القوز يقرر السفر إلى دنقلا ومواصلة المشوار    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    ⛔ قبل أن تحضر الفيديو أريد منك تقرأ هذا الكلام وتفكر فيه    إلي اين نسير    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى عثمان اسماعيل .. وأنا! ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 27 - 04 - 2011


[email protected]
(1)
السودانيون عموماً، وكثير من المسلمين، يكرهون استخدام لفظة "أنا". أما اذا اضطر الواحد منهم الى استخدام اللفظة فانه يُتبعها على الفور بجملة الاستعاذة الاعتراضية، كأن يقول: (أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا)، ثم يواصل الحديث. الأمر فى جوهره وثيق الصلة بالثقافة الدينية. التنصّل من كلمة أنا، وتبعاتها المفترضة، من المسائل التى إندلقت حولها أحبارٌ كثيرة فى كتب الفقه. القرآن يقول: (فلا تزكوا انفسكم، هو أعلمُ بمن اتقى). وتوظيف "الأنا" فى لغة الخطاب يستبطن فى الفهم العام بالضرورة تزكية النفس وتعلية الذات، وهو ما يجعل من اللفظة مدعاة للانكار والاستغفار. استند بعض المشتغلين بالفقه فى ذلك الى ان أبليس هتف بلفظة الأنا، فى الاحتجاج على الله بكونه افضل من آدم الذى خلق من تراب، وذلك حين قال:"(أنا خيرٌ منه). وللامام ابن القيّم تحذيرٌ من اللفظة، ومن كلمة "لي" أيضاً، التى اكثر منها فرعون، وكلمة "عندى"، اذ قال قارون: (أنما اوتيته على علمٍ عندى).
(2)
غير ان فريقاً آخر من العلماء سخّفوا التفسيرات والتخريجات والاجتهادات الفقهية المتصلة باللفظة على وجه الجملة، وبخّسوها، وصنفوا الاستعاذة من كلمة "أنا" على أنها بدعة، لا أصل لها فى الدين. وانها لا تعدو ان تكون نوعاً من التواضع الكاذب المزخرف. كتب واحد من هؤلاء العلماء الأفاضل فى فتوى منشورة بموقع "أهل السنة والجماعة" على الشبكة الدولية: (التعوذ من كلمة "أنا" عند كل استعمال لها باطل، معارضٌ لِما ورد عن رسول الله، فقد ثبت عن رسول الله "ص" أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر". كما انه معارضٌ لِما جاء في القرآن من قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ). فاستعمال كلمة "أنا" لا بأس به، فمن قال "أعوذ بالله من كلمة أنا" لا يُكفّر، لكن يقال له: "إطلاق هذه الكلمة لا يجوز"). وأفاد عالمٌ جليلٌ آخر:(الاستعاذة من لفظة أنا لا أصل لها، فكلمة "أنا" إنَّما هي ضميرٌ مِن الضمائر، فلا شيءَ في قولها وتداولها في الكلام. قال صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وغير ذلك كثيرٌ في كلامه. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الكلمة مراراً رداًّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليه).
(3)
على خلفية تلك العقيدة الصلبة، المستكنّة فى عمق الثقافة السودانية الاسلامية، التى تميل الى أبلسة وتشطين لفظة "أنا"، المستنكفة للحديث عن الذات والتفاخر بالخصائص والمواهب الشخصية، واجه كثير من السودانيين ذوى التأهيل الاكاديمى والمهنى المتميز، عند بدايات موسم الهجرة السودانية الواسعة الى الولايات المتحدة فى اعقاب انقلاب العصبة المنقذة عام 1989، مشاقاً جمة فى الحصول على الوظائف المدرّة للدخول العالية التى يستحقونها فى مجالات تخصصاتهم الاصلية.
ومن موقع التجربة المباشرة والمعايشة اللصيقة تكونت لدى قناعات مطلقة ومعارف دقيقة بالعوامل والاسباب التى خلقت وعمقت معضلة التوظيف هذه بالنسبة للجيل الاول من المهاجرين السودانيين الأمريكيين. المدخل الاساسى للتوظيف فى الولايات المتحدة هو رصد وتقويم مستوى أداء المتقدم للوظيفة من خلال المعاينات Interview ، التى تجريها الشركات الخاصة والوكالات الحكومية. والذى عرك مناهج "المعاينات" الامريكية يعرف بالضرورة أن ال "أنا" هى العصب الاساسى الذى يحكم الأداء ويفرز النتائج. غير أن هذه "الأنا" أصبحت فى ذات الوقت بمثابة الصخرة التى تحطمت عليها فرص التوظيف بالنسبة لقطاع واسع من السودانيين الذين يتصف اداؤهم فى غالب الاحوال بالتواضع والاضطراب، لا سيما عندما يواجهون بالسؤال الامريكى المحوري: (حدثنا عن نفسك). أما اذا ووجه المتقدم السودانى بالسؤال التقليدى الذى لا بد منه عند اليانكى: (لماذا تعتقد انك افضل المرشحين لهذه الوظيفة)، كانت مصيبته اكبر وأشد، واداؤه اكثر ارتباكاً وضموراً. من اشق الاشياء على السودانى ان يقول: "أنا افضل المرشحين"، "أنا صاحب المعارف والقدرات والكفاءات الاعلى من الآخرين"، "أنا صاحب انجازات كبيرة فى الدنيا"، "أنا الذى فعل كذا!"
والامريكيون لا يقتنعون بأهلية طالب الاستخدام الا اذا كان ذرب اللسان، فصيحاً، فى تزكية النفس والشهادة لصالحها، مع التجرد الكامل من فضيلة التواضع. تجد المرشح السودانى للوظيفة يتمتم بالانجليزية: أنا.. أنا، وفى مؤخرة رأسه يتردد الصدى بالعربية: أعوذ بالله من كلمة أنا، فيعقل لسانه، فلا يُحسن ولا يُبين. وفى هذا التناقض المركزى بين ثقافة الاستحياء الراسخة فى الوجدان، وإرادة المجاهرة والفخر التى تقوم عليها الثقافات الاخرى، يضيع بنو جلدتنا ممن يسعون الى الجمع بين الحسنيين: فضيلة التواضع وخميلة الوظيفة!
(4)
أنا أميل الى الرأى الفقهى الذى يذهب الى انه لا أصل للاستعاذة من كلمة أنا، وانكارها والتنصل من عقابيلها المزعومة، وان الفهم السائد عند البعض للآية الكريمة (ولا تزكوا انفسكم ..) فهم مختل لا صلة له بالدين واصوله. كنت قد كتبت فى مقال قديم بعنوان (تجليات النخبة وخيبات العوام / 2008) عن الاستغلال السياسى السيئ والخبيث للآية المذكورة، وظاهرة "التواضع الكاذب المزخرف"، وتوظيفها لأغراضٍ دنيوية، عندما تعرضت لممارسات الشيخ حسن الترابى زعيم ومنظر الحركة الاسلاموية الحديثة فى السودان، فك الله أسره، إبان قيادته لتنظيم الجبهة الاسلامية القومية خلال سنى الديمقراطية الثالثة المغدورة. فقد جعل الشيخ الترابى من تلك الآية، ومن بعض الاحاديث المنسوبة الى النبى الكريم، مثل حديث (الإمارة [او الولاية] لا تعطى لطالبها)، وحديث:(انا لا نولى الامر من سأله او حرص عليه)، مدخلاً للتحكم فى التنظيم والسيطرة عليه وتوجيهه وفقاً لارادته المطلقة. وكان من مؤدى ذلك ان تفاقمت، تحت ظلال الاستراتيجيات الترابية المتلفحة بالنصوص الدينية الحاضة على الانزواء، والترفع عن طلب المسئولية، واستنكاف التطلع الى المواقع المتقدمة، تفاقمت ظاهرة غياب التنافس السياسى الشريف المكشوف داخل التنظيم، وتمكن الشيخ من السيطرة على الحركة سيطرةً مطلقة، واللعب بمفاتيح التنظيم لعب الصوالج بالاُكر، وفقاً للرؤى النقدية لتلميذ الشيخ السابق الدكتور التجانى عبد القادر، كما فصّلها فى سلسلة مقالاته الشهيرة بعنوان: (العسكريون الاسلاميون أمناء على السلطة ام شركاء فيها/ 2005).
وكنت قد كتبت فى هذا الصدد: (في العام 1986 جلست مستمعا للشيخ حسن الترابي وهو يتحدث في ليلة سياسية حاشدة بضاحية بري، دعما لمرشح الجبهة الاسلامية القومية عن تلك الدائرة عثمان خالد مضوي. الفكرة المحورية التي اراد لها الترابي ان تنقدح في اذهان الآلاف المتراصة كانت تدور حول الاختلاف النوعي بين منهج الجبهة ومناهج الاحزاب الاخري في الممارسة السياسية. وفي تبيان ذلك قال المنظر السياسي و الخطيب المفوّه: "ان احدا من قيادات الجبهة وكوادرها لا يسعي للسطة والمناصب، و انما يدفعه زملاؤه المجاهدون الي مسالكها دفعا، ذلك ان الجبهة قيادة وقاعدة تعمل وفق ادب القران و هديه في التنزيل المجيد: "فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقي". ولا بد أن السنوات التي نافت علي العشرين منذ دلق الترابي تلك الكلمات الساحرات في آذان انصاره قد قالت قولها وفعلت فعلها فتمايز حقها وباطلها، و رزق الله هؤلاء الانصار ما رزقهم من رؤية الحق او الباطل. وواضح لكل من القي السمع وهو شهيد، في يوم الناس هذا، ان تلك المقولة ربما كانت تمثل من حيث التربية السياسية يقين البعض في تنظيم الجبهة، ولكنها لم تكن بالقطع لتعكس حقيقة شمولية جامعة. وآية ذلك اننا عشنا ورأينا، رؤية العين، عروضا حية لشيخ الجبهة الفاني وهو يجالد حوارييه في رائعة النهار، مجالدة الكواسر المستوحشة، و يكشف اظهارهم و يميط عن عوراتهم استارها، طلبا للسلطة و الصولجان. وكانت كلما استعصت ابوابها واستغلقت عليه، انحسر عن وجهه برقع الحياء، فازداد مجالدة و مغالبة و فضحا للسوءات!
قفزت الي ذهني مقولة الترابي تلك و انا اقرأ مبحثا متميزا كتبه تلميذه الذي شب عن الطوق، د. التيجاني عبدالقادر، و فيه يتناول بالتحليل ظاهرة غياب التنافس السياسي المكشوف داخل تنظيم الجبهة، الامر الذي اضعف موضوعيا من مركز الكادرات المقتدرة و المؤهلة، والعاجزة - في ذات الوقت - عن التعبير عن رغائبها "المشروعة" في التصدي لادوار القيادة تحت طائلة العيب وتزكية النفس، و قد ادي ذلك الي فتح الابواب علي مصاريعها امام نفر من محدودي القدرات الذين ما كان لهم من سبيل الي مسالك السلطة والقيادة الا من خلال الالتفاف حول شخص محوري يعبر – ذلك النفر - عن رغباته وينفذون سياساته)!
(5)
قرأت فى بعض الوسائط الاعلامية يوم امس الاول خبراً عن ترشيح الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل لمنصب أمين عام جامعة الدول العربية. كنت فى الاصل اعتقد ان ترشيح أى شخصية لمثل هذه المناصب هو اختصاص سيادى فى المقام الاول، كما هو الحال فى الدول الاخرى. ولكننى عرفت مؤخراً ان الأمر غير ما ظننت، فنحن بلد فريد. فى السودان بامكان الصحف أيضاً ان تقدم مرشحيها لهذه المناصب!
عندما اكملت قراءة المادة المنشورة تنامى عندى خاطر عجيب. اذ لاحظت أن المادة معدّة بعناية شديدة، والفقرات مصاغة بلغة مرتبة، وذكية، ومحكمة. ثم أن النشر جاء فى وسائط ورقية ومواقع صحفية الكترونية داخلية وخارجية، فى شكل تقرير اخباري يصور ترشيح الصحيفة وكأنه مبادرة ذات خطر. عندما فرغت من القراءة قلت لنفسي: هذا ليس كلام الهندى عزالدين. بل هو عمل مدروس، فى شكل بالون اختبار، تقف وراءه مجموعة من خلصاء الدكتور مصطفى عثمان، تسعى - بعلم الدكتور ورعايته فى أغلب الأمر - لتنشيط مساعى الترشيح وتراقب ردود الفعل! مما تبادر الى ذهنى ايضاً أن الرئيس المشير عمر البشير ربما كان راغباً فى ترشيح الرجل، فهو من خلصائه، ولكن جهات اخرى داخل المجموعة الحاكمة ربما لم ترُقها مثل هذه الخطوة. وزير الخارجية على كرتى مثلاً، أو رجل النظام القوى نافع على نافع. كله وارد. ولكن الثابت بالقطع واليقين أن تحريك القطع البحرية داخل محيط المنظومة الحاكمة اصبح اكثر تعقيداً فى الآونة الاخيرة. والحال كذلك فأن اعتماد استراتيجية "بالونات الاختبار"، والتزام الحذر، وتفادى مكامن الخطر، تظل استراتيجية فاعلة ولا بأس بها أبداً. خاصةً فى ظل حالة التضارب، وتناقض المصالح، والصراعات التى برزت رؤوس جبالها الثلجية من داخل المحيط. هل أتاك - أعزك الله - نبأ المبارزة بين الدكتور نافع على نافع والفريق صلاح قوش مستشار الامن التي اتخذت ميداناً لها - فى العلن وعلى رؤوس الاشهاد - منابر الاذاعات والمؤتمرات الصحفية، حول المبادرات السياسية التفاوضية التى يقودها الاخير تحت مظلة ما يسمي بمستشارية الامن القومي، والتى انتهت بإقالة الاخير؟!
الخبر يقول فى عنوانه: ("الأهرام اليوم" السودانية تطلق مبادرة لترشيح د. مصطفى عثمان لمنصب الامين العام لجامعة الدول العربية). وتقول مقدمة المادة الصحفية المنشورة:(أعلن الهندي عز الدين رئيس تحرير جريدة "الأهرام اليوم" السودانية عن تبني جريدته لفكرة ترشيح د. مصطفى عثمان إسماعيل" مستشار الرئيس السوداني لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية)! يا سبحان الله. فى الزمن الذى مضى كانت الصحف تتبنى مشروعات محدودة مثل مشروع الدورة المدرسية، الذى تبنى فكرته ووقف وراءه الصحافى الرياضى المخضرم حسن مختار. او ربما مشروعات سكنية، كمشروع توزيع القطع السكنية فى الحى الذي يعرف حالياً باسم "الصحافة"، تيمناً بالصحيفة المعروفة وصاحبها المرحوم الاستاذ عبد الرحمن مختار، صاحب الفكرة، وغير ذلك من المشروعات تقع فى دائرة المناشط الرياضية والخدمية. تلك كانت هى حدود المبادرات. بل ان الاستاذ حسين خوجلى نفسه، الذى خرج الهندى عزالدين من معطفه، لم يخطر بباله قط - برغم تفكيره الخلاق، وطموحه الشاطح المتجاوز لكل حدود المألوف، ان يتخذ لنفسه دور المتبنى لترشيح السودانيين للمناصب الاقليمية والدولية، بل ولا حتى المحلية!
لكن صحافة الحوار الذى غلب شيخه مضت قدماً، لا تلوى على شئ، فأصبحت، بحمد الله وتوفيقه، تتصدر للقضايا الكبرى التى تقع فى دائرة اختصاص رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الخارجية!
(6)
لا علم لي على وجه التحقيق بما الذى تعنيه عبارة (تبنى الصحيفة لترشيح فلان أميناً عاما للجامعة العربية)، وعلم الله واسع. كما أننى - والحق يُقال - لم اكن اعرف ان الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل يصلح أصلاً لمثل هذا الترشيح. لا لعلةٍ قادحة، تشوبُ سيرة الرجل او أهليته لا سمح الله. ولكننى كنت اعتقد ان أمين عام جامعة الدولة العربية ينبغى ان يكون عربياً قُحاً. صحيح ان الدكتور مصطفى عثمان عربي الثقافة، وقديما قال بعض القومجية: (من تكلم العربية فهو عربى). ولكن الحقيقة أيضاً ان الدكتور - مثلى تماماً - أعجمي لا تسرى فى شرايينه نقطة دم عربية واحدة. فهو نوبى أُماً واباً. واللغة العربية عند أجيالنا الاولى، نحن النوبيين، تعتبر لغة ثانية، تعلمها بعضنا فى المدارس، مثلما تعلم ابناء وبنات الجعليين، من سلالة العباس، اللغة الانجليزية، كلغةٍ ثانية، فى المدارس أيضاً. والحال كذلك فاننى لست على يقين كامل من أن أشراف الجزيرة العربية من العربان الاقحاح، ونشامى الاردن والشام والعراق الأفصاح، سيقبلون بالدكتور أمينا عاماً عليهم.
نصل الآن الى مربط الفرس. اذا كان الترشيح ممكناً ويسيراً للدرجة التى يمكن ان تضطلع بأمره صحيفة يومية، كما تبين الآن ، فأسمح لى - اعزك الله - ان أُعرب عن دهشتى واستهجانى الشديدين لتخلف صحيفة "الاحداث" عن ترشيحى، أنا، لهذا المنصب الرفيع.
أنا - واعوذ بالله من كلمة أنا - لا اخفى تطلعى لتولى منصب قيادى لامع فى هذه الدنيا قبل ان تفنى. وقد تزايدت هذه الرغبة عندى مع ارتفاع السن وتزايد الخوف والقلق من أن اموت قبل ان احقق حلمي. ولا أجدني قادرا على احتمال مزيد من التأخير بحيث يأتينى المنصب فى سن الشيخوخة، فأجد نفسى، من حيث لا أحتسب، جالساً على سرجٍ واحد مع ذلك العجوز التونسى الذى لم يصدق أن امنيته تحققت بعد أن شاب، واستيأس من مُراده، فأخذ يردد عبر قناة الجزيرة: (لقد هرمنا .. هرمنا .. بانتظار هذه اللحظة التاريخية)!
(7)
اسمح لى - ايها الأعز الاكرم - ان ازكى نفسى لمنصب الامين العام لجامعة الدول العربية، وادعو ادارة صحيفة "الاحداث" ل "تبني" ترشيحى بأعجل ما يتيسر. لا سيما واننى ادرك تماماً ان فرصى فى الفوز تفوق فرص الدكتور مصطفى عثمان بما لا يقاس. لماذا؟ اولاً: أنا - وأعوذ بالله من كلمة أنا - حاصلٌ على الجنسية الامريكية، بجانب جنسيتى السودانية الاصيلة، الامر الذى يعنى ان ترشيحى سيحظى بدعم الولايات المتحدة. صحيح ان أمريكا ليست دولة عربية، ولكن راعى الضأن فى الخلاء يعرف ان عدداً كبيراً من الدول العربية تحرص على ان يكون المرشح مرضياً عنه في واشنطن.
ثم - وهذا هو الاكثر اهمية فى هذا الصدد - ان عدداً مقدراً من الانظمة العربية، التى سيكون لها الدور المحورى فى اختيار المرشح، تعيش حالياً حالة من الاضطراب والقلق نتيجة للثورات التى تنتظم العالم العربى. والجميع يعلمون أن الانظمة هى التى تصوّت وتختار الامين العام لجامعة الدول العربية، وليس الشعوب. ومن غير المتوقع ان تقوم هذه الحكومات العربية القلقة بمساندة مرشح مثل الدكتور مصطفى عثمان، أعرب علانيةً، وفى اكثر من مناسبة، عن تعاطفه مع الشعوب الساعية الى اسقاط الانظمة. أما بالنسبة لحالتى أنا فالوضع يختلف اختلافاً جذرياً. أنا، ولا فخر، الكاتب الصحفى الوحيد فى العالم العربى بأسره، من المحيط الى الخليج، الذى وقف مع الانظمة ضد الشعوب. وإذ لم يكتب الله لحبيبنا جمال مبارك ان يبقى فيدعم ترشيحى، فالبركة فى حبيبنا الآخر سيف الاسلام القذافى، الذى لا بد ان يكون قد طالع مقالنا باللغة الانجليزية، بعنوان " مآلات الحرب فى ليبيا"، وقد نشرته قبل اسبوعين صحيفة ولاية منيسوتا، "ستار تربيون". وقد ذكرنا فيه ان ما يجرى فى ليبيا ليس ثورة ولا يحزنون، بل حرب اهلية بكل معنى الكلمة، يمكن ان تنتهى بتقسيم ليبيا الى دولتين، كما تقدّر وتأمل بعض الدول الغربية، التى هبّت لقصف مواقع كتائب القذافى بدعوى حراسة حقوق الانسان، بينما العالم كله يعرف ان مواقفها تحكمه الاجندة النفطية، لا غير.
كذلك كان موقف حليفنا الاستراتيجي، الكاتب الفذ محمد عثمان ابراهيم، فى عموده الراتب بصحيفة "السوداني" الخميس الماضى، مؤازراً للرئيس بشار الأسد ونظامه ضد الثائرين عليه، اذ كتب: (تصفيق الغرب بأصابعه القاسية، والتوقيع على تلك التصفيقات بالأصابع الرخوة للعرب "المستعبرة" يهدف إلى إدخال الشام بيت الطاعة، جنباً إلى جنب مع كردستان العراق، والضفة الغربية، وثلة "المستعبرين". سوريا الوحيدة التي تستطيع الحديث بالعربية والفارسية في محيط من المتحدثين بالعبرية، من الذين ستنقض شعوبهم عليهم، ثم لن يجدوا منها عاصماً سوى تل أبيب). نحن اذن الأولى بالترشيح من غيرنا، والأحظى بأصوات الحكومات والانظمة، التى تمنح الفوز!
(8)
من أغرب ما جاء فى الخبر المنشور منسوباً الى رئيس تحرير صحيفة "الاهرام اليوم": (الدكتور مصطفى عثمان شخصية مناسبة ومحبوبة في النطاق العربي). يا سلام؟! على اى أساس استندت الصحيفة فى زعمها هذا؟ لا ادرى. هؤلاء لا يعرفون ان عهد الوزراء والمستشارين قد انقضى الى غير رجعة، وجاء عهد الكتاب الصحافيين. أنا - واعوذ بالله من كلمة أنا - أفضل كسباً من المستشار مصطفى عثمان، اذ فرضت اسمى ككاتبٍ صحافى بعرق كمبيوترى وعزيمة كيبوردى، فما هو كسب المستشار مصطفى عثمان؟! أسألوا رصيفه الاسلاموي، الدكتور التجانى عبد القادر، ينبئكم أن كل كسبه فى صعيد السياسة هو ان الشيخ الترابى استلطفه فى يوم سعد، فقربه، وميّزه، وقدمه على غيره، فى زمان قيل فيه للآخرين: عيب. "لا تزكوا انفسكم"، سيزكى الشيخ من حوارييه من يشاء! مع ان الغاشى والماشي فى حوش الحركة الاسلاموية يعرف ان مصطفى عثمان لم يرفع فى سبيل الحركة سيفاً ولا مدفعاً فى يوم من الأيام، مثل غازى صلاح الدين، ولا دقّ فى تثبيت بنيانها "حجر دُغُش"!
(9)
أنا - ولله الحمد والمنة - (مناسب) و(محبوب) و(مؤهل) اكثر من الدكتور مصطفى عثمان. كما ان حصيلتى وصيتى طبقت حصيلته وصيته اضعافاً مضاعفة. ولولا ان استاذ الاجيال وعملاق الصحافة العربية، محمد حسنين هيكل، ما يزال يتنفس فوق سطح الارض، بمزرعته ببرقاش، شرق القاهرة، لطلبت البيعة لنفسي.
هل علمت - أعزك الله - أن مقالاتى الاسبوعية تُنشر فى السودان ومصر والمغرب، كما تنشرها فى اليونان مجلة تحمل اسم "الضفتان" يرأس تحريرها رجل اسمه منصور شاشاتي؟ ولهذا فسيكون شعارى الانتخابى بعد الترشيح ان شاء الله: (من السودان الى اليونان: البطل مرشحكم أيها العربان)!
فلتسارع صحيفة "الاحداث" اذن بتبنى ترشيحى للمنصب. فاذا تأخر الترشيح يوماً واحداً غادرت الصحيفة، غير مأسوف عليها، وليذيب ابن الباز وثيقة تعاقدى القانونى معه فى كوب ماء ويشربه!
نصوص خارج السياق
عيناكِ يا تَمكُّن الذى خلق ..
مقاعدُ الصحابِ حين يستوي الأرقْ ..
وسِكَّتي الى هجاءِ من أناخَ عيسهُ ..
ولان .. وارتزق ..
(من شعر الياس فتح الرحمن)
------------------------------------
عن صحيفة "الاحداث" - 27 ابريل 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.