السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَنْ خَذلَ جمال م.أحمَد أميناً عامّاً للجَامعةِ العربيّةِ ؟ .. بقلم: جمَال مُحمد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 09 - 05 - 2011


[email protected]
(وعلى ذلك فإن النظم العربية مدعوّة ، وقبل التفكير في إصلاح الجامعة، إلى الشروع في اصلاح حالها، وفك تشبثها الأبدي بالسلطة واحتكارها، وتكريس دولة القانون والمؤسسات واحترام الحقوق الأساسية للإنسان) ص 491 ،
د. مجدي حماد، جامعة الدول العربية :مدخل إلى المستقبل، الكويت 2007.
( 1 )
حين كتبت عن ترشيح مصر للسفير مصطفى الفقي ليخلف السفيرعمرو موسى في رئاسة أمانة الجامعة العربية ، غفلت عن وقائع تجربة للسودان في ترشيح أمين عام للجامعة العربية في التاريخ القريب، إلى أن أيقظ ذاكرتي الصديق الأستاذ عمر جعفر السّوري، رعى الله قلمه البريع، في إحدى رسائله التي يحمّلها إضاءاته على ما أكتب . إذ نبهني أن السودان طرح إسم الدبلوماسي المفكر الأستاذ جمال محمد أحمد ليخلف الأمين العام الأسبق المصري، عبد الخالق حسونة الذي أكمل وقتذاك(1968) قرابة ستة عشر عاما في كرسي الأمين العام لجامعة الدول العربية.
كتب الصديق عمر جعفر:
(( قرأت ما كتبته عن الجامعة العربية، و ما أدراك ما الجامعة ألعربية. أخذني مقالك إلى بقايا الستينيات، حينما حمى الوطيس بحثاً عن بديل للآمين العام الثاني، عبد الخالق حسونة. يومذاك طرح اسم السفير جمال محمد أحمد، و قاد معركة ترشيحه الصديق الأديب، سيد أحمد الحردلو. كان يومها في أول سلم وزارة الخارجية. نشر سلسلة من المقالات التي تدعو الى انتخاب مرشح السودان المفترض في جريدة الأنوار اللبنانية و في ملحقها. و الى جانب مقالاته تلك كانت أولى قصائد الثلاثي محمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد التي أطلوا من خلالها على القارئ العربي، بعد أن كانوا حبيسي فلسطين.إلا أن مسعى الحردلو لم يجد فتيلا، فقد جدد للراحل حسونة، و طويت صفحة السودان من روزنامة الأمانة العامة للجامعة العربية..))
بعد هزيمة يونيو 1967 وبعد ذلك الجرح العربي الكبير، خرجت القاهرةُ مرهقة على صعيد سياساتها الداخلية، كما على سياساتها الخارجية. باللغة الموضوعية ، فقد انهزم النظام المصري تحت قيادة عبد الناصر، وانهارت طروحات الإتحاد الإشتراكي العربي داخلياً، ولم يعد لمصر خارجياً، من كاريزما حقيقية تؤهلها لقيادة العمل العربي المشترك، ولا للتصدي للقضية المحورية: القضية الفاسطينية. لولا الخرطوم ولولا "لاءاتها" التاريخية، وما استتبعها من جهد لتصفية خلافات القيادات العربية، لكانت خسارة مصر أكبر وأشقّ. في خضم تلك التطورات، ظلت أمانة الجامعة العربية في هامش المتن ، ولا أحد يتذكر دوراً فاعلاً لأمينها العام آنذاك ، المصري عبد الخالق حسونة. نجوم الساحة العربية بعد هزيمة 1967، كانوا زعماء السودان، وقد نجحوا في استضافة الزعامات العربية المهيضة الأجنحة، تحت سماء الخرطوم. وقتها استعجب الرأي العام العالمي من عاصمة تهلّل لزعيم مهزوم . كانت العاصمة هي الخرطوم، وكان الزعيم العربي هو جمال عبد الناصر. لقد آن لقيادة الجامعة العربية التي شاخت، أن تبدّل حالها ورموزها . حسونة ، أمينها العام منذ 1952، صار رمزاً من رموز العجز العربي الذي واكب الهزيمة، وربما كان هو أحد مظاهر العجز العربي والسبات الطويل الذي أفضى إلى الهزيمة المهينة.
كان واضحاً أنّ الرجل أكثر من زاهد في التجديد له في منصب الأمين العام لفترة رابعة، فيما الساحة العربية في مرحلة ما بعد الهزيمة، تمور بتوجهات جديدة ، بدا فيها العمل العربي المشترك يتخذ وجهات جديدة . لكن عدم حماس مصر قرأه السودان زهداً في المنصب ، غير أن بعض بلدان الخليج رأت رأيا آخرا.
في هذه الأجواء طرح السودان مرشحه لتولّي منصب أمين عام الجامعة العربية ، وهو كبير سفرائه الأستاذ المفكر جمال محمد أحمد.
( 2 )
لم يكن حسونة متحمساً للإستمرار في رئاسة أمانة الجامعة العربية، ولكن الأرجح أن القيادة المصرية، أو ربما مراكز قوة من دخلها، ومن واقع أن مصر هي صاحبة المقر التاريخي للجامعة، بدتْ أكثر تمسكاً بالتجديد لعبد الخالق حسونة، ولو لعام أو عامين.
ولعلّ في النظر إلى حال الجامعة العربية وقتذاك، فإن الأمور كانت ترجح تولّي أمين عام ، يبعد عن مصر المثقلة بالهزيمة، ولكن ليس بعيداً عن مصر صاحبة الدور التاريخي وإرث قيادة العرب المركزية. هذا من ناحية يزيد من فرص السودان في نيل المنصب، ولكن لجمال محمد أحمد رؤية ثاقبة إضافية، ترجّح تولي سوداني أمانة الجامعة ، فقد كتب في رسالة شخصية لصهره السفير مصطفى مدني :
((...وكنت أحب أن يعرف ( الإشارة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر) أني أحب أن أعمل أميناً لأسباب موضوعية، فالمسألة في تقديري شخصية لحدٍ محدود جداً ، ولكن أميناً سودانياً، هو الرباط بين أديس والقاهرة، وهو الرباط بين أفريقيا -على الاقل المسلمة- وبين العرب، لأني أميل إلى أن أزماتنا لن تنتهي مع الإنسحاب من الأراضي. ستبدأ أزمة فلسطين، وحربٌ كحرب الجزائر من ناحية وستبدأ سلسلة من الإتصالات تتكيّف وفقها علائقنا مع القوتين الأعظم ومع أروبا الصغيرة (هولندا، دنمارك، السويد،الخ)التي بدأت تتبرم بالوضع الذي لا ضوء فيه لأن القوتين الكبيرتين حجبتا عنهم الأمر ، ويريدون ليشتركوا في الأمر..)) ص71 من عثمان م.الحسن: جمال محمد أحمد: رسائل وأوراق خاصة 1992.
كان في نظر المفكر الثاقب، أن المرحلة المقبلة ستتجه لتواصل أفريقي عربي أوثق، وأن من يجتمع وجدانه على الانتمائين، ستعينه مقدراته للعب الدور الأكثر فاعلية لحشد وقوف مؤيد للقضية الفلسطينية، ليس من طرف الدول العربية المركزية في مصر والشام ، ولكن أيضاً في المحيط الأوسع، من دول افريقية عربية، لها التأثير القوي على بقية بلدان القارة الأفريقية.
فكيف كانت حيثيات ترشيح أول سوداني لمنصب أمين عام الجامعة العربية، ومتى طرحت ؟
( 3 )
لا يتذكر الكثيرون أن السودان في نهاية الستينيات، شكّل مع لبنان واحتين ديموقراطيتين انتظمتا العالم العربي وشمال افريقيا. أقعدت بلبنان أزماته التي لونتها الطائفية ، حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فسقط بعدها في هاوية الحرب الأهلية لعقدين ونصف من الزمان ، أما السودان فتولت أمر ديموقراطيته الانقلابات العسكرية، بدءاً بانقلاب جعفر نميري في 25 مايو 1968.
غير أن ترشيح المفكر جمال لأمانة الجامعة العربية، جاء قبيل الإنقلاب المايوي بأشهر، وحظي الترشيح بتأييد ودعم من رئيس الوزراء وقتذاك السيد الصادق المهدي . كان السفير جمال قد أعيد منقولاً من سفارته في لندن، إثر هزيمة العرب في حرب يونيو1967 ، في إطار تنفيذ قرار عربي بسحب السفراء العرب من لندن، وتولّى بعدها منصب وكيل وزارة الخارجية في الخرطوم. تداخلت عوامل داخلية وأخرى خارجية في ترشيح جمال. كان على رأس وزارة الخارجية الشيخ علي عبد الرحمن، والذي كان يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة ائتلافية بين الأمة والإتحادييين، أواخر الستينيات . في خضم المناكفات السياسية بين المؤتلفين، وبعضها صار مكايدات مجانية لا مبرر لها ، وقع لترشيح جمال ما لم يكن في الحسبان . لم يتردد السيد الصادق المهدي في إصدار توجيه لوزير الخارجية لدعم وتأييد ترشيح السفير جمال محمد أحمد لمنصب أمين عام الجامعة العربية، ولكن وزير الخارجية وهو من الطرف الآخر في حكومة الائتلاف، توجّس من جمال ، ربما لوشايات نقلت للرجل أن للسفير جمال يد في المناكفة التي وقعت في البرلمان، بين الشيخ علي عبد الرحمن والأستاذ محمد توفيق، صاحب العمود الشهير "جمرات". ولأني لا أجد توثيقاً لهذه المناكفة ، فالأرجح أن جمال – وهو صديق لمحمد توفيق وله قرابة توطدت فيما بعد بمصاهرة معه - ألمح إلى هذه الحساسية لدى وزير الخارجية في رسالة شخصية بعث بها إلى صهره السفير مصطفى مدني أبشر، وردت في كتاب رسائل جمال التي حققها الراحل د.عثمان محمد الحسن وصدرت من بيروت عام 1992.
كانت اجتماعات مجلس الجامعة العربية قد انعقدت في القاهرة وفي مقر الجامعة، وفي الأجندا بند واحد، هو تعيين أمين عام جديد، ولكن أسفرت الإجتماعات عن تمديدٍ لفترة عام للأمين العام وقتذاك عبد الخالق حسونة. جاءت الحسرة على ضياع الترشيح على يد الشيخ وزير الخارجية . أنظر كيف نقل جمال جرحه في لغة مهذبة لرئيس الدولة، شاكياً في نوفمبر من عام 1968، تقاعس وزير الخارجية عن دعم ترشيحه لأمانة الجامعة العربية، قبيل اجتماع مجلس الجامعة العربية ذاك:
((أعلنه السيد رئيس الوزراء أمامي، أن سياسة السودان هي ترشيحي لمنصب الأمين العام للجامعة. أفهمه بأن السيد رئيس مجلس السيادة يرى هذا، وأنه هو يراه، وأعلنه أكثر من مرة، واتفقنا ثلاثتنا على أن يتحدث هو لإخواننا في القاهرة، يطلب إليهم توضيح موقفهم من أمر الترشيح للأمانة العامة..))
لم يطرح وزير خارجية السودان إسم مرشح السودان لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، بحجةٍ جدّ واهية، هي أنه لمس توافقا كويتياً سعوديا أردنيا ، يرجّح التمديد للمرة الثالثة للأمين العام حسونة. خذل وزير السودان بلده قبل أن يخذل جمال .
( 4 )
ضاعت الفرصة على السودان، وتمّ التمديد عاماً إضافياً لحسونة .
بعد مارس بشهرين، وقع انقلاب النميري في 25 مايو 1969. وما كان لجمال من مودةٍ عامرة مع رجال العهد الجديد . لكنه كان يثق في وزير الخارجية الأستاذ فاروق أبو عيسى ومنصور خالد لاحقاً، ولقد كان يرى أن طرح السودان ترشيح جمال أمراً قابلاً للتحقيق. لقد لمس تقدير القيادة المصرية له ، كما تجلّى ذلك في سؤال عبد الناصر عنه، بعد اعفائه من وكالة الخارجية .
أما القاهرة فقد كانت تحتفظ للمفكر جمال بمكانة سامقة . لقد أشرف أحمد بهاء الدين على إكمال نشر مؤلف جمال "مطالعات في الشئون الأفريقية" ، في سلسلة كتاب الهلال المرموقة، ليصدر في مايو من عام 1969. كانوا يعرفون قدر الرجل وسهمه الدبلوماسي والفكري. بعضهم كان يوشك أن يقول له : نحن في مصر نقدّرك أكثر من إجلال أهليك لك!
سعى جمال لتجديد مقترح ترشيح السودان لتولّي أمانة الجامعة العربية ، كاستحقاق يكمل ذلك الدّور الذي لعبه السودان بعد الهزيمة العربية المرة ، ويهيّء الجامعة العربية لمرحلة قدّر ببصره الثاقب، أن يكون فيها للتعاون العربي الأفريقي شأناً ينقل القضية الفلسطينية لتأخذ بعدها الأفريقي. في أشهر لاحقة صدر عن المنظمة الدولية قرار يعتبر الصهيونية والعنصرية وجهان لعملة واحدة، كما أن عقد السبعينيات شهد القمة العربية الأفريقية، اليتيمة حتى كتابة هذه السطور. كأن بالراحل جمال يرى أملاً عربياً أفريقياً يمسك باليد، لا طيفاً يطوّف في غفوة، أو ضغث حلمٍ يراود يقظان.
كان منصور يعد جمال بلقاءٍ مع نميري لتحريك الترشيح ثانية، وكتب في رسالة لصهره السفير مصطفى مدني، وكأنه استشعر عدم حماس من طرف النميري، وأريدك أن تستشعره معي، عزيزي القاريء، في السطور التالية :
((واتفقنا أنا ومنصور على زيارته (ويقصد النميري)، بعد أن يعدّ لها منصور ولم يقع شيء، وكان مهماً أن القاه فقد حمل إليّ منصور حديثاً دار بينهما، قال لي أنه خطر له وهو في القاهرة، وقد تحدث فيه لعبدالناصر، وكنت أحب أن يعرف أني أحب أن أعمل أميناً لأسباب موضوعية..)) ص 71 من كتاب رسائل جمال وأوراقه الخاصة، دار الجيل ، بيروت1992.
عمل جمال على متابعة التمهيد لترشيح السودان في الساحة الإعلامية . انبرت أقلام عربية في الترحيب بترشيح جمال ، وكتب سيد أحمد الحردلو أكثر من مقال في الصحافة اللبنانية ، ومعه يوسف الخال، وجرى قلم فؤاد مطر يؤيد ترشيح السودان لأحد أفذاذ مفكريه أميناً عاما للجامعة العربية. كان جمال يدرك أن خروج الأمانة من يد مصر لهو أمر عسير، حتى وإن كان ناصر نفسه يحفظ لجمال ودّا . بلغه من صديقه السفير محمد ميرغني في القاهرة، أن بعض الأقلام المعادية لمحمد حسنين هيكل شرعت تهاجم جمال من موقع العداء لهيكل، ولكن للمفكر المقاتل مناصرين أشداء في القاهرة - بينهم بشير محمد سعيد وصلاح أحمد محمد صالح- أبطلوا مفعول كتاباتهم. غير أن جمال أدرك ببصيرته النافذة، كيف يكيدون لحجب المنصب عن السودان . لجأ عبد الخالق حسونة إلى أصدقائه في الكويت، ويكتب جمال لأصدقائه: ((.. وأسمع أنه يريدها لنفسه وهيكل يشتمه دون مبالاة وحسونة يستعين بالكويت لا أعرف لماذا الكويت. أعني أن الأمر قد تعقد ولم تردني ردود سفرائي بعد، إلّا أنّ السفراء العرب هنا، كتبوا ما ينبغي أن يكتبوه فيما أعرف، إلا السفير المصري ..))
كان جمال يعرف أن هنالك من يناصرون وزير خارجية مصر وقتذاك، السيد محمود رياض للمنصب، ولقد عوّل المفكر جمال على وقوف هيكل مع ترشيحه، ولم يكن هيكل في زمرة من ساندوا ترشيح رياض. ويعرف الذين تابعوا السياسة المصرية الداخلية في مصر، وصراع التيارات ومراكز القوى، بعد رحيل عبد الناصر، يعرفون أي ثمن دفعه محمد حسنين هيكل في تلك السنوات، وأيّ تهميش لحق به في عهد السادات. كتب جمال لأصدقائه والمكايدات تزيد أواراً من حوله : (( أما مسألة الأمانة فيبدو لي أنها لن تكون يسيرة كما بدت أول الأمر، بل ربما تعسّرت..))
غير أنه وإنْ بدا حزيناً في المقطع التالي من رسالته لصفيه وصهره السفير مصطفى مدني ، فإن القنوط لم يقعده عن التفاؤل: ((آسف. تدهور خطابي لمقال. اغفر لي. لأني لا أجد من أتحدث معه، فالذين يستحقون قليلون، وربما أحسّ أني أعيش بعيداً عن الحمقى ، وإن كنت قد فشلت في اقناع بعضهم أني أريد وقتي لنفسي. وإذا لم يتيسر لي لقاء يحسن أن يبدأ في إرسال منصور( المقصود بالطبع وزير الخارجية آنذاك د. منصور خالد ) للعواصم العربية، برسالةٍ، بعد الاتفاق مع عبد الناصر، فقد قتلت الفرصة، أولاً بسبب الأطماع، وثانياً الخمول، وعلينا أن نتحرك إن أردنا أن نحقق شيئاً، فالوقت شبه مهيأ ، وأسمع أن بين جعفر وعبدالناصر حلوة.. ))
( 5 )
وأنا أسرد لك عزيزي القاريء قصة ترشيح جمال محمد أحمد لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية أواخر الستينات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، فإني استرجع معك، قصة ترشيح ال"بوص" محمد أحمد محجوب – أبو سامي- لرئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة عشر عام 1958، ينافسه على المنصب المفكر والدبلوماسي اللبناني الدكتور شارل مالك. وقف السودان كما وقف العرب، أغلبهم مع المحجوب، غير أن للولايات المتحدة رأي آخر وقد فهمه أبو سامي، إذ كتب ملاحظاته الشخصية في كتابه "الديمقراطية في الميزان": كان التماس الأصوات شديداً. اضطرب فوستر دالاس حين تبين أن أكثرية الوفود تميل إليّ، فحضر من واشنطن إلى نيويورك لتأييد مالك ، وذهب في ذلك إلى حدّ أن أبرق إلى مختلف رؤساء جمهوريات أمريكا اللاتينية، وهدّد وفودها في الأمم المتحدة بقطع المعونة الأمريكية عن بلادها إذا لم تنتخب شارل مالك..))
وحين التقى المحجوب في ردهات مبنى الأمم المتحدة ، عبّر له عن أسفه لعدم تأييد ترشيحه قائلاً : (( فقد وعدنا بذلك الدكتور مالك قبل وقت طويل ". كان المندوبون والصحافيون واقفين على مسمع منا حين أجبته : "شكراً يا حضرة الوزير. أفهم أن تعطوه صوتكم لأنكم وعدتموه به ، أما ما لا أستطيع فهمه فهو جمعك الأصوات له وتهديدك مندوبي أمريكا اللاتينية. دعني أقل لك أنني أعتدت تماماً الفشل والنجاح، والفشل بالنسبة لي هو الخطوة الأولى نحو النجاح. لكن بلدي لن يغفر أبداً هذه الأساليب، وسينظر دائما إليك بازدراء"...))
الذي خذل المحجوب في عام 1958 ، لتولي رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ليس زملاؤه الوزراء العرب، بل رجل إسمه فوستر دالاس، يشغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية .
في عام 1969 وعام 1970، كان الذي خذل جمال محمد أحمد في ترشيحه لشغل منصب الأمين العام للجامعة العربية، كاستحقاقٍ لا تشريف، بلد ينتمي إليه جمال ، إسمه السودان. .
الخرطوم- 7 مايو 2011
ان يتحدث هو لاخواننا في القاهرة، يطلب اليهم توضيح موقفهم من امر الترشيح للامانة العامة. ان اصروا على الاحتفاظ بهذا المنصب ورشحوا له رجلا قادراً، حمل اليّ السيد وزير الخارجية هذا النبأ، لأكتب له ارجوه أن يسحب ترشيحي ليكون واضحا ان السودان أحرص على الوئام العربي أكثر من حرصه على وظيفة، وأجرى سيادته اتصالات في القاهرة ما اعرف ما جرى فيها، ولم يقل كلمة واحدة في الجلسة التي مدد فيها للامين العام الحالي للمرة الثالثة. ولم يقل ان السودان يؤجل ترشيحه هذا العام تقديرا لما قيل في الجلسة. سكت ما عمل بالاتفاق. وحين سئل ، سيادته في مؤتمر السفراء السودانيين في لندن عن الذي وقع في امر ترشيح السودان قال انه وجد عند السعودية والكويت والاردن ميلاً للتجديد.كان جديرا بسيادته ان ينفذ الخط السياسي لحكومته ، لا أن يأتي هذه الاعمال التي لا نعرف لها سببا وان كنا تستطيع تخمينه. والسيد رئيس الوزراء طلب اليه الاتصال بالقاهرة ولم يجيء لهذه البلاد الشقيقة.
وفي ص121 كتب جمال في مذكرة رفعها لنائب رئيس الوزراء في 6 يناير 1969 ناقلا ذات الشكوى التي وردت في مذكرته السابقة لرئيس مجلس السيادة
(6- وفي ايجاز شديد اشير الى امر ترشيح السودان لامانة الجامعة العربية. كان المتفق عليه بين السيد رئيس الوزراء وسيادته وأنا ان يسحب ترشيح السودان هذا العام ان رأت الجمهورية العربية المتحدة، انها تريد المنصب لنفسها، لكن سيادته لم يقل شيئا في الاجتماع الذي مددت فيه الفترة للسيد حسونة عاما آخر، وسئل في مؤتمر السفراء في لندن عن أمر هذا الترشيح فأجاب بأنه رأى ان السعودية والاردن والكويت ، متفقة على هذا العام الجديد للسيد حسونة، فلم يتحدث عن السودان، وكان الرأي المتفق عليه فيما قلت هو الاتصال المباشر بالقاهرة كيلا تحسب أننا ننافسها في وظيفة في الوقت الذي لا نعرف فيه وظيفة بالغا ما بلغت تلك الوظيفة تستحق الجدال مع مصر.)
يقول عثمان محمد الحسن في ص 122
(..كان جمال م احمد بحكم ثقافته وخبرته الطويلة احد كبار المدافعين عن حياد الخدمة المدنية وحصاناتها ،وواحداً من الذين ساهموا مساهمة كبيرة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.