة من أجل العملات الصعبة و التي يشكل المغتربين و المهاجرين و حتى اليوم أكبر عائداتها، و قد ظهرت ثمارها مؤخراً في النهضة التجارية و العمرانية التي عمت البلاد و لا مغالطة في ذالك حيث أقرت سوق الأوراق المالية، في نهايات التسعينيات، أن الخرطوم يدخلها كل صباح ما يفوق الستة مليون دولار من تحويلات المهاجرين و المغتربين أي ما يفوق المليارين من الدولارات في السنة، و يسارع أصحابها باستبدالها بالعملة السودانية من أجل المعايش و تذهب الدولارات لجيوب أشخاص اعترف شيخ الإنقاذ، الدكتور حسن الترابي، أنهم يشكلون فقط 9% من جمهور تنظيم التوجه الحضاري.

و بما أن السيد عبد الرحيم محمود رجل قليل الكلام و شديد الاحترام لكل الناس و يجيد الاستماع لهم و ديمقراطياً في كل شيء فكانت تلك دعوة صريحة ليسأله البعض، في رحلة شيكاغو، عن أسباب مشاركته في نظام مايو فقال بأنه شعر بأن الرئيس نميري كان يعتبر نفسه قائداً وطنياً و يعشم في أن يري السودان في مصاف الدول المتقدمة بدليل أنه كان يبحث عن الكفاءات الأكاديمية و الوطنية لتحمل أعباء السلطة و لم يكن يتقيد بتوصيات اللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكي لأنه يؤمن أن الأمانة ملقاة على عاتقه هو شخصياً، مثله مثل الزعيم جمال عبد الناصر و القائد الصيني ماو تسي تونغ، فعهد بالسلطة التنفيذية للخبراء الوطنيين دون فحص أيدلوجيي. و تلك كانت حقيقة و مثال ذلك استدعاء المرحوم الشيخ حسن بليل من أحد المنظمات الدولية ليكون محافظاً لبنك السودان. أما السوق فقد تركه نميري لكل السودانيين و كان ذلك باختلاف كبير عن منهجية إخواننا الإسلاميين الذين جاءوا إلى السلطة بنهم غريب ليستولوا على كل شيء، سوق و سُلطة و عسكر و حرامية. قال أن الحياة لا يجب أن تتوقف لأي أسباب سياسية و أنه عندما كلف بمنصب المحافظ كان على قناعة بأن ذلك امتداد طبيعي للتدرج الوظيفي الذي هو أهل له و انه من الواجب الوطني و الأخلاقي أن يبذل ما في وسعه من أجل مواطني مدني و الجزيرة التي هو منها، و كان كل أهل الجزيرة يؤمنون بذلك.

يتباهى نبل عبد الرحيم محمود في حرصه الكبير على المال العام. لم يزهو بسلطاته المطلقة في زمن الرخاء الحكومي، و ترك المنصب و في خزينة الإقليم ما يزيد عن الستة و الثلاثين مليون جنيه، أي ما يقارب العشرة ملايين من الدولارات. كان يستغل المرسيدس الحكومية للعمل الرسمي ولم يحدث أن هرولت أمامه المواتر و العربات التشريفية إلا في معية الرئيس و كبار الزوار كما يقتضي البروتوكول، أما في الأمسيات و المشاوير الخاصة فلا أظن أن أحد في مدينة مدني ينسى السيارة البيجو البيضاء الخاصة، موديل 82، و التي اشتراها بحر ماله و بالأقساط الشهرية. كانت الناس تقابل السيد الحاكم في أزقة و حواري مدينة مدني يقود سيارته بنفسه لأداء واجبات العزاء و المجاملات الاجتماعية، دون حراسة أو بطانة. و بخلاف كثير من الحكام و الولاة الذين يفضلون البقاء في العاصمة بحجة المتابعة و هم في الحقيقة يرغبون في أوضاع برجوازية لأسرهم، كان السيد عبد الرحيم محمود لا يبيت ليلة واحدة في الخرطوم و لم يكن متقارباً مع مراكز السلطة و القوة في الخرطوم بل كان يقضى جولاته في اتجاه عكس التيار، يجوب القرى و البوادي و يجره الحنين لديار المزارعين الغبش. كان الرئيس جعفر نميري يزوره في مدني أكثر مما كان عبد الرحيم يزور النميري في الخرطوم. كثيراً ما كان الرئيس نميري يقضي بعض الوقت في مدني التي تربطه بها ذكريات و عشق عتيق.

بقيام انتفاضة أبريل 1985 انتهت فترة حكم الرجل الفريد و كان من الطبيعي أن يوضع رهن التحقيق و التفتيش لتكتشف السلطات القضائية أن كتابه المقروء كان أنصع من ضياء الشمس وبحثوا ليجدوا في فترة حكمه قد نفذت خطط إسكانية كبيرة و وزعت فيها قطع سكنية على قدر كبير من الامتياز و أنشأت فيها الأحياء الراقية و لكنني طلعت منها كيد و لم أجد في عُهدة ابنته حفنة من تراب لكي أسفّها، لا في مدني و لا ماليزيا، لأن الرجل لم يختص أي من أولاده أو بناته بأي منها كما تفعل جماعات تعرف نفسها. و بعدها لم يسعى الرجل لأي منصب في أي حكومة و لم يفعل كما فعل متملقي كل الحكومات، رجال هرولوا في اليوم الثاني لانقلاب الإنقاذ يستجدون المناصب و لا يزالوا. أما الرجل فلا يزال يعطي و لا يأخذ:
1- رئيس مجلس إدارة جامعة الجزيرة.
2- عضو و مستشار في اللجنة القومية لإعادة تأهيل مشروع الجزيرة.
3- رئيس إتحاد الصناعات لولاية الجزيرة.
4- رئيس مجلس إدارة شركة الجزيرة للدواجن.
5- رئيس مجلس الأمناء لنادي الإتحاد الرياضي، مدني.
6- رئيس مجلس إدارة شركة أرباب المعاشات بمدني.
7- و الأمين المالي للكثير من اللجان للحرص ورفع الأرصدة بالتبرعات و غيرها.

كل تلك المسئوليات الجسام و كل تلك التكاليف ترهق الرجل و تسعده لإيمانه القاطع بأن الوطنية ليست تشريف اجتماعي بل رسالة و أمانة تؤدى. نسأل الله أن يواليه بحفظه مرشداً و ملهماً للأجيال و يديم عليه نعمة الصحة و العافية.

أما تلفزيون السودان الذي يدعي القومية و يتقوقع في عاصمة المعز لدين الله الإنقاذي فليهنأ بحاله و يترك القومية في حالها، و إذا كان برنامج أسماء في حياتنا الذي يقدمه الإعلامي الكبير الأستاذ عمر الجزلي فقط من أجل البرستيدج الاجتماعي(Social Prestige) للمستضافين فلا أعتقد أن السيد عبد الرحيم محمود في حوجة لمكياج تاريخي لأنه و الحمد لله لا يزال في قمة مجده و عطائه، حفظه الله، و أما إذا كان البرامج للإضاءة المجتمعية و الاستنارة الفكرية و تعليم الأجيال و تعريف معنى الوطنية و العطاء فأود أن أذكر الأخ عمر الجزلي بأن الأولمبياد لا يجوز بغير الشعلة.

بذلك أناشد حكومة السودان بأن تتفضل بإنشاء معهد باسم السيد عبد الرحيم محمود لدراسات أخلاقيات الحكم الرشيد يخصص لتدريب الولاة و المحافظين المندهشين و الذين يفتقدون للمؤهلات و المعادن القيادية النفيسة و ليتعلموا كيف يكون الواجب تجاه الوطن و المواطن و المال العام، و أن يرتقوا إلي مستوي الأمانة التاريخية، و حتى لا تكون الحكومات الولائية عبارة عن هيئات جبائية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.