سلطة الطيران المدني تصدر بيانا حول قرار الامارات بإيقاف رحلات الطيران السودانية    القائد العام يشرف اجتماع اللجنة العليا للطوارئ وإدارة الأزمات بولاية الخرطوم – يتفقد وزارة الداخلية والمتحف القومي    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    لماذا اختار الأميركيون هيروشيما بالذات بعد قرار قصف اليابان؟    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    تشكيل لجنة تسيير لهيئة البراعم والناشئين بالدامر    هل تدخل مصر دائرة الحياد..!!    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بدء برنامج العودة الطوعية للسودانيين من جدة في الخامس عشر من اغسطس القادم    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    "واتساب" تحظر 7 ملايين حساب مُصممة للاحتيال    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى عثمان اسماعيل .. وأنا!


غربا باتجاه الشرق
مصطفى عثمان اسماعيل .. وأنا!
مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
(1)
السودانيون عموماً، وكثير من المسلمين، يكرهون استخدام لفظة "أنا". أما اذا اضطر الواحد منهم الى استخدام اللفظة فانه يُتبعها على الفور بجملة الاستعاذة الاعتراضية، كأن يقول: (أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا)، ثم يواصل الحديث. الأمر فى جوهره وثيق الصلة بالثقافة الدينية. التنصّل من كلمة أنا، وتبعاتها المفترضة، من المسائل التى إندلقت حولها أحبارٌ كثيرة فى كتب الفقه. القرآن يقول: (فلا تزكوا انفسكم، هو أعلمُ بمن اتقى). وتوظيف "الأنا" فى لغة الخطاب يستبطن فى الفهم العام بالضرورة تزكية النفس وتعلية الذات، وهو ما يجعل من اللفظة مدعاة للانكار والاستغفار. استند بعض المشتغلين بالفقه فى ذلك الى ان أبليس هتف بلفظة الأنا، فى الاحتجاج على الله بكونه افضل من آدم الذى خلق من تراب، وذلك حين قال:"(أنا خيرٌ منه). وللامام ابن القيّم تحذيرٌ من اللفظة، ومن كلمة "لي" أيضاً، التى اكثر منها فرعون، وكلمة "عندى"، اذ قال قارون: (أنما اوتيته على علمٍ عندى).
(2)
غير ان فريقاً آخر من العلماء سخّفوا التفسيرات والتخريجات والاجتهادات الفقهية المتصلة باللفظة على وجه الجملة، وبخّسوها، وصنفوا الاستعاذة من كلمة "أنا" على أنها بدعة، لا أصل لها فى الدين. وانها لا تعدو ان تكون نوعاً من التواضع الكاذب المزخرف. كتب واحد من هؤلاء العلماء الأفاضل فى فتوى منشورة بموقع "أهل السنة والجماعة" على الشبكة الدولية: (التعوذ من كلمة "أنا" عند كل استعمال لها باطل، معارضٌ لِما ورد عن رسول الله، فقد ثبت عن رسول الله "ص" أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر". كما انه معارضٌ لِما جاء في القرآن من قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ). فاستعمال كلمة "أنا" لا بأس به، فمن قال "أعوذ بالله من كلمة أنا" لا يُكفّر، لكن يقال له: "إطلاق هذه الكلمة لا يجوز"). وأفاد عالمٌ جليلٌ آخر:(الاستعاذة من لفظة أنا لا أصل لها، فكلمة "أنا" إنَّما هي ضميرٌ مِن الضمائر، فلا شيءَ في قولها وتداولها في الكلام. قال صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وغير ذلك كثيرٌ في كلامه. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الكلمة مراراً رداًّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليه).
(3)
على خلفية تلك العقيدة الصلبة، المستكنّة فى عمق الثقافة السودانية الاسلامية، التى تميل الى أبلسة وتشطين لفظة "أنا"، المستنكفة للحديث عن الذات والتفاخر بالخصائص والمواهب الشخصية، واجه كثير من السودانيين ذوى التأهيل الاكاديمى والمهنى المتميز، عند بدايات موسم الهجرة السودانية الواسعة الى الولايات المتحدة فى اعقاب انقلاب العصبة المنقذة عام 1989، مشاقاً جمة فى الحصول على الوظائف المدرّة للدخول العالية التى يستحقونها فى مجالات تخصصاتهم الاصلية.
ومن موقع التجربة المباشرة والمعايشة اللصيقة تكونت لدى قناعات مطلقة ومعارف دقيقة بالعوامل والاسباب التى خلقت وعمقت معضلة التوظيف هذه بالنسبة للجيل الاول من المهاجرين السودانيين الأمريكيين. المدخل الاساسى للتوظيف فى الولايات المتحدة هو رصد وتقويم مستوى أداء المتقدم للوظيفة من خلال المعاينات Interview ، التى تجريها الشركات الخاصة والوكالات الحكومية. والذى عرك مناهج "المعاينات" الامريكية يعرف بالضرورة أن ال "أنا" هى العصب الاساسى الذى يحكم الأداء ويفرز النتائج. غير أن هذه "الأنا" أصبحت فى ذات الوقت بمثابة الصخرة التى تحطمت عليها فرص التوظيف بالنسبة لقطاع واسع من السودانيين الذين يتصف اداؤهم فى غالب الاحوال بالتواضع والاضطراب، لا سيما عندما يواجهون بالسؤال الامريكى المحوري: (حدثنا عن نفسك). أما اذا ووجه المتقدم السودانى بالسؤال التقليدى الذى لا بد منه عند اليانكى: (لماذا تعتقد انك افضل المرشحين لهذه الوظيفة)، كانت مصيبته اكبر وأشد، واداؤه اكثر ارتباكاً وضموراً. من اشق الاشياء على السودانى ان يقول: "أنا افضل المرشحين"، "أنا صاحب المعارف والقدرات والكفاءات الاعلى من الآخرين"، "أنا صاحب انجازات كبيرة فى الدنيا"، "أنا الذى فعل كذا!"
والامريكيون لا يقتنعون بأهلية طالب الاستخدام الا اذا كان ذرب اللسان، فصيحاً، فى تزكية النفس والشهادة لصالحها، مع التجرد الكامل من فضيلة التواضع. تجد المرشح السودانى للوظيفة يتمتم بالانجليزية: أنا.. أنا، وفى مؤخرة رأسه يتردد الصدى بالعربية: أعوذ بالله من كلمة أنا، فيعقل لسانه، فلا يُحسن ولا يُبين. وفى هذا التناقض المركزى بين ثقافة الاستحياء الراسخة فى الوجدان، وإرادة المجاهرة والفخر التى تقوم عليها الثقافات الاخرى، يضيع بنو جلدتنا ممن يسعون الى الجمع بين الحسنيين: فضيلة التواضع وخميلة الوظيفة!
(4)
أنا أميل الى الرأى الفقهى الذى يذهب الى انه لا أصل للاستعاذة من كلمة أنا، وانكارها والتنصل من عقابيلها المزعومة، وان الفهم السائد عند البعض للآية الكريمة (ولا تزكوا انفسكم ..) فهم مختل لا صلة له بالدين واصوله. كنت قد كتبت فى مقال قديم بعنوان (تجليات النخبة وخيبات العوام / 2008) عن الاستغلال السياسى السيئ والخبيث للآية المذكورة، وظاهرة "التواضع الكاذب المزخرف"، وتوظيفها لأغراضٍ دنيوية، عندما تعرضت لممارسات الشيخ حسن الترابى زعيم ومنظر الحركة الاسلاموية الحديثة فى السودان، فك الله أسره، إبان قيادته لتنظيم الجبهة الاسلامية القومية خلال سنى الديمقراطية الثالثة المغدورة. فقد جعل الشيخ الترابى من تلك الآية، ومن بعض الاحاديث المنسوبة الى النبى الكريم، مثل حديث (الإمارة [او الولاية] لا تعطى لطالبها)، وحديث:(انا لا نولى الامر من سأله او حرص عليه)، مدخلاً للتحكم فى التنظيم والسيطرة عليه وتوجيهه وفقاً لارادته المطلقة. وكان من مؤدى ذلك ان تفاقمت، تحت ظلال الاستراتيجيات الترابية المتلفحة بالنصوص الدينية الحاضة على الانزواء، والترفع عن طلب المسئولية، واستنكاف التطلع الى المواقع المتقدمة، تفاقمت ظاهرة غياب التنافس السياسى الشريف المكشوف داخل التنظيم، وتمكن الشيخ من السيطرة على الحركة سيطرةً مطلقة، واللعب بمفاتيح التنظيم لعب الصوالج بالاُكر، وفقاً للرؤى النقدية لتلميذ الشيخ السابق الدكتور التجانى عبد القادر، كما فصّلها فى سلسلة مقالاته الشهيرة بعنوان: (العسكريون الاسلاميون أمناء على السلطة ام شركاء فيها/ 2005).
وكنت قد كتبت فى هذا الصدد: (في العام 1986 جلست مستمعا للشيخ حسن الترابي وهو يتحدث في ليلة سياسية حاشدة بضاحية بري، دعما لمرشح الجبهة الاسلامية القومية عن تلك الدائرة عثمان خالد مضوي. الفكرة المحورية التي اراد لها الترابي ان تنقدح في اذهان الآلاف المتراصة كانت تدور حول الاختلاف النوعي بين منهج الجبهة ومناهج الاحزاب الاخري في الممارسة السياسية. وفي تبيان ذلك قال المنظر السياسي و الخطيب المفوّه: "ان احدا من قيادات الجبهة وكوادرها لا يسعي للسطة والمناصب، و انما يدفعه زملاؤه المجاهدون الي مسالكها دفعا، ذلك ان الجبهة قيادة وقاعدة تعمل وفق ادب القران و هديه في التنزيل المجيد: "فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقي". ولا بد أن السنوات التي نافت علي العشرين منذ دلق الترابي تلك الكلمات الساحرات في آذان انصاره قد قالت قولها وفعلت فعلها فتمايز حقها وباطلها، و رزق الله هؤلاء الانصار ما رزقهم من رؤية الحق او الباطل. وواضح لكل من القي السمع وهو شهيد، في يوم الناس هذا، ان تلك المقولة ربما كانت تمثل من حيث التربية السياسية يقين البعض في تنظيم الجبهة، ولكنها لم تكن بالقطع لتعكس حقيقة شمولية جامعة. وآية ذلك اننا عشنا ورأينا، رؤية العين، عروضا حية لشيخ الجبهة الفاني وهو يجالد حوارييه في رائعة النهار، مجالدة الكواسر المستوحشة، و يكشف اظهارهم و يميط عن عوراتهم استارها، طلبا للسلطة و الصولجان. وكانت كلما استعصت ابوابها واستغلقت عليه، انحسر عن وجهه برقع الحياء، فازداد مجالدة و مغالبة و فضحا للسوءات!
قفزت الي ذهني مقولة الترابي تلك و انا اقرأ مبحثا متميزا كتبه تلميذه الذي شب عن الطوق، د. التيجاني عبدالقادر، و فيه يتناول بالتحليل ظاهرة غياب التنافس السياسي المكشوف داخل تنظيم الجبهة، الامر الذي اضعف موضوعيا من مركز الكادرات المقتدرة و المؤهلة، والعاجزة - في ذات الوقت - عن التعبير عن رغائبها "المشروعة" في التصدي لادوار القيادة تحت طائلة العيب وتزكية النفس، و قد ادي ذلك الي فتح الابواب علي مصاريعها امام نفر من محدودي القدرات الذين ما كان لهم من سبيل الي مسالك السلطة والقيادة الا من خلال الالتفاف حول شخص محوري يعبر – ذلك النفر - عن رغباته وينفذون سياساته)!
(5)
قرأت فى بعض الوسائط الاعلامية يوم امس الاول خبراً عن ترشيح الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل لمنصب أمين عام جامعة الدول العربية. كنت فى الاصل اعتقد ان ترشيح أى شخصية لمثل هذه المناصب هو اختصاص سيادى فى المقام الاول، كما هو الحال فى الدول الاخرى. ولكننى عرفت مؤخراً ان الأمر غير ما ظننت، فنحن بلد فريد. فى السودان بامكان الصحف أيضاً ان تقدم مرشحيها لهذه المناصب!
عندما اكملت قراءة المادة المنشورة تنامى عندى خاطر عجيب. اذ لاحظت أن المادة معدّة بعناية شديدة، والفقرات مصاغة بلغة مرتبة، وذكية، ومحكمة. ثم أن النشر جاء فى وسائط ورقية ومواقع صحفية الكترونية داخلية وخارجية، فى شكل تقرير اخباري يصور ترشيح الصحيفة وكأنه مبادرة ذات خطر. عندما فرغت من القراءة قلت لنفسي: هذا ليس كلام الهندى عزالدين. بل هو عمل مدروس، فى شكل بالون اختبار، تقف وراءه مجموعة من خلصاء الدكتور مصطفى عثمان، تسعى - بعلم الدكتور ورعايته فى أغلب الأمر - لتنشيط مساعى الترشيح وتراقب ردود الفعل! مما تبادر الى ذهنى ايضاً أن الرئيس المشير عمر البشير ربما كان راغباً فى ترشيح الرجل، فهو من خلصائه، ولكن جهات اخرى داخل المجموعة الحاكمة ربما لم ترُقها مثل هذه الخطوة. وزير الخارجية على كرتى مثلاً، أو رجل النظام القوى نافع على نافع. كله وارد. ولكن الثابت بالقطع واليقين أن تحريك القطع البحرية داخل محيط المنظومة الحاكمة اصبح اكثر تعقيداً فى الآونة الاخيرة. والحال كذلك فأن اعتماد استراتيجية "بالونات الاختبار"، والتزام الحذر، وتفادى مكامن الخطر، تظل استراتيجية فاعلة ولا بأس بها أبداً. خاصةً فى ظل حالة التضارب، وتناقض المصالح، والصراعات التى برزت رؤوس جبالها الثلجية من داخل المحيط. هل أتاك - أعزك الله - نبأ المبارزة بين الدكتور نافع على نافع والفريق صلاح قوش مستشار الامن التي اتخذت ميداناً لها - فى العلن وعلى رؤوس الاشهاد - منابر الاذاعات والمؤتمرات الصحفية، حول المبادرات السياسية التفاوضية التى يقودها الاخير تحت مظلة ما يسمي بمستشارية الامن القومي، والتى انتهت بإقالة الاخير؟!
الخبر يقول فى عنوانه: ("الأهرام اليوم" السودانية تطلق مبادرة لترشيح د. مصطفى عثمان لمنصب الامين العام لجامعة الدول العربية). وتقول مقدمة المادة الصحفية المنشورة:(أعلن الهندي عز الدين رئيس تحرير جريدة "الأهرام اليوم" السودانية عن تبني جريدته لفكرة ترشيح د. مصطفى عثمان إسماعيل" مستشار الرئيس السوداني لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية)! يا سبحان الله. فى الزمن الذى مضى كانت الصحف تتبنى مشروعات محدودة مثل مشروع الدورة المدرسية، الذى تبنى فكرته ووقف وراءه الصحافى الرياضى المخضرم حسن مختار. او ربما مشروعات سكنية، كمشروع توزيع القطع السكنية فى الحى الذي يعرف حالياً باسم "الصحافة"، تيمناً بالصحيفة المعروفة وصاحبها المرحوم الاستاذ عبد الرحمن مختار، صاحب الفكرة، وغير ذلك من المشروعات تقع فى دائرة المناشط الرياضية والخدمية. تلك كانت هى حدود المبادرات. بل ان الاستاذ حسين خوجلى نفسه، الذى خرج الهندى عزالدين من معطفه، لم يخطر بباله قط - برغم تفكيره الخلاق، وطموحه الشاطح المتجاوز لكل حدود المألوف، ان يتخذ لنفسه دور المتبنى لترشيح السودانيين للمناصب الاقليمية والدولية، بل ولا حتى المحلية!
لكن صحافة الحوار الذى غلب شيخه مضت قدماً، لا تلوى على شئ، فأصبحت، بحمد الله وتوفيقه، تتصدر للقضايا الكبرى التى تقع فى دائرة اختصاص رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الخارجية!
(6)
لا علم لي على وجه التحقيق بما الذى تعنيه عبارة (تبنى الصحيفة لترشيح فلان أميناً عاما للجامعة العربية)، وعلم الله واسع. كما أننى - والحق يُقال - لم اكن اعرف ان الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل يصلح أصلاً لمثل هذا الترشيح. لا لعلةٍ قادحة، تشوبُ سيرة الرجل او أهليته لا سمح الله. ولكننى كنت اعتقد ان أمين عام جامعة الدولة العربية ينبغى ان يكون عربياً قُحاً. صحيح ان الدكتور مصطفى عثمان عربي الثقافة، وقديما قال بعض القومجية: (من تكلم العربية فهو عربى). ولكن الحقيقة أيضاً ان الدكتور - مثلى تماماً - أعجمي لا تسرى فى شرايينه نقطة دم عربية واحدة. فهو نوبى أُماً واباً. واللغة العربية عند أجيالنا الاولى، نحن النوبيين، تعتبر لغة ثانية، تعلمها بعضنا فى المدارس، مثلما تعلم ابناء وبنات الجعليين، من سلالة العباس، اللغة الانجليزية، كلغةٍ ثانية، فى المدارس أيضاً. والحال كذلك فاننى لست على يقين كامل من أن أشراف الجزيرة العربية من العربان الاقحاح، ونشامى الاردن والشام والعراق الأفصاح، سيقبلون بالدكتور أمينا عاماً عليهم.
نصل الآن الى مربط الفرس. اذا كان الترشيح ممكناً ويسيراً للدرجة التى يمكن ان تضطلع بأمره صحيفة يومية، كما تبين الآن ، فأسمح لى - اعزك الله - ان أُعرب عن دهشتى واستهجانى الشديدين لتخلف صحيفة "الاحداث" عن ترشيحى، أنا، لهذا المنصب الرفيع.
أنا - واعوذ بالله من كلمة أنا - لا اخفى تطلعى لتولى منصب قيادى لامع فى هذه الدنيا قبل ان تفنى. وقد تزايدت هذه الرغبة عندى مع ارتفاع السن وتزايد الخوف والقلق من أن اموت قبل ان احقق حلمي. ولا أجدني قادرا على احتمال مزيد من التأخير بحيث يأتينى المنصب فى سن الشيخوخة، فأجد نفسى، من حيث لا أحتسب، جالساً على سرجٍ واحد مع ذلك العجوز التونسى الذى لم يصدق أن امنيته تحققت بعد أن شاب، واستيأس من مُراده، فأخذ يردد عبر قناة الجزيرة: (لقد هرمنا .. هرمنا .. بانتظار هذه اللحظة التاريخية)!
(7)
اسمح لى - ايها الأعز الاكرم - ان ازكى نفسى لمنصب الامين العام لجامعة الدول العربية، وادعو ادارة صحيفة "الاحداث" ل "تبني" ترشيحى بأعجل ما يتيسر. لا سيما واننى ادرك تماماً ان فرصى فى الفوز تفوق فرص الدكتور مصطفى عثمان بما لا يقاس. لماذا؟ اولاً: أنا - وأعوذ بالله من كلمة أنا - حاصلٌ على الجنسية الامريكية، بجانب جنسيتى السودانية الاصيلة، الامر الذى يعنى ان ترشيحى سيحظى بدعم الولايات المتحدة. صحيح ان أمريكا ليست دولة عربية، ولكن راعى الضأن فى الخلاء يعرف ان عدداً كبيراً من الدول العربية تحرص على ان يكون المرشح مرضياً عنه في واشنطن.
ثم - وهذا هو الاكثر اهمية فى هذا الصدد - ان عدداً مقدراً من الانظمة العربية، التى سيكون لها الدور المحورى فى اختيار المرشح، تعيش حالياً حالة من الاضطراب والقلق نتيجة للثورات التى تنتظم العالم العربى. والجميع يعلمون أن الانظمة هى التى تصوّت وتختار الامين العام لجامعة الدول العربية، وليس الشعوب. ومن غير المتوقع ان تقوم هذه الحكومات العربية القلقة بمساندة مرشح مثل الدكتور مصطفى عثمان، أعرب علانيةً، وفى اكثر من مناسبة، عن تعاطفه مع الشعوب الساعية الى اسقاط الانظمة. أما بالنسبة لحالتى أنا فالوضع يختلف اختلافاً جذرياً. أنا، ولا فخر، الكاتب الصحفى الوحيد فى العالم العربى بأسره، من المحيط الى الخليج، الذى وقف مع الانظمة ضد الشعوب. وإذ لم يكتب الله لحبيبنا جمال مبارك ان يبقى فيدعم ترشيحى، فالبركة فى حبيبنا الآخر سيف الاسلام القذافى، الذى لا بد ان يكون قد طالع مقالنا باللغة الانجليزية، بعنوان " مآلات الحرب فى ليبيا"، وقد نشرته قبل اسبوعين صحيفة ولاية منيسوتا، "ستار تربيون". وقد ذكرنا فيه ان ما يجرى فى ليبيا ليس ثورة ولا يحزنون، بل حرب اهلية بكل معنى الكلمة، يمكن ان تنتهى بتقسيم ليبيا الى دولتين، كما تقدّر وتأمل بعض الدول الغربية، التى هبّت لقصف مواقع كتائب القذافى بدعوى حراسة حقوق الانسان، بينما العالم كله يعرف ان مواقفها تحكمه الاجندة النفطية، لا غير.
كذلك كان موقف حليفنا الاستراتيجي، الكاتب الفذ محمد عثمان ابراهيم، فى عموده الراتب بصحيفة "السوداني" الخميس الماضى، مؤازراً للرئيس بشار الأسد ونظامه ضد الثائرين عليه، اذ كتب: (تصفيق الغرب بأصابعه القاسية، والتوقيع على تلك التصفيقات بالأصابع الرخوة للعرب "المستعبرة" يهدف إلى إدخال الشام بيت الطاعة، جنباً إلى جنب مع كردستان العراق، والضفة الغربية، وثلة "المستعبرين". سوريا الوحيدة التي تستطيع الحديث بالعربية والفارسية في محيط من المتحدثين بالعبرية، من الذين ستنقض شعوبهم عليهم، ثم لن يجدوا منها عاصماً سوى تل أبيب). نحن اذن الأولى بالترشيح من غيرنا، والأحظى بأصوات الحكومات والانظمة، التى تمنح الفوز!
(8)
من أغرب ما جاء فى الخبر المنشور منسوباً الى رئيس تحرير صحيفة "الاهرام اليوم": (الدكتور مصطفى عثمان شخصية مناسبة ومحبوبة في النطاق العربي). يا سلام؟! على اى أساس استندت الصحيفة فى زعمها هذا؟ لا ادرى. هؤلاء لا يعرفون ان عهد الوزراء والمستشارين قد انقضى الى غير رجعة، وجاء عهد الكتاب الصحافيين. أنا - واعوذ بالله من كلمة أنا - أفضل كسباً من المستشار مصطفى عثمان، اذ فرضت اسمى ككاتبٍ صحافى بعرق كمبيوترى وعزيمة كيبوردى، فما هو كسب المستشار مصطفى عثمان؟! أسألوا رصيفه الاسلاموي، الدكتور التجانى عبد القادر، ينبئكم أن كل كسبه فى صعيد السياسة هو ان الشيخ الترابى استلطفه فى يوم سعد، فقربه، وميّزه، وقدمه على غيره، فى زمان قيل فيه للآخرين: عيب. "لا تزكوا انفسكم"، سيزكى الشيخ من حوارييه من يشاء! مع ان الغاشى والماشي فى حوش الحركة الاسلاموية يعرف ان مصطفى عثمان لم يرفع فى سبيل الحركة سيفاً ولا مدفعاً فى يوم من الأيام، مثل غازى صلاح الدين، ولا دقّ فى تثبيت بنيانها "حجر دُغُش"!
(9)
أنا - ولله الحمد والمنة - (مناسب) و(محبوب) و(مؤهل) اكثر من الدكتور مصطفى عثمان. كما ان حصيلتى وصيتى طبقت حصيلته وصيته اضعافاً مضاعفة. ولولا ان استاذ الاجيال وعملاق الصحافة العربية، محمد حسنين هيكل، ما يزال يتنفس فوق سطح الارض، بمزرعته ببرقاش، شرق القاهرة، لطلبت البيعة لنفسي.
هل علمت - أعزك الله - أن مقالاتى الاسبوعية تُنشر فى السودان ومصر والمغرب، كما تنشرها فى اليونان مجلة تحمل اسم "الضفتان" يرأس تحريرها رجل اسمه منصور شاشاتي؟ ولهذا فسيكون شعارى الانتخابى بعد الترشيح ان شاء الله: (من السودان الى اليونان: البطل مرشحكم أيها العربان)!
فلتسارع صحيفة "الاحداث" اذن بتبنى ترشيحى للمنصب. فاذا تأخر الترشيح يوماً واحداً غادرت الصحيفة، غير مأسوف عليها، وليذيب ابن الباز وثيقة تعاقدى القانونى معه فى كوب ماء ويشربه!
نصوص خارج السياق
عيناكِ يا تَمكُّن الذى خلق ..
مقاعدُ الصحابِ حين يستوي الأرقْ ..
وسِكَّتي الى هجاءِ من أناخَ عيسهُ ..
ولان .. وارتزق ..
(من شعر الياس فتح الرحمن)
------------------------------------
عن صحيفة "الاحداث" - 27 ابريل 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.