عندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في ليبيا في أيامها الأولى تضمن أحد التقارير التي بثتها قناة الجزيرة عن الحدث تعليقا معبرا؛ هو أن الشعوب في تونس ومصر كانت تهتف: (الشعب يريد إسقاط النظام)، و الشعب الليبي الان يردد ذات الهتاف؛ ولكن نظرا لأن ليبيا وضعها مختلف لأنها دولة بلا مؤسسات وبلا نظام إذ ان القذافي هو القانون وهو النظام وهو كل شيء فإن الأجدر أن يهتف الشعب الليبي قائلا:(الشعب يريد إنشاء النظام)! استوقفتني هذه العبارة الموحية فلا شك أن دكتاتورية القذافي هي نسيج وحدها في الفظاظة والفجاجة إذ انها تمتزج بهرطقات وترهات فريدة من نوعها فكانت النموذج الأقبح في (ملة الاستبداد والفساد) في المنطقة، والنموذج الأكثر تجسيدا للعته الفكري والسفه السياسي، مما يجعل الشعب الليبي حقا يحتاج إلى إنشاء النظام، فالدكتاتوريات نفسها - وتبعا للظروف والخلفيات التاريخية لكل بلد وتبعا لطبيعة كل نظام دكتاتوري - متفاوتة في درجات تغييبها للشعوب ودرجات مصادرتها للحريات ودرجات إغلاقها لمنافذ التوعية والتنوير، ودرجات تقديسها (للصنم) الحاكم، فهناك دكتاتوريات تسمح بوجود قدر ما من التنظيم النقابي وقدر ما من الحريات الصحفية والتعددية الحزبية، وتحتفظ بشكل ما من المؤسسات التشريعية المنتخبة – ولو بالتزوير- وتمارس بعضا من تقاليد وأعراف الحكم المدني الحديث وحكم القانون ولو بشكل صوري ، وتحتفظ ببعض المؤسسات القومية الراسخة(الجيش المصري نموذجا)، وتبعا لهذا الاختلاف تختلف الضريبة المطلوب دفعها في عملية إسقاط النظام، فعندما يكون النظام مبالغا في تغييب شعبه، ومغاليا في سحق المؤسسات وسافرا في إهدار أي معنى لحكم القانون واختزال الدولة في شخصه وعشيرته ترتفع تكلفة التخلص منه وتصعب مهمة بناء النظام واحتواء الفوضى بعد سقوطه ولكن الحاجة ل(إنشاء النظام) إذا نظرنا إليها من زاوية أعمق لا تقتصر على ليبيا وحدها، إذا كنا نعني بالنظام (النظام الديمقراطي)، فكل المنطقة العربية تحتاج إلى إنشاء الديمقراطية إنشاء ببذر بذورها في الفكر والثقافة، في المناهج التعليمية والوسائل التربوية، في الكيانات الشعبية التقليدية وفي السلوك الاجتماعي، لأن المنطقة العربية رغم الاختلافات والتباينات في التجارب التاريخية لشعوبها تشترك جمعيعها في أن الديمقراطية غائبة تماما عنها، غائبة كفلسفة حياة وكثقافة سياسية وكممارسة اجتماعية، تسونامي التغيير الذي ضرب هذه المنطقة وأطاح بنظامين معتقين في (الاستبداد والفساد) وهو الان يهز بقوة أركان ثلاثة أنظمة أخرى(والحبل على الجرار) هو بشارة بميلاد عهد جديد في المنطقة يختلف عن العهد القديم الذي مثلته مجموعة من الأنظمة السياسية التي اختلفت في توجهاتها الايدولوجية والسياسية وخلفياتها الاجتماعية ولكنها وللمفارقة اشتركت وإلى حدود كبيرة في تجسيدها لخصائص (ملة الاستبداد) بامتياز! وهذه الخصائص هي: نظام سياسي قابض محروس بترسانة أمنية وعسكرية متمرسة في قمع المعارضة بكل أشكالها، وقوانين مقيدة للحريات المدنية والسياسية، وعلى رأسه رئيس متشبث بالسلطة ويتطلع للحكم مدى الحياة وفي سبيل ذلك يعبث بالدستور والقانون ويجري الانتخابات العامة(المزورة) كل فترة ليفوز بنسبة لا تقل عن 99%، إعلام خاضع للرقابة المباشرة أو غير المباشرة بصورة تجعله مكمم الأفواه وغير قادر على ممارسة دوره في فضح وتعرية ممارسات الاستبداد والفساد والنهب المنظم لمال الشعب، اقتصاد ينخر فيه سوس الفساد والمحسوبية والجشع يحتكر فرصه ومزاياه محاسيب الحزب الحاكم وحماة سلطته، ومحاسيب الحزب الحاكم أنفسهم درجات أعلاها أقارب الرئيس وأصهاره وبطانته الذين ينتظمون في مافيات اقتصادية تضع نفسها فوق القانون وتتحرك في عمليات سلبها ونهبها لموارد الشعب مسنودة بجهاز الدولة(المختطف من قبل الحزب الحاكم والمسخر لخدمته) ومسنودة كذلك بآلة قمع الدولة، فلا يجرؤ كائن من كان أن يتساءل في سره من أين لهم المليارات من الدولارات وقصور (ألف ليلة وليلة) التي تتبرج في أوطان الفقر والحرمان والعقارات الفاخرة في عواصم أوروبا وشواطيء أمريكا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية، فهذه الملامح السياسية والاقتصادية لنظم(الاستبداد والفساد) ملامح وخصائص متشابهة مهما اختلفت الرايات والشعارات التي يرفعها كل نظام، مما يؤكد أن الاستبداد ملة واحدة سواء كان يرفع شعارات علمانية مثل النظام التونسي والمصري، أو اشتراكية أو قومية عربية كالنظام السوري، أو إسلامية كالنظام السوداني، أو متخبطة بسفه وعشوائية كالنظام الليبي، سلوك المستبدين متشابه والأضرار التي يلحقونها بشعوبهم متشابهة والكوارث التي يسببونها لدولهم متشابهة ولذلك يجب أن يكون الموقف من (ملة الاستبداد) واحدا! وقد هلت بشائر هذا الموقف الواحد من هذه الملة عندما أصبح النشيد المفضل الذي تلهج به الشعوب من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا وحتى الأردن والبحرين هو (الشعب يريد إسقاط النظام) وبهذا قطعت الشعوب نصف المسافة إلى الحرية والكرامة!! أما النصف الثاني فسوف تخطو الشعوب الخطوة الابتدائية نحوه عندما تلهج بذات الحماس والإرادة والتصميم بنشيد (الشعب يريد إنشاء النظام) وبشرط أن يكون النظام المعني الذي تستبطنه هذه الشعوب في عقلها ووجدانها هو (النظام الديمقراطي معرفا بألف ولام التعريف)، فالنظام الديمقراطي هو الأكفأ من بين كل النظم في استيفاء شروط الحكم الراشد ممثلة في المشاركة والشفافية والمحاسبة وسيادة حكم القانون، وهو الأكفأ كذلك في صون وحماية آليات إنفاذ شروط الحكم الراشد ممثلة في القضاء النزيه المستقل، والصحافة الحرة، الخدمة المدنية القومية،والتنظيمات النقابية المدافعة عن حقوق قواعدها، والسلطة التشريعية المنتخبة انتخابا حرا نزيها والتي تنوب عن الشعب نيابة صحيحة في (حراسة أمواله وموارده ومصالحه الاستراتيجية) عبر الرقابة الدقيقة المخلصة على السلطة التنفيذية، وكيفية تكوين هذه الآليات والمباديء التي تحكم عملها متضمنة بالتفصيل في دستور هو القانون الأعلى في البلاد، إن بناء النظام الديمقراطي على النحو المذكور هو الهدف الأسمى الذي نتمنى أن تحتشد له طاقات الشعوب الباحثة عن الحرية والكرامة، فقبل أن الانحياز لهذا الحزب أو ذاك يجب الانحياز للنظام الديمقراطي ، لأنه النظام الوحيد القادر على حماية الشعوب من ويلات الاستبداد والنظام الوحيد القادر على حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والنظام الوحيد الذي يحقق التداول السلمي للسلطة استنادا لإرادة الشعوب، وبالتالي هو النظام الوحيد الذي يملك قدرة ذاتية على التطور والتصويب والتصحيح المستمر ، فمن يتولى السلطة وفق الآليات الديمقراطية يعلم أنه مفوض من الشعب لحكم البلاد لعدد محدد من السنوات بعدها سيقيم الشعب أداءه ومدى التزامه ببرنامجه، ويمكن في أجواء التنافس الحر أن ينتخب الشعب غيره إن كان أداؤه ضعيفا، وأهم ميز للديمقراطية هي أن التغيير في إطارها يتم دون دفع فاتورة من الدماء والدموع نظرا لطبيعتها السلمية التي تستبعد العنف، إن بناء نظام ديمقراطي قادر على حماية نفسه وعلى الإنجاز التنموي و تحقيق الأمن و الاستقرار السياسي والجدوى الاقتصادية في الدول العربية والأفريقية التي لم تتراكم فيها تقاليد الممارسة الديمقراطية والتي تعاني من الأزمات المرتبطة بالتخلف العام في هذه الدول عملية تاريخية شاقة وصعبة وذات أبعاد متعددة ومتداخلة فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية ومثل هذه العملية لن تتم (ضربة لازب) وتحتاج إلى عسر مخاض في الزمن!! ولكن لا مفر من هذا المخاض، وأية محاولة للفرار منه هي سباحة عكس تيار التاريخ! rasha awad awad [[email protected]]