خطب الرئيس البشير قبل يومين في حشود المسيرية بجنوب كردفان مهدداً بعدم الاعتراف بدولة الجنوبالجديدة إذا ضمّنت شيئاً بهذا المعنى في دستورها؛ و أعلن من جانب واحد ومع سبق الإصرار أن أبيي شمالية بغض النظر عن رأي محكمة العدل الدولية و قرارات الترسيم؛ كما دقّ طبول الحرب مجدداً مع الجنوب، مشيراً إلى أن جيشه مرفود بمليشيا محلية تمتطى صهوات الجياد... (مذكراً بمليشيا الجنجويد التي حارب بها قبائل الزرقة بدارفور عام 2003،) على الرغم من أن ذكرى تلك المجازر ما زالت ماثلة، و مرتكبيها ما زالوا مطلوبين أمام العدالة الدولية، و منهم أحمد هارون... نفس الشخص الذي كان الرئيس يتكلم في مناسبة ترشيحه لمنصب والي جنوب كردفان، و ذلك حتى يلعب نفس الدور الذي لعبه في دارفور عام 2003، أي تجنيد وقيادة الخيّالة الجنجويد القتلة. و لقد تناولت الصحافة العالمية كلمات الرئيس بالتعليق و التحليل و التشريح، و اتفق الجميع على أن الحرب مع الجنوب آتية لا ريب فيها..... بدءاً بمنطقة أبيي، لتمتد لمنطقة جونقلى بأعالي النيل حيث بدأت المناوشات مبكراً بين الجيش الشعبي (جيش حكومة الجنوب) والمليشيا التى تضم بعضاً من قبائل النوير و الشلك المدعومة بواسطة حكومة الشمال، عدةً و عتاداً و خططاً حربية، بالإضافة لكل ما يزعزع الوضع في الجنوب، مثل نشاط جيش الرب اليوغندي الفوضوي والمأجور كذلك. و هكذا، فإن الحكومات الدكتاتورية كثيراً ما تفتعل المشاكل و الحروب مع جيرانها حتى تصرف الأنظار عن مشاكلها الأخرى،...... وتستنهض وتحرض جماهيرها بدعوى أن الوطن في خطر التدخل الأجنبي؛ و في هذه الأثناء- كما قال أحمد فؤاد نجم: (لا شيء يعلو فوق صوت المعركة.. كل الجهود كل الجنود للمعركة...والشعب صاع...الشعب ضاع، في معركة.... وأكلنا عيش إسود بلون المعركة)؛... و قد تكون هذه المعركة مناوشة خفيفة على الحدود، و لكن المهم أن الجيش سيكون مرابطاً بذلك المكان لعشرات السنين، كما فعل الجيش السوري على سفوح الجولان منذ عام 1976 دون أن يتقدم خطوة واحدة للأمام، و كما فعل الجيش الإرتري بمنطقة عصب المتنازع عليها مع إثيوبيا، و هي مجرد أرض يباب كسطح القمر، و لكنها على كل حال ذريعة تحبس الشعب الإرتري إلى يوم الدين في حالة اللاحرب و لا سلم مع الجارة إثيوبيا..... حتى يكون هنالك مبرر لقوانين الطوارئ و لحالة التجييش و الاستنفار التي تشغل الجيش و الشعب معاً....ولتجميد التنمية حتى إشعار آخر. و كان يمكن لنظام البشير أن يكتفى بمشكلة دارفور التي ظلت مستعرة منذ عقد من الزمان، خاصة و أن ذيولها تمتد لدولة تشاد الجارة التي بينهم و بينها ما طرق الحدّاد؛ و لكن ماذا يفعل الجيش السوداني مع أصحاب القبعات الزرقاء الموجودين هناك بموجب قرارات مجلس الأمن؟؟؟ و ماذا يفعل مع فرنسا صاحبة القاعدة العسكرية الكبرى بإنجمينا؟! و مع الرئيس ساركوزي الذي لا يخفى مقته للبشير وحبه للديمقراطية وحقوق الإنسان...كما تبين من موقفه في ليبيا؟! إذن، فالجنوب صيد أكثر سهولة فيما يبدو، خاصة و أن الأسرة الدولية مشغولة حالياً بالنيران الكثيفة المتأجّجة في شتى ربوع الشرق الأوسط، من ليبيا إلى اليمن و سوريا والجزائر و المغرب! و ينطلق نظام البشير من فرضية ساذجة، و هي أن الجنوب محفوف باليابسة و الأدغال، و ليس لديه شواطئ أو موانئ بحرية، وأنه قادم لتوّه من حرب أهلية استمرت زهاء الخمسين سنة، و أنه بلا موارد مالية أو بنية تحتية أو كوادر مهنية أو عسكرية يستطيع أن يصمد بها أمام الجيش السوداني المدعوم بمليشيا المسيرية - الحمر و الزرق. و هذه لعمري حسابات فطيرة لا يقدم عليها إلا من كان ضامر العقل و شحيح الإدراك، أو من أراد أن يدخل في أي مغامرة عسكرية، غض النظر عن نتائجها، لأنه في حالة من الذهول أو الفزع أو الرغبة في الانتحار التى تزيّنها الطفولة اليسارية، (أو أن روحه مكركرة - كما يقول السودانيون). فالجنوب ليس خصماً هزيلاً (مقطوعاً من شجرة) يمكن الاستفراد به و تأديبه على خيار الانفصال الذي صوّت له الشعب الجنوبي. والعقلية السائدة وسط جماعة البشير هي تكرار لما فعل صدام حسين مع إيران بعد ثورتها التي أطاحت بالشاه عام 1979، حين تذرّع بنصرة الأقلية العربية الموجودة في عربستان على الشواطئ الشرقية للخليج، و لكنه في حقيقة الأمر كان قد استصغر جمهورية الخميني التي خرجت لتوّها من ثورة قضت فيما قضت على جيش الشاه ومزقته شر ممزق؛ و قال صدام للعراقيين إنها مجرد نزهة لبضعة أيام يلقّنون فيها ملالي إيران درساً عربياً بعثياً لن ينسوه... و لكن دامت تلك النزهة لعشر سنوات كاملة قتل خلالها أكثر من مليون عراقي و مليون إيراني، و انتهت بصلح قال عنه الخميني: (إنني أقبل هذا الصلح كمن يقبل أن يتجرع كأساً من السم.)... المهم في الأمر، نجح البعث العراقي في شغل الشعب و الجيش بتلك الحرب "الوطنية" لعقد كامل، و استمر هو في دست الحكم بلا منازع..(غير أن الليالي من الزمان حبالى، ومن يزرع الريح يجنى العاصفة). و لأن الدكتاتوريين مدمنون لهذا النوع من الحروب، فما كادت حربه مع إيران تضع أوزارها حتى هجم صدام على الكويت المسكينة (الجالسة في أمان ربها) يوم 2 أغسطس 1990، بحجج لا يقبلها العقل وبمنطق معوج؛ و لكنه في النهاية أجبر على تقيّؤ الكويت ....وخرج منها كما خرج إبليس من الجنة....... بفضل التحالف الدولي من تسع عشرة دولة بقيادة الولاياتالمتحدة، و هو تحالف تمّ في لمح البصر بسبب عدالة قضية الكويت...... و مثل هذا التحالف سيتم تجميعه بنفس السرعة لنجدة جنوب السودان إذا تعرّض لغزو من الشمال، بلا أدنى شك. و لكن رغم ذلك، ورغم تحذيرنا هذا.... سيقدم نظام البشير على التحرش بالجنوب، كمن يلعب بآخر يده وهو في غمرة الميسرة ....تحركه الغرائز (الدودة)...مع غياب كامل للرشد والبصيرة. ولربما ترسو كرة الروليت في خانتهم بقدرة قادر.....أو هكذا يحلمون. ويبدو فعلاً أن الفريق البشير والصقور من رهطه (النافعيين) قد تلبّسهم جنون الحرب، فهم لا يتكلمون هذه الأيام عن شيء سواها.... على الرغم من أن الساحة مكتظة بمواضيع أخرى تستحق الأولوية، مثل:- أولاً: قضية جنوب السودان برمّتها، و ليس منطقة أبيي وحدها. إن السودانيين، شمالهم و جنوبهم، لم يتركوا الوحدة وراءهم مائة بالمائة، و ما زال في النفس شيء من حتى؛ فالإنفصال ما كان وارداً عند مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل جون قرنق، و لا عند رفاقه و تلاميذه سلفا كير وباقان أموم وأتيم قرنق ودينق ألور وياسر عرمان ومنصور خالد والآخرين، بل كانوا جميعاً يناضلون من أجل (السودان الجديد)، و لكن رهط البشير أصروا على الدولة الثيروقراطية التي ستستمر في جعل الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثانية... لا يحق لأي منهم أن يتبوّأ منصب رئيس الجمهورية أو أي موقع سيادي (كرئيس القضاء) في أي يوم من الأيام. و حتى عندما أصبح الانفصال أمراً لا مفر منه، أجمع كل الوطنيين أولوا النهى على أن الباب يجب أن يظل موارباً (متاكياً) و ليس مغلقاً تماماً، و يجب أن يتم فتح (نفّاج) كذلك الذي يصل بين الجيران في المدن الشمالية أيام زمان، فالمصالح المشتركة بين الجارين كثيرة و متشابكة، و القضايا العالقة - مثل مشكلة أبيي - متعددة و معقدة. ويرى الوطنيون السودانيون أنه يتوجّب علينا أن نبدأ ببياض النية و الكلام الليّن والأكناف الموطأة ومراعاة الرحم والمودة، لا بصرخات الحرب و طبولها و العرضة و الفنجطة... مثل صعاليك بيوت الأعراس الذين يتحرشون بكل من يلاقيهم بحثاً عن معركة يدوية قد تستخدم فيها النبابيت والسكاكين. ثانياً: كان المفروض أن يتحدث البشير لجماهير المجلد و بابنوسة عن قيم التسامح.... والتي هي أحسن.... والعفو عند المقدرة.... والتكافل (المغاردة) مع الجار الذي أوصى به المصطفى عليه الصلاة و السلام،..... والذى يقدم السبت.... سيجد الأحد ؛ فعمّا قريب سيأتي فصل الصيف و سيرحل أعراب المسيرية خلف أنعامهم المبرمجة منذ مئات السنين على التوجه نحو بحر العرب بالجنوب عندما يحط الجفاف بمراتع المسيرية فى جنوب كردفان.... فماذا هم فاعلون إذا بدأوا بالشر و العدوان؟! ماذا هم فاعلون إذا أغلق الجنوبيون حدودهم مع كردفان، أو إذا استعانوا بإسرائيل لتبني لهم حائطاً.. أو على الأقل سياجاً من السلك الشائل المكهرب؟! ثالثاً: لماذا لم يتطرق البشير للعدوان الإسرائيلي الذي حدث في بور تسودان، لا من قريب أو بعيد؟ لماذا لم يتحدث عن موقف بلاده إزاء هذا التعدي على سيادتها؟!!! أم أنه غضنفر على دينكا نقور ...ورخمة في وجه الصهيونية؟ رابعاً: لماذا لم يتعرض البشير، من قريب أو بعيد، للقضايا التي تشغل جميع الأفارقة و العرب حالياً، وذلك ما يجري في ليبيا واليمن و سوريا، خاصة ليبيا الجار اللصيق لبلادنا الذى يأوى آلاف العاملين و اللاجئين السودانيين؛ وفى الحقيقة فإن القضية المطروحة في ليبيا ذات صلة بما يجرى في السودان: شعب يتعرض للبطش بالأسلحة الثقيلة من نظام متشبث بالسلطة حتى الثمالة؛...... ألم تكن الرحلة لتخوم الجنوب فرصة أمام البشير للتأمّل والتدبّر والتفكير في استراتيجية (بيلية) جديدة؟ أما كان من الممكن أن يرجع البصر كرتين، ثم يتوكل على الله ويعلن التوبة أمام جماهير جنوب كردفان... و ينبذ العنف و يدعو للسلام و وحدة تراب الوطن و ضمان حقوق شعوبه؟! (وبذلك يضرب مثلاً يحتذى به المسيرية في تعاملهم مع الجنوبيين)!! خامساً، هذا وقت كنّا نتوقع فيه من البشير أن يتحدث عن سودان ما بعد 9 يوليو: هل هو الدولة الثيوقراطية التي بشّر بها في القضارّف قبل بضعة شهور، أم هو الدولة المدنية العلمانية التي ستستوعب كافة الأديان و الإثنيات التي يتألف منها السودان؟ فلقد تراجع الرئيس البشير عن كلامه ذاك بالقضارف، و تحدث بصورة فضفاضة و مبهمة بعض الشيء عن سودان ديمقراطي وعن ثمة وحدة وطنية!!.... كما رشحت العديد من التصريحات و التلميحات الخاصة بالحوار مع أحزاب المعارضة و عن لم الشمل والاستعداد الأكثر جدية لمجابهة تحديات المرحلة. ولكن شيئاً من ذلك لم يخطر ببال البشير وهو يتصايح بأعلى صوته في المجلد وبابنوسة و يهدد الجنوب بالثبور و عظائم الأمور، و يدق جميع النواقيس الخاصة بالحرب، مما يشير إلى أن المفاوضات مع الأحزاب كانت فقط للتخدير و الاستهلاك المحلي. ويبدو أن صقور النظام هم أصحاب الكلمة الأخيرة، كما نستنتج من المصير الذي حاق بحامل ملف الحوار مع الأحزاب، المدعو صلاح قوش. سادساً: إن السودان يمرّ بمفترق طرق، و تبدو الصوملة و الكنتنة خلف المنحنى القادم في مسيرته، بدءاً بدارفور و جبال النوبة و جنوب النيل الأزرق. و كانت هذه فرصة أخيرة أمام نظام البشير لكي يعلن موقفه من مجمل تلك القضايا: ما هو الحل الذي يضمن وحدة البلاد بحق و حقيق؟ وهي قضايا لا تخص النظام وحده، و لكنها تستحق مؤتمراً يجمع كل الأحزاب والفعاليات والمنظمات القومية و الإقليمية الحاملة وغير الحاملة للسلاح والشخصيات الوطنية، و ليس إجتماعاً يضم فصيلين فقط. سابعاً: إن العالم العربي و الشرق الأوسط بأجمعه يمر بلحظات فارقة و خطيرة للغاية، و لا بد أن العاقلين في النظام (إذا بقيت فيهم روح) يدركون أن عصر الحزب الواحد و الانتخابات المزوّرة والاستفراد بالأمر بعيداً عن الشفافية......وعصر الدولة البوليسية والبطش بالناس..... قد ولّى إلى غير رجعة. و لقد رأينا رياح الثورة تنتقل من بلد لآخر بسرعة مذهلة و سلاسة غير مسبوقة. و إن الرجوع للحق فضيلة، و خير لك أن (تأكلها مملحة قبل أن تجبر على ازدرادها يابسة)... وأخيراً، فلا أقل من أن يعيد النظام النظر في وجوده من أوله لآخره. و لقد فوّت البشير الفرصة في المجلد و بابنوسه....... و الأجدر به أن يهتبل أقرب سانحة أخرى للإفصاح عن موقفه من الديمقراطية الحقيقية و حقوق الإنسان و قانون الطوارئ و حق الناس في التجمع و التظاهر، و ذلك قبل أن تفرضها الجماهير، لأنها عندئذ ستفرض معها أشياء أخرى كثيرة، كما رأينا في الدول العربية المنتفضة، فالسقف يبدأ منخفضاً... ولكنه سرعان ما يدقّ عنان السماء. على كل حال، ربما تكون هذه مجرد أحلام زلّوط.... إذ أن هذا النظام سادر في غيّه حتى الرمق الأخير، و سيدخل بالبلاد في حرب لا تبقي و لا تذر، ........................ ولكن طال الزمن أم قصر...... سيتم دحره في النهاية كما حدث في مصر وتونس، رغم أن التكلفة ستكون باهظة كما هو الحال في ليبيا واليمن و سوريا الآن............ نسأل الله أن يلطف بأهل السودان ويكلأهم برحمته. و السلام. EL FADIL Mohamed Ali [[email protected]]