رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بشارةٌ الراعي الصالح: شِركة ومحبة .. بقلم: عمر جعفر السّوْري
نشر في سودانيل يوم 11 - 05 - 2011

الوطن ليس لطائفة أو حزب، و لن يحتكره أحد لأن في الاحتكار احتقاراً لنا جميعاً
البطريرك مار بشارة بطرس الراعي
عبر السنين الطوال، حفيت أقدام عرب وادي خالد القاطنين في أقصى شمال لبنان عند الحدود السورية و هم يذرعون البلاد جيئة و ذهابا، سهلاً و ساحلاً و جبلاً، يرومون عدلاً و إنصافاً افتقدوه، مثلما كلت أيديهم و هم يطرقون أبواب المراجع الدنيوية و الدينية اللبنانية بحثاً عن جنسية حرموا منها، و عن حق مضاع، استحقوه منذ أن وطئت أقدامهم هذه الأرض التي جاءوا إليها مع خالد بن الوليد حينما كان يهم بفتح حمص. خشيت الطوائف اللبنانية أن يخل تجنيسهم بميزان الذهب السكاني و بتوافق أفرزه تعداد جرى في ثلاثينيات القرن العشرين، و لم يقدموا على غيره بعد. أي بلد يخشى أن يحسب كم عدد سكانه، زادوا أم نقصوا؟ عرب وادي خالد جلهم من السنة و بينهم عشيرة شيعية واحدة. في سعيهم الحثيث ذلك، توقفوا، في ستينيات القرن المنصرم، أمام أبواب بكركي، ففتح لهم مار بولس بطرس المعوشي أبواب الصرح البطريركي الماروني، و استمع لهم، ثم صاح في معاونيه: "سجلوهم موارنة!" أراد أن يرفع عنهم ظلامتهم التي طالت سنين عددا، لا تنصيرهم، بعد أن تخلت عنهم الطائفتان السنية و الشيعية التي ينتمون إليهما.
في بطاقة هوية كل لبناني و لبنانية - التي يطلقون هم عليها "تَذْكرة" - تُذكر الطائفة، مثلما تسجل في شهادة الميلاد و غيرها من الوثائق الرسمية، فتعرف الماروني من السنية و تميز الشيعي و الأرثوذكسية و تشير الى الكاثوليكي و إلى طوائف الأرمن و غير ذلك من أقليات لبنان التي تشكل فسيفساء سكانه.
قامت الدنيا حينئذِ و لم تقعد. ظن بعض ضيقي الأفق – من المسلمين و المسيحيين على حد سواء- إن البطريرك المعوشي الجزيني يريد إكثار عدد طائفته على حساب الآخرين و لم يفطنوا الى كنه صرخته المدوية: "أنصفوهم حتى لو اقتضى الامر تسجيلهم الى طائفة غير طائفتهم و انتسابهم على الورق الى دين غير دينهم." رغم ذلك لم يتغير حال عرب وادي خالد الا في العام 1993 عندما أصدر الرئيس اللبناني الأسبق، الياس الهراوي، مرسوماً بمنحهم الجنسية، فحصلوا عليها، أما حقوق المواطنة الكاملة فلم يتمتعوا بها الا بعد سنوات عشر، كما ينص القانون اللبناني!
على غير سيرة أسلافه و خلفائه، اعتلى الكاردينال المعوشي عرش البطريركية المارونية و جلس على كرسي بكركي بأمر من بابا الفاتيكان و ليس بالانتخاب كما هو معتاد، و ذلك بعد فشل أمراء الكنيسة المارونية في اختيار رأًسِ لكنيستهم، و بعد أن يئست الرعية من رؤية الدخان الأبيض يخرج معلناً خليفة للبطريرك عريضة الذي أتي من بلدة جبران خليل جبران، بْشرّي، ليقبض على الصولجان طيلة عقدين و نصف من الزمان (1931 – 1955).
البطرك المعين جاء في وقته و في زمنه؛ فعهده لم يكن للطائفة فقط و لم يكن هو لبلده فحسب؛ ذلك الذي أُعطى مجد لبنان، كان للعرب و للمشرق كله، أليس هو بطريرك أنطاكيه و سائر المشرق. فبعد دخوله الصرح البطريركي بسنوات ثلاث اندلعت الثورة على الرئيس كميل شمعون في العام 1958 و نزل مشاة البحرية الاميركية "المارينز" لبنان. عندها انحاز كبير الموارنة الى زعماء السنة، عبدالله اليافي و صائب سلام و حسين العويني و رشيد كرامي، و الى جمال عبد الناصر، و قال: "عندما تطأ أول رجل لجندي أميركي لبنان، سأكون أول الذين يخوضون المعركة." و قد كان! يومها أطلق عليه غلاة اليمين الموراني و المسيحي اسم "محمد المعوشي". ولى الرئيس كميل شمعون الذي فقد لقب "فتى العرب الأغر"، و ظل البطريرك ممسكاً بصولجانه حتى العام 1975. كان بولس المعوشي يجسد تجسيداً حياً ما صفَ به رعيته حينما قال للأكاديمي و المؤرخ اللبناني البروتستانتي كمال الصليبي يوم جاء ليستأذنه في نشر كتابه عن المؤرخين الموارنة: "أكتب ما شئت و اطبع ما شئت. أتريد أن تعرف كيف أفهم أنا تاريخ الموارنة؟ نحن شعب مخه يابس مثل صخور هذا الجبل، و ما تاريخنا الا قرون من معاندة الدهر."
كمال الصليبي هو ابن الطبيب سليمان الصليبي الذي غادر لبنان بعد تخرجه من الجامعة الاميركية في بيروت مطلع القرن العشرين ليلتحق بالجيش المصري بالسودان و ليزرع في قلب ابنه محبة البلد الذي وفد إليه و يورثه حب أهله. و هناك أتى ذلك الطبيب لابنه بمعلم يدرسه القرآن و الحديث. كمال الصليبي لم يكتب يوماً شيئاً بالعربية الا قرأ قبله أحاديث نبوية و قصائد للمتنبي و صفحات من سِفر المسعودي، مروج الذهب، و غير ذلك من متون الفصاحة و جواهر الكلم.
يوم رحل ذلك العملاق المعوشي الجزيني في يناير/كانون الثاني 1975 (أكان اسمه الأول بولس كما يجب، أو محمد كما رأى بعض الغلاة) انبرى الأب ميشيل الحايك، الفيلسوف و الشاعر و الأديب و الراهب المتبتل، مؤلف (المسيح في الإسلام) ليقول: "إن أي بطريرك ماروني جديد سيجيء ليرأس إما مأتم المارونية و إما ميلادها في العصر. منه سيكون البدء الماروني أو على يده النهاية. المهم اليوم الاقتراع و غداً الاختراع .. و الا فقد انتهت جنازة لتبدأ اخرى."
حينها التئم عقد أمراء الكنيسة و غلقّوا الأبواب دونهم حتى سموا أنطونيوس خريّش، حوار الراحل يوم كان أسقفاً لصور و أمين سر أبرشيته هناك، و رسوله الى الرعية في فلسطين، سموه رأساً للموارنة في لبنان و المهجر (أو الانتشار، كما يحلو لهم القول). أتوا بأستاذ الفلسفة و القانون المسالم هذا من عين إبل، قلب الجنوب اللبناني و إحدى جزر المحيط الشيعي المتناثرة، ليخلف ابن جزين، زهرة الجنوب اليانعة. لكنه أتى في غير موعده. فبُعيد انتخابه بشهور اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية لتترك ألسنة نيرانها أبناءها رماداً، و لتأكل الأخضر قبل اليابس. منذئذٍ دخلت الكنيسة المارونية سنوات الركود، لتؤثر تلك الحقبة على لبنان و العرب و المشرق كله، إذ أن بكركي التي جمعت الإرثين معاً: طقوسها و ثقافتها السريانية المشرقية، و انتمائها الإيماني و العقدي الى الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، لم تكن فقط ميزاناً لحرارة الأحداث، بل ضابط لإيقاع الحدث أنى و متى كان، إما انسياباً أو نشازاً. يقول ميشيل الحايك، الذي "ضاقت به الأرض" ليرحل الى ملكوت السماء الرحب في العام 2005: "فما انتهت جنازة المعوشي حتى بدأت جنازة لبنان. كانت نهاية لبطريرك، و لم تكن للمارونية بداية. كان لها مأتم في كل منطقة و قرية و بيت، و لم يكن لها ميلاد." لم يرض أمراء الحرب الموارنة بالآتي من الجنوب الى عرش الشمال قالوا: "كيف لهذا القادم من جبل عامل الى بكركي في جبل لبنان" يشير إلينا بما نفعل." بل استنكروا كيف أتى به أمراء الكنيسة من مطارنة و أساقفة و معهم "الروح القدس" بطريركاً لهم. يا للهرطقة! كذلك حاول أحد غلاة أتباعهم أن يرديه بالرصاص و هو يصعد السلم الى مقره هناك. لم تعد بكركي قِبلة الموارنة أجمعين في عهده، فاختلت قواعد غير مرئية تحفظ للبنان دوره و سحره. سُمي المعوشي محمداً، و ظلت بكركي في عهده محجاً للموارنة كما كانت، تحيط بها رعيتها الا قلة قليلة مارقة. كان اللبنانيون من كل الطوائف يستأنسون بها في عهده، كما وفد إليها العرب و المسلمون من كل حدب و صوب. أما في عهد خلفه و خلف خلفه فقد جفلت الخراف و تفرقت الرعية أيدي سبأ، حتى ذهبت الظنون بالبعض أن الراعي مستأجر!
أخرج غياب بكركي عن المشهد رهباناً من صوامعهم ليملأوا الفراغ. حينها هرول الأباتي شربل قسيس، رئيس الرهبانية المارونية، ليرأس الجبهة اللبنانية التي ضمت رئيس الجمهورية حينئذِ سليمان فرنجية، و الرئيس الأسبق كميل شمعون، و رئيس حزب الكتائب اللبنانية بيير الجميل، و أستاذ الفلسفة وزير الخارجية الأسبق شارل مالك، و الأديب الناقد الألمعي فؤاد افرام البستاني، و صقر اليمين المسيحي اتيان صقر الذي نصّب نفسه حارساً للأرز. كانوا أعمدة الهيكل السبعة الذين قادوا الطرف الآخر من المقاتلين في الحرب الأهلية. و كان شارل مالك و فؤاد البستاني فيلسوفا أثينا "المؤمنة" المبشرين بفدرالية في بلد مساحته لا تزيد عن مساحة القاهرة الكبرى. و تبع الأباتي بولس نعمان الذي ترك الدير و التدريس في الجامعات الى شراء السلاح و رهبان آخرون رأس الجبهة اللبنانية في دروب الاقتتال!
انسحب الكاردينال خريّش من المشهد بالاستقالة في العام 1985 بعد عقد من الزمان، و الحرب الأهلية في أوجها. كان هذا المعلم المسالم مثله مثل رئيس لبنان في ذلك الوقت، الياس سركيس، الذي جاء من المصرف المركزي، و قد أمسك به بقوةِ و ِمنعة فظلت الليرة اللبنانية، رغم الحرب الضروس، من أقوى العملات قاطبة، و أضحت ملاذاً يلجأ إليه المضاربون في أوقات الأزمات. لكن رئاسة لبنان، غير حاكمية مصرف لبنان.
خسر الرئيس سركيس الاستحقاق الرئاسي في العام 1970 أمام الرئيس سليمان فرنجية بصوت كمال بك جنبلاط، ثم استقر في قصر بعبدا بعد ستة أعوام من ذلك التاريخ بأصوات زعيم بني معروف الموحدين الدروز و أيقونة اليسار بكل أطيافه. خسر في سنوات الرخاء ثم انتخب هذا الشهابي في أوقات الشدة، فأدار الأزمة، لكنه عجز عن إطفاء حرائق الحرب. في المرات الثلاث التي قابلته فيها بمعية صحافيين عرب آخرين، أدركت لماذا كان يحمل معه وسادته قبل ملفاته حيثما يذهب، في رحلة خارجية أو إلي مقره الصيفي في بيت الدين. الا إن خريّش و سركيس حافظا على وحدة البلاد و جنبّاها خطر التمزق و التشظي. رغم هشاشة المؤسسات، و الحرب الفاجرة، و المتاريس، و خطوط التماس، و بيروت الشرقية و بيروت الغربية، بقي لبنان أرضاً واحدة، و علماً واحداً يرفرف فوق أجهزته و أيضاً فوق مقرات مليشياته المتقاتلةً الى جانب راياتهم، و ما أنفك الساهرون وقتئذِ يفدون الى كازينو لبنان في ادما من كل أنحاء البلاد و من كل المذاهب، رجالاً و نساءً، ثم يعودون أدراجهم قبل استئناف المعارك فيما بينهم. أما في السودان فقد عجزت القيادات الزمنية و الروحية - في النظام كما في المعارضة - عن ذلك، إذ انقسمت البلاد قسمين، و ربما الى مزيد أن بقي الحال على حاله، و يومئذٍ ستتوالد الرايات كالفطر المسموم. بئس القيادة و القيادات!
جاء نفر من آل الخازن في ذلك العام (1958) مرة أخرى الى الصرح الماروني ليحرسوا أبوابه دون المطارنة حتى يتصاعد الدخان الأبيض معلناً انتخاب بطرك يخلف الكاردينال خريّش. لقد جرى العرف عندهم بأن يحرس رجال من عائلة الخازن أبواب بكركي مقفلة أثناء اعتكاف أمراء الكنيسة في عزلة تامة أياماً ينتقل بعدها العرش من سلفٍ الى خلف. يومذاك اجتمعت كلمتهم على أسقف دمشق و صربا، نصرالله صفير، بطريركاً مارونياً لأنطاكيه و سائر المشرق. جلس مار نصرالله بطرس صفير على كرسيه في بكركي، و في الديمان صيفاً، حتى أوعز إليه بابا الفاتيكان، بنديكتوس السادس عشر، بالاستقالة، فتنحى في مارس/آذار من هذه السنة. لم يكن أمام بابا الفاتيكان الا أن يتدارك الأمر، إذ انعزلت الكنيسة المارونية في عهد صفير عن مجموع رعيتها؛ بل وصل الامر ببعضها الى مقاطعة بكركي كلياً. لم يحدث في تاريخها أن تطاول بعض الموارنة على البطرك علناً و على رؤوس الأشهاد بكلمات لا تقال حتى للسفهاء؛ انقسمت الطائفة في عهده و اشتد الخلاف بين الكاردينال صفير و بين سياسيين موارنة كثر لهم حضورهم و وزنهم. خرج زعيم الأكثرية المسيحية، العماد ميشيل عون، على هذا الرجل التسعيني، و شن سليمان فرنجية - الحفيد هجمات خرجت في بعض الأحيان عن الطور، و عرّض الوزير الفذ البير منصور، بدور بكركي مرات عددا، كما هاجمه زعيم حزب الله، حسن نصر الله، كذلك رد عليه رأس الطائفة الشيعية، الشيخ عبد الأمير قبلان، بحدة غير مألوفة في أدب التخاطب بين المراجع الدينية اللبنانية. اضمحل دور بكركي التاريخي اضمحلالاً منقطع النظير و تضائل حجمها، فغابت عن لبنان و عن العرب و بعدت عن المشرق عشرين ألف فرسخ!
أسقف دمشق و صربا الذي أصبح بطريركاً للموارنة و أحد كرادلة الفاتيكان انقطع عن رعيته، إذ إن قانونه الكنسي يحتم عليه زيارة الرعية في أماكنهم كل خمس سنين على أكثر تقدير، لكنه انجرف مع تيار أقصى اليمين فقاطع سورية و انعزل عن رعيته هناك، بل استنكف عن المشاركة في ذكري مرور 1600 عام على وفاة مار مارون الذي إليه تنتمي الطائفة و على اسمه أسس مار يوحنا مارون الكنيسة القائمة الى اليوم. لم يذهب الى الاحتفال في بلدة براد الحلبية، حيث دفن القديس مارون، ذلك الراهب المولود في نواحي حمص و الذي ابتدع مسلكاً فريداً في الرهبنة و التنسك، حينما جعل ديره البرية الواسعة، الا من خيمة كان يأوي أليها لماماً، و جعل الخلاء الممتد صومعة و متنسكاً.
أتفق آل الخازن بعد اختلاف فيما بينهم على شخصين يحرسان أبواب الصرح ربيع هذا العام، و لما تصاعد الدخان الأبيض فتحت الأبواب و خرج أهل البيت الماروني على الجمهور متوجين بشارة الراعي خليفة لستة و سبعين بطريركاً تعاقبوا على رعاية المارونية و الموارنة. أسقف جُبيل (التي عرفها الأقدمون بيبلوس) جاء للمرة الأولى في العصور الحديثة من أديرة الرهبان و دهاليزها لا من سلك الكهنوت و مراتبه، و قد رأى البعض في ذلك دلالة و إشارة! هذا السامق، رفيع الطول على خلاف سابقيه قامة، قريب من العامة، معروف لأهل الصحافة و الإعلام. رئيس اللجنة الأسقفية للإعلام المنبثقة عن مجلس البطاركة و الأساقفة الكاثوليك هو وجه مألوف على الشاشة الفضية و صفحات الصحف السيارة، و قد لعب دوراً في إغلاق باب للفتنة في رمضان المنصرم، يوم تعاون مع غيره من المسلمين لوقف عرض مسلسل تلفزيوني من إنتاج إيراني عن السيد المسيح أثار هياج عامة المسيحيين اللبنانيين. قال المسيحيون إن المسلسل مستوحى من انجيل برنابا، و هو انجيل كتبه راهب إيطالي مرتد في القرن الخامس عشر. كتاب تنكره الكنيسة و يزدريه المسلمون.
يوم توّج الراعي على عرش بكركي حضر لبنان بطوائفه كلها و العالم من خلال مبعوثيه الدبلوماسيين، و كان سفير السودان بينهم. يومها قال إن له برنامجاً، و إن البرنامج هو: ِشرْكةٌ و محبة، ثم فسر الكلمتين بقوله: (الشركة في بعدها العمودي هي اتحاد بالله، وفي بعدها الأفقي وحدة مع جميع الناس. أما المحبة فتثبّت رباطها، كما يثبّت الطين حجارة البناء.) و مضى الى القول: (إننا سنعيش معاً هذه الشركة بالمحبة، في لبنان الذي "مجده" في رسالته. لقد أُطلق على البطريرك الماروني شعار "مجد لبنان أعطي له"، مأخوذاً من نبؤة أشعيا. لكنّه يعطى له ولكنيسته بقدر ما يلتزمان ببناء الشركة والشهادة للمحبة. مجد لبنان ينتقص بالانغلاق على الذات والتقوقع. لكنه ينمو ويعلو بالانفتاح على الآخر ، على هذا الشرق وعلى العالم. بل يُعطى "المجد" للبنان وشعبه، إذا كنا كلنا للوطن، كما ننشد. فالوطن ليس لطائفة أو حزب أو فئة. ولن يحتكره أحد لأن في احتكار فئة له احتقاراً لنا جميعا، وفقداناً لهذا “المجد"، الذي عظمته في تنوّع عائلاته الروحية وغناها، ولا أقول في تنوّع طوائفه لأنها صُبغت بألوان سياسية وحزبية ضيّقة انتزعت من هذه الطوائف قدسيتها وأصالة إيمانها وروحانية دينها. "فالويل لأمّة كثرت فيها الطوائف وقلّ فيها الدين"، نقولها مع ابن الأرز جبران خليل جبران. )
و حتى يمد أواصر الصلة و المودة بالمسلمين قال الراعي في كلمته التي بدأ بها عهده: (إن حدث البشارة، الذي نقله لوقا الإنجيلي، رواه من بعده القرآن الكريم في سورة آل عمران: "قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح، عيسى ابن مريم، وجيها في الدنيا والآخرة... يكلّم الناس في المهد وكهلاً... ويعلّمه الله الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ورسولا" إلى بني إسرائيل". واستكمل الرواية في سورة مريم، مضيفا على لسان المولود من مريم أنه "عبدالله ونبيّه وآيته ورحمته" ورابطا بين تجسّده وموته وقيامته بقوله:" والسلام عليَّ يوم وُلدت، ويوم أموت، ويوم أُبعَث حيّاً".) لكنه أشار الى نهجه بوضوح حينما ذكر بأنه سيتبع ُسبل أسلافه من البطاركة و ذكر بعضاً منهم، فقال إنه على طريق البطريرك جبرائيل حجولا الذي سلم نفسه لوالي طرابلس المملوكي، فدية عن الأساقفة و الرهبان و الأعيان المعتقلين، و أُحرق بالنار في ساحة المدينة. الا يذكرنا هذا بما يحدث اليوم. عن رعاة قتلوا رعيتهم، ذبحوهم من الوريد الى الوريد، و حرقوهم بالنار في سبيل البقاء على الكراسي بدلاً من افتدائهم، و الموت دونهم؟ ألا يستدعي فداء البطرك حجولا لشعبه الى الذاكرة هروب قادة من وجه العدالة بعد أن ثارت عليهم شعوبهم، و تمنّع آخرين من الاحتكام الى القضاء حتى يرفعوا عن بلادهم الحصار؟ أين هؤلاء من جبرائيل حجولا؟ و ذكر الراعي أيضاً البطريرك أنطوان عريضة الذي رهن صليبه و خاتمه حينما كان مطراناً ليطعم الجياع من كل المذاهب إبان الحرب العالمية الأولى. تتبادر الى الذهن هنا حكايات تروى عن حكام سرقوا قوت شعوبهم و أشاعوا المسغبة و الإملاق بينهم، و وسعوا الفجوة بين شريحة ضئيلة، تطاولت نبتاً شيطانياً، تملك هي كل شيء و غالبية مسحوقة تتضور جوعاً، و رهنوا البلاد و العباد في سبيل استطالة فترة تسلطهم على الرقاب. لم يكتف الراعي بتلك الإشارة فحسب، بل ذهب أبعد من ذلك حينما لم يقنع بالتلميح فعمد الى التصريح.
كان أول لقاء تلفزيوني له بث حياً بعد تنصيبه، هو الذي أجراه الراعي مع تلفزيون (MTV) الذي يملكه السياسي الأرثوذكسي غبرييل المر شقيق النائب و الوزير الملياردير، ميشيل المر، الذي وضع مرسوم تجنيس عرب وادي خالد موضع التنفيذ بوصفه وزيراً للداخلية، و يعرف (أبو الياس) بأنه صانع الملوك. لم تكن إطلالة البطرك الأولى من تلفزيون يملكه ماروني أو كاثوليكي، و تلك إشارة أخرى. ذكر كبير الموارنة في ذلك اللقاء إن بكركي محدودة الموارد، فهي ليست كالدولة جابية ضرائب، و لذلك يصعب عليها التوسع في إنشاء المدارس و المعاهد و الجامعات الا بقدر؛ كذلك الحال في المشافي و دور الرعاية الصحية و غيرها. و أضاف إنها ستجتهد للإنفاق على ما لديها و تقديم الخدمة على أحسن ما يكون. و مضى الى القول أنه يتفهم الدعوة التي يعلو صوتها اليوم الى إنشاء المزيد، فالطبقة الوسطى اللبنانية التي كانت قادرة فيما مضى على تعليم أبنائها في المدارس الخاصة و على استشفاء مدفوع الثمن قد ذابت و اختفت بعد أن هبطت السلم الى درك المعوزين. ثم دعا القوم، لا سيما الشباب، الى الوقوف في وجه الدولة للمطالبة بحقهم الثابت في التعليم الجيد و الطبابة الشافية و العمل ليتنكبوا طريق المهاجر و إراقة ماء الوجه أمام السفارات. دعوة صريحة لا مواربة فيها و لا تورية. هل لبنان وحده الذي ينتظر إقالة عثراته و دعوة أبنائه لانتزاع حقوقهم مِمَن حرمهم، و البقاء في بلادهم؟ أليس هو حالنا جميعاً؟ بلي! إذن فلينصت الجميع لتلك الدعوة بعد أن بنى الطير أعشاشه فوق رؤوس من له مكانة الراعي عندنا و استكان، صم أذنيه و أغمض عينيه و أطبق فاه إلا من تثاؤب منفّرٍ بين الفينة و الأخرى؛ يا للهول!
جال بطريرك الموارنة السابع و السبعون بُعيد انتخابه، و الربيع الطلق يختال ضاحكاً، على المراجع الزمنية و الروحية شاكراً لهم التهنئة، فذهب الى دار الفتوى، و الى المجلس الشيعي الأعلى، و الى شيخ عقل الدروز و الى كنائس الطوائف المسيحية، و زار رئيس المجلس النيابي، و رئيس حكومة تصريف الأعمال، و لكنه عند رئيس الوزراء المكلف بتشكيل الوزارة العتيدة عقد قمة روحية جمعته برؤساء الطوائف الإسلامية و المسيحية. و تشاء الصدف أن تجمع عمشيت رئيس الجمهورية، ميشيل سليمان، و البطريرك بشارة الراعي، فكلاهما من ذات المنطقة، و إن ولد الراعي في حملايا التي شدت لها فيروز.
لو كان الأب ميشيل الحائك حاضراً اللحظة تلك لما غص من الأسى كما كتب لسلفه يوماً:"إذ يُخشى عليّ حين ينصبونك علينا، فتُوشح الأرجوان، و يتألق على صدرك صليب الذهب، و يرهج الخاتم الدريّ في بنصرك، و تنعقد لك العصا كالراية فوق الرؤوس، و يزدحم الضيوف على الطرق، يخشى عليّ أن يلتصق لساني بحنكي، و أن أغص من الأسى." يرى كثيرون أن الراعي قد دخل من الباب لتسمع الرعية صوته و تتبعه، و هو يسير أمامها، و أنه لم يأت من أجل الأصحاء، فهؤلاء لا يحتاجون الى طبيب، و لكنه جاء للمساكين و الضعفاء و المرضى و المعدمين، و لان تكون المرادفة في بكركي بين الفقر و الِبر، لعله يتمثل قول السيد المسيح للفريسيين: "إن السارق لا يجئ الا ليسرق و يقتل و يهدم، أما أنا فجئت لتكون لهم الحياة و لتكون أفضل."
الى روما أبى الراعي إلا أن يصطحب معه لقداسه الأول الذي أقامه في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان الطيف اللبناني كله من مسلمين و مسيحيين؛ و حتى السياسيين الذين حضروا القداس كانوا خليطاً من هذه الفسيفساء، و من الموالاة و المعارضة، عنواناً للُحمة بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف انتماءاتهم. و في عظته الأولى تلك بشّر مراراً بالشركة و المحبة، التي ترددت مراراً في أدعية تناوب على الجهر بها حضور بلغات عددا، الا إن الملفت للنظر هو ذكر المسلمين خصوصاً في الدعاء الذي قيل بالإيطالية، حتى يسمع ممثل البابا، الكاردينال الإيطالي ليوناردو ساندري، ذلك دون حاجة للترجمة.
تعود بكركي الى لبنان و المشرق مرة أخرى ببشارة و شركة و محبة، فهل ينظر الآخرون و هل يدركون سر و قيمة العيش المشترك، و إن الوطن ليس لطائفة أو حزب، بل للجميع؟
omer elsouri [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.