النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا شريكي الحكم ... بقلم: محمد عبد المجيد أمين
نشر في سودانيل يوم 02 - 05 - 2009


بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
ليس الهدف من هذا العرض الموجز مراجعة وتحليل ما طبق من بنود اتفاقية السلام الشامل أو ما لم يطبق ، منذ تاريخ توقيعها في يناير 2005 وحتى الآن ، وإنما الهدف هو استشفاف وتحليل جوانب وبنود ايجابية وردت في الاتفاقية، كان من المفترض ، إن نفذت ، ولو في حدها الأدنى ، أن تستفيد منها حكومة الشراكة وعموم الشعب السوداني علي السواء .
ربما جاءت هذه القراءة متأخرة قليلا ، لأنه وللأسف ، لم يتوقف شريكي الحكم عند هذه الجوانب المضيئة طويلا ،إذ سرعان ما ولجا إلي المسائل الشائكة(مناطق النزاع ،نزع السلاح و التسريح وإعادة الدمج ، الترتيبات الأمنية ، اقتسام الثروة ، وتعمير الجنوب)ووصل يهما الخلاف إلي اللجوء إلي التحكيم الدولي في مسألة "أبيي " تاركين وراءهما الكثير من الجوانب التي نعتبرها الركيزة الأساس والدعامة الحقيقية لتطبيق الاتفاقية معلقة دون تطبيق.
ربما كان للشريكين العذر فيما آلت إليه الأمور لاحقا ، فقد توالت الأحداث بصورة متلاحقة ، أربكتهما في كثير من الأحيان ، وجعلتهما يتصرفان علي عجل ، إما وفقا لأجندتهما الخاصة ، أو بفعل الضغوط الخارجية ، فتارة نراهم قافزين فوق الحواجز ، محجمين أو مترددين في تطبيق استحقاقات نراها أساسية ( كإرساء قواعد العدالة ونشر الحريات)، وتارة أخري نراهم مقبلين بنهم علي بنود تخص مصالح كل منهما تتعلق بالسلطة والثروة.
لعل أول الأحداث التي أربكت الطرفان ، وعلي وجه التحديد ، الحركة الشعبية لتحرير السودان ، هو الرحيل المفاجئ للقائد جون قرتق من الساحة السياسية للبلاد ، فهو بقبوله وتوقيعه علي هذه الاتفاقية أضاء شعلة السلام لتطفئ نار حرب امتدت لسنوات طوال ، وزرع في قلوب الملاين من الشعب السوداني آنذاك الأمل في إحداث تغيير ما يكسر حواجز التسلط والهيمنة من قبل حزب واحد ظل يسيطر علي مقاليد الأمور بالبلاد لمدة تزيد عن الخمسة عشرة عاما(حتى تاريخ توقيع الاتفاقية في 2005).
تأتي ثاني الأحداث المؤثرة ، والتي كانت من نصيب المؤتمر الوطني هذه المرة ، إصدار مذكرة " أوكامبو" ومدي التأثير السلبي الذي كان يمكن أن تحدثه علي تطبيق الاتفاقية وعلي الاستقرار في البلاد ، لولا تدارك الشريكان خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان ، بعد تلمسها مدي الاستنكار الشعبي لهذه المذكرة ووقوف الشعب خلف رئيسه ، وأدركت علي الفور أن مصلحتهما يمكن أن تتقوض إذا ما انفرط عقد تطبيق الاتفاقية لذا فقد عملا معا علي دفع واحتواء كل ما يعرقل عملية التطبيق قدر الإمكان ،
ربما كان ذلك التلاحم "المؤقت " بين شريكي الحكم هو الشيء الوحيد الذي نفذاه سويا وبطريقة صحيحة لأول مرة ، وخدما بذلك مصلحة وحدة السودان وشعبه "مؤقتا" وهو أن يبقي السلام مستمرا، وهذا كسب غير منقوص لكل الأطراف خاصة وأن كل المؤشرات تؤكد أن الأمور قد بدأت تسير نحو منعرجات صعبة للغاية وأن العمل الجماعي الجاد لتفعيل بنود الاتفاقية أصبح لازما باعتباره المخرج الوحيد لتجنب مزيد من "الأزمات". كما أن مذكرة "أوكامبو " أثبتت للجميع أن "الشعب " هو لاعب مؤثر ، يستجيب للأحداث ويتفاعل معها عند الضرورة ، بل ويمكن أن يوجه الأحداث حيثما يريد ، والمفارقة التي يجب أن تذكر هنا أن " الحكام " سرعان ما ينسون أن هناك سلطة أقوي من سلطتهم ، يمكن أن تؤيدهم وتؤازرهم وقت الشدائد وعند الملمات ، ويمكن أيضا أن تطيح بهم "عند الضرورة" .
بالرغم مما قيل من قبل عن ظروف إعداد الاتفاقية ورؤية وتأثير، بل ومشاركة القوي الخارجية في صياغة بنودها ، فإننا لا نشك في صدق نوايا القوي الوطنية السودانية التي وقعت عليها، وإلا ما كانت خرجت كل هذه الجموع لاستقبال الراحل جون قرنق.
كان السودان موعودا آنذاك بالأمل في إمكانية حدوث تحول جذري في تاريخه السياسي المتقلب ولكن، برحيل د. جون قرنق المفاجئ حدث فراغ كبير تمثل في عدم وجود الشخصية القيادية المثالية التي تستوعب مضمون وروح الاتفاقية. إن ذلك يجعلنا نتساءل: هل كان هذا الرجل يحمل هموم الحركة الشعبية ومناطق جنوب السودان فقط، أم كان يحمل هموم السودان بأسره؟ وهل الذين أتوا من بعده كانوا علي نفس المستوي من الفهم ، كي تطبق الاتفاقية كما رأي الراحل جون قرنق؟
إن كثيرا من بنود هذه الاتفاقية يدلل ، وبدون أدني شك أن الراحل جون قرنق كان رجلا وطنيا خالصا ، يضع في اعتباره السودان ككيان واحد موحد ويحرص علي لم الشمل وتضميد الجراح وبسط الأمن والسلام وإحداث التنمية علي كل الأصعدة ، وفي كل أنحاء السودان .كان هذا الأمل هو السودان الجديد في نظره . الم يكن بوسعه أن يطالب بالانفصال منذ البداية ، وكانت كل الظروف مهيأة لذلك؟... لم يفعل ذلك، لأنه ببساطة يعرف أنه جزء أصيل من هذا الوطن الواحد، لا يمكن أن يبتر عضو من أعضاء.
ومهما كانت نوايا الأطراف المعنية بالاتفاقية ،وما "تبطنه" القوي الخارجية، فقد تحقق السلام بالفعل ، علي الرغم من بعض العثرات ، بين الفينة والأخرى ،هنا وهناك ، إما بسبب البطء في التطبيق أو بسبب التلكؤ والمماطلة والمراوغة أحيانا في التنفيذ ، وتمادي الأمر بظهور أصوات نشاز ، هنا وهناك ، تطالب سلفا بالانفصال.
أولا: مراجع الاتفاقية :
لابد أن نعي تماما أن المرجع الأول لهذه الاتفاقية هو "دستور السودان" لعام 98 وهو في الواقع دستور النظام الحاكم أنذاك وليس بدستور "الأمة" وهو بحد ذاته محل نظر وانتقاد لأن من أهم "علله" أنه صيغ وأعد من منظور حزبي "بحت "وفرض علي الشعب فرضا ومن جانب واحد فقط
يعتبر الدستور الانتقالي(2005) الحادي عشر في ترتيب الدساتير التي مرت علي البلاد (من دستور 1953 إلي دستور 2005) منها المعدل ، ومنها الانتقالي ، ولم يفلح أي منها في الصمود ، إما بسبب التقلبات السياسية المستمرة ، أو بسبب رغبة الحكام في توطيد حكمهم ، والشعب دائما هو الحاضر الغائب في هذه الدساتير. وهنا تبرز علة العلل وهي عدم وجود دستور دائم يتفق عليه الجميع ، دستور يضع رغبات وآمال الشعب في المقام الأول ، دستور يضعه أناس يفهمون معني "الإيثار" ، مجردون من الأنانية ونزعة الهوى ، دستور لا يتغير بتغير الحكام. أليس الدستور .. أي دستور بمثابة عهد وميثاق بين الحاكم والمحكومين .!؟
يذهب الحكام ، ويبقي الدستور علي الأقل صامدا لأطول فترة ممكنة ،ولكن ، نحن نتكلم عن محيط جغرافي جد غريب يتغير فيه الدستور كلما يتغير الحكام ، حتى الشعب يتغير سلوكه ومشاربه وتطلعاته بتغير الحكام ، وهذا يجعلنا " كالسحابة" العارضة التي تدفعها الرياح ، لا شيء راسخ يمكث في الأرض.
وبسبب غياب مثل هذا الدستور الدائم ، فقد صيغ كالعادة دستور انتقالي آخر "استهداء “ وتعزيزا لاتفاقية السلام الشامل ومتطلبات السلام (2005). وعليه ، سيكون الدستور الانتقالي مجرد دستورا " اختباريا " ، لا أكثر ، تمتد صلاحيته إلي ست سنوات هي عمر الفترة الانتقالية المحددة في اتفاقية السلام الشامل ، والمطلوب من شريكي الحكم في خلال تلك الفترة اختبار بعضهما البعض في جوانب رئيسة أهمها الثقة وحسن النوايا بغية تحقيق متطلبات السلام. وفي هذه الحالة ستكون اتفاقية السلام الشامل مجرد "بالون اختبار" مطلوب منه أن يكون جاذبا وصامدا لمدة ست سنوات، ليس في الهواء، وإنما علي الأرض وبعدها سيحدد طرف واحد فقط (جنوب السودان)مصير أمة بأسرها: إما الوحدة أو الانفصال. إذن ، الخيار معلن مسبقا والمسألة مسألة وقت لا أكثر. ولكن لا بد وأن نرنو بأعيننا قليلا إلي الأمام ، إذ بعد مرور الفترة الانتقالية سيتحتم علي الحكام الجدد وقتذاك صياغة دستور جديد للبلاد يتواءم وطبيعتهم ، وهكذا.. دواليك.
أكد علي هذه الاتفاقية ووقع عليها بعد الطرفان"شهود" كثر ، يمثلون جهات دولية وإقليمية معتبرة ، لم يقتصر دورهم علي الشهادة فحسب ، بل امتدت مهامهم وغيرهم من المعنيين بالشأن السوداني إلي لعب دور " المانحين "أيضا ، مما أوجد عناصر ضغط خارجية أخري إضافية علي الاتفاقية ، ماديا ومعنويا. وبصرف النظر عن نوايا المانحين وعلاقتهم بهذه الاتفاقية، فان لهم أيضا " معاييرهم " الخاصة في تحديد مواقيت بسط اليد أو قبضها ، وعلي أي طرف سيكون الضغط ، وهذا أمر بات طبيعيا في السياسة الدولية المعاصرة وهو أن ترهن الدول والكيانات "الضعيفة "إرادتها " عند السيد "شايلوك" وتابعته الأمم المتحدة .
ثانيا : الوضع الراهن :
هاهو العام الرابع يمر منذ تاريخ توقيع الاتفاقية ، ولا شيء نراه سوي عراك بين المصالح وشد وجذب بين الطرفين ولا جديد في تحسن الوضع في مسألتي الثقة وحسن النوايا فكل منهما لازالت له أجندته الخفية يسعي لتحقيقها بشني الطرق كسبا للوقت. ثلة من المستنفذين والانتهازيين في المؤتمر الوطني لا يهمهم السلام أصلا ولا مستقبل هذا البلد ، يسعون في غيهم نحو الفساد والإفساد والفرقة بين الناس غير آبهين بتبعات ذلك علي البلاد والعباد ، ولا هم لهم إلا جمع أكبر قدر ممكن من "الثروة" ، ومن فرط "غيهم" يعالجون الخطأ بخطأ أفدح منه وتتوالي "الكوارث" تتري، وثلة أخري من المستنفذين والانتهازيين في الحركة الشعبية ، غير عابئين بما يحدث لهذا البلد لأن خط الرجعة بالنسبة لهم معد سلفا ومضمون بموجب الاتفاقية.. أقله ... الانفصال.
إذن ، المحصلة حني تاريخه هو خسائر فادحة ومزدوجة، ليس للطرفين فحسب وإنما لعموم أهل السودان. المؤتمر الوطني يخسر سمعته بسبب رائحته التي أزكمت الأنوف ولم يستطع " القادة " لجمها أو كبتها ، والحركة الشعبية تخسر فرص الوحدة وتخسر باقي المليون ميل مربع سعيا وراء الانفصال لتكسب ستمائة كلم مربع تقريبا ، هي كل مساحة جنوب السودان ذلك كله بسبب الأنانية والافتقار إلي الكياسة والحكمة خاصة في معالجة القضايا المصيرية المتعلقة بمستقبل السودان .
ثالثا : سلبيات اتفاقية السلام الشامل
تضمنت اتفاقية السلام الشامل ، بالقراءة مع نص الدستور السوداني الانتقالي ، بنودا ومبادئ استلزمت من مطبقيها الحضور والوعي الكاملين ، وقبل كل ذلك كله ، الأمانة والإخلاص في التنفيذ ، فهي كلها مبادئ ايجابية واعدة ، تصب كلها في مصلحة السودان وشعبه ، وبسبب غياب الوعي وعدم توفر النية والإخلاص في التنفيذ ، تحولت كلها فيما بعد وحتي الآن إلي مبادئ " سلبية"بل ومهدد "للأمن القومي" للبلاد ، ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي ن مع تعقيب مقتضب عليها :
1- جمهورية السودان دولة ذات سيادة :
" الدولة منقوصة السيادة لأنها لازلت نلهث وراء المنح والمعونات ونستجديها استجداء ونستقطب الاستثمارات المشروطة ". كينونة جمهورية السودان في العلاقات الدولية هي "الحكومة"ومن والاها.. لا تتكلم بصوت واحد وإنما بصوتين متوازيين لا يلتقيان أبدا".
2- تتجسد سيادة الأمة في شعبها:
" الأحزاب، كل الأحزاب بلا استثناء لا زالت ، مع اقتراب موعد الانتخابات ،تجتهد في استقطاب الشعب بكل المغريات تقطع أوصاله ثم تروضه فيما بعد لخدمة مصالحها وكسب مزيد من الأصوات". اجراءات تكتيكية مكشوفة مل منها الشعب .
3- وحدة السودان القائمة على الإرادة الحرة لشعبه، وسيادة حكم القانون، والحكم الديمقراطي اللامركزي، والمساءلة، والمساواة، والاحترام والعدالة لجميع المواطنين:
" يعلم الذين صاغوا هذا النص في الدستور السوداني الانتقالي والموقعين علي كل المواثيق والعهود والدساتير أن شعب السودان ليس له إرادة حرة ، وأن القانون منحاز بالكامل إلي النظام ، بعدما أدار ظهره "للعدل" واستنبط "عدلا" جديدا من عنده وفرضه علي الشعب فرضا بحكم " القوة الجبرية" ، وأن الديمقراطية مجرد "مصطلح" مفرغ المحتوي ، وانه لا توجد "مساءلة" خاصة لأصحاب "الحصانات" الدستورية وان السلب والنهب والرشوة وشراء الذمم والأصوات يتم بمعرفة الدولة ورعايتها ، وانه ليس هناك احترام لا لدين ، ولا لعرف ، ولا لدستور ، ولا للمواطن السوداني ، وأن العدالة "مفقودة" عند الضعفاء المساكين من عامة الشعب.
4- التنوع الثقافي والاجتماعي لشعب السودان أساس للتماسك القومي ولا يجوز استغلاله لزرع الفرقة:
" التنوع الثقافي والاجتماعي لشعب السودان سلاح يستخدمه النظام " سياسيا" ضد الشعب نفسه بغرض زرع الفتن والأحقاد والفرقة بين الناس واللعب علي الفئات "العرقية" بغرض "الاستقطاب".
5- سلطة الحكم وصلاحياته تستمد من الإرادة الغالبة للشعب والتي يعبر عنها في انتخابات حرة ومباشرة ودورية وذلك في اقتراع عام للبالغين. مشاكوس
"مصطلح (الإرادة الغالبة) الوارد أعلاه يعني ببساطة الحزب " ذو الغالبية" وهو معروف سلفا لأنه يملك كل الأدوات اللازمة للفوز الكاسح في أي انتخابات ، مع ملاحظة أن هذه الأدوات غير شرعية لأنها إما (منهوبة) أو (منتزعة) قسرا من قوت وإرادة الشعب. الأمانة والنزاهة والتجرد هم الأدوات الوحيد لتصحيح هذه التشوهات وهي أدوات مفقودة حتي الآن .
رابعا : بين الاتفاقية والتنفيذ :
يمكن لهذه الاتفاقية إن تنجح وبامتياز ، بل وأن تكون مدخلا لوحدة كل الشعب السوداني ، فقط إذا نحينا جانبا ما توصل إليه الشريكان حتى الآن ، فعلي قدر " فهمهما لمضمون الاتفاقية نفذا ما استطاعا تنفيذه ، سلبا كان أم إيجابا وهو علي كل لا يغني ولا يسمن من جوع ، أما المحصلة التي خرج بها الشعب السوداني هي استشفاف مستقبل "غامض" وغير "آمن" وأن كل طرف معني لا زال يتصرف وفق منطقه الخاص ولا اعتبار للشعب عنده ولا لمستقبل البلاد ، وهو أمر جد عجيب ، لأنه يخرج عن نطاق مضمون وروح الاتفاقية . فالمؤتمر الوطني يتصرف في كل الأمور وفق قاعدة " وضع اليد ".. وكأن لسان حاله يقول: السودان "حقنا" وفي "جيبنا" ويلعب دور"العريف" دائما ، والحركة الشعبية تتصرف وفق قاعدة " الجسم المطاطي" قدمان راسختان في الجنوب وذراعان ممتدتان نحو الخرطوم . ويبقي خارج هاتين المعادلتين الشعب السوداني ، المعني الأول والأخير بهذه الاتفاقية.
خامسا: هدايا الشريكان للشعب السوداني :
كل الهدايا التي قدمها الشريكان للشعب السوداني حتى الآن كانت من العيار " الثقيل " تمثل أهمها في:
1- التجاهل التام لإرادة للشعب السوداني . وتسفيهه والنيل من كرامته والمتاجرة "باسمه" في كل المحافل بغير حق من أجل "مصالحه" الحزبية الخاصة وإرضاء للإرادة الأجنبية.
2- الاستمرار في نهب سلطة البلاد وثرواتها واقتسامها مع الشركاء والموالين واعتبارها " إقطاعيات" مملوكة للأحزاب الحاكمة تتصرف فيها كيفما تشاء.
3- تعيين "الرؤوس الجاهلة" في المواقع الحساسة في البلاد، ليس لسبب إلا الولاء"ومنحهم صلاحيات بعيدة كل البعد عن النظم واللوائح المنظمة لأي عمل "عام" بغرض تسهيل وخدمة مصالح " سياسية" خاصة.
4- تهيئة كل الظروف لإفساد الشعب السوداني وإغواءه، وحثه علي “النفاق"، “والغش"، "والخداع" بهدف "إذلاله" بالإدانة ومن ثم السيطرة عليه.
5- اتهام الشعب السوداني " بالشحاذة" وهي وان كانت "مذمة " إلا أنها أرحم كثيرا من "النصب" "والاحتيال" علي الدول باسم السودان لجلب منح واستثمارات "مشبوهة" لا يصب أغلبها في "الخزينة العامة" للبلاد.
6- التسبب في "انهيار" التعليم في البلاد مما نتج عنه تخريج أجيال "خاوية الرؤوس" ، يسهل السيطرة عليها وتوجيهها حيثما أراد" النظام" ، وتسهيل والمساعدة علي "منح" الموالين شهادات عليا ، محتواها لا يمثل أي إضافة حقيقية للبلاد، لا علي المستوي الأكاديمي المحلي ولا العالمي ، وهو في كل الأحول مستوي يتربع علي "ذيل" القائمة وفقا للمعايير العالمية ومتأخرا كثيرا بالنسبة لترتيب الجامعات الأفريقية والعربية.
7- التسبب في انهيار الصحة العامة في البلاد بدخول أمراض جديدة لم بعرفها السودان من قبل " الايدز،التهاب الكبد الوبائي ، الضغط ، السكري" والتسبب في حدوث وفيات "غير مبررة" بسبب غياب ابسط الخدمات الصحية أو جعلها "مثمنة" وبعيدة المنال لغير المستطيعين وهم عموم "الفقراء " من أهل هذا البلد . والتنصل من المسئولية المادية والأخلاقية بالاعتماد الكلي علي خدمات وبرامج منظمة الصحة العالمية والمنظمات الأخرى ذات الصلة.
8- التسبب في تمزيق وحدة الشعب السوداني بتبني المسائل ذات الطبيعة "العرقية" واستخدامها "سياسيا" كوسيلة للتمييز والانحياز، وفي نفس الوقت استخدامها كوسيلة لتهميش الأخريين واغتصاب حقوقهم وأعراضهم ، مما سبب كثيرا من الضيم علي " المفتري عليهم" حتى " تمردوا".
9- رفع اليد عن كل الخدمات التي يمكن أن تؤديها أي دولة لشعوبها ( الواجبات) وترك الأمر للمواطن كي يدبر أمره وعلي نفقته الخاصة ، بل وإرهاق كاهله بتحمل التزامات مالية جائرة.
10-التضييق علي حياة الناس وعلي أرزاقهم وتشجيعهم علي " التحايل"، واحتكار السلع والخدمات وإطلاق يد التجار في تحديد أسعار السلع والخدمات وفق هواهم وجشعهم وطمعهم مما جعل اغلب الناس يساير حياته اليومية بالكاد " بالدفتر".
11- تسهيل كل الوسائل التي تساعد الناس علي معصية الخالق إرضاء “للمخلوق". والتغاضي عن المحرمات التي يعاقب عليها الشرع قبل القانون ، والاتجار " بالدين " لتحقيق المصالح الخاصة.
12 إجبار الناس علي الانحياز للنظام وتهديدهم وترويعهم بقطع أوصالهم أن هم جهروا "بالحق" أو انحازوا إلي فئة دون أخري.
13 إشغال الناس بأمور وقضايا حساسة ،(أهمها السعي واللهث وراء القوت اليومي الذي أصبح ينتزع انتزاعا) ، لمنعهم من التفكير في المطالبة بحقوقهم والحلم "بغد" أفضل .
14- تعيين مجالس تشريعية منحازة للنظام ، ليس لها أي علاقة بهموم ومشاكل وحياة الناس اليومية ، تتمتع بامتيازات ومخصصات غير عادية ، مهمتها الأساسية "الجدل" وتمرير أجندة النظام .
15- الحجر علي القانون وعلي قوات الشعب المسلحة ، إما " بالتحييد " أو "بالانحياز"، وهما "الملاذ " الأخير للشعب في "الملمات".
16- التسبب في ضياع و"طمس" ارث وحضارة شعب عريق ، وفقدان كل " الكروت الأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية الرابحة التي كان يتنافس بها يوما مع العالم.
17- تآمر شريكي الحكم علي كبت حرية الرأي والتعبير ، ومنع نشر الحقائق في وسائل الإعلام المختلفة ، وهو دليل قاطع علي "دكتاتورية " النظام الحاكم.
18 – الاستمرار في اهانة الشعب السوداني بتغيبه عن مسرح الأحداث وعدم الاكتراث لصوت العقل الجمعي للأمة ، واللجوء إليه فقط والاحتماء به عند تأزم المواقف وجسام الأحداث .
19- المخالفات المتكررة للدستور واتفاقية السلام الشامل.
جملة الهدايا والعطايا المقدمة للشعب السوداني لا يعد ولا يحصي، ليس من الحزبين الحاكمين فحسب بل من كل الأنظمة التي حكمت السودان منذ الاستقلال ، ولعلنا نتذكر في هذا السياق قول الراحل عبد الخالق محجوب " والله أنتم في واد والشعب في واد آخر غير أن واديكم غير ذي زرع." مناضل "شيوعي" ولكنه مواطن ، استبصر ما لم يستبصره "هؤلاء".
سادسا : علاقة شعب السودان باتفاقية السلام الشامل :
إذا استثنينا أنصار شريكي الاتفاقية ومؤيديهم من الأحزاب الأخرى، فان غالبية الشعب السوداني ليس له أي علاقة مباشرة بهذه الاتفاقية ، إذ أنها موقعة بين طرفين برعاية دولية، ومع ذلك ، وردت مسميات عدة ، سواء في اتفاقية السلام الشامل أو في دستور السودان الانتقالي أو البروتوكولات المعززة لعملية السلام ، تشير كلها إلي أن الشعب السوداني هو المعني الأول والأخير بما يلزم ، والغريب أن هذه المسميات تلفت الانتباه حقا لأنها تفصل حقيقة معاناة هذا الشعب.. نورد منها علي سبيل المثال مسميات وردت في صفحتين فقط من اتفاقية السلام الشامل (ص 1،2) : "خسائر مريعة في الأرواح" ، "شعب جنوب السودان" ، " وحدة السودان التي تقوم علي أساس الإرادة الحرة لشعبه" ، " شعب السودان له تراث.." ، " ..التي تحترم الحقوق الإنسانية والسياسية لجميع الشعب السوداني" ، "...والاقتتال الذي يعاني منه الشعب السوداني " , "صياغة خطة لعودة اللاجئين" ، "..تحقيق الأهداف المشتركة والإعراب عنها بأفضل صورة لمصلحة جميع السودانيين"
يعلم الشريكان أن " الحساسية " بينهما لا زالت قائمة وأن الثقة المتبادلة وحسن النوايا لازالتا علي حالهما ، لاسيما وأن كل منهما يخشي أن يكون " مخترقا" من قبل الآخر، بل أن كل منهما يحاول "اختراق" الآخر ، وفي ظل هذا الوضع ، سيكون أي مواطن عادي من شعب السودان محل "شبهة" إن اقترب من أي منهما ، وهنا تكمن الكارثة، إذ سيتكشف لنا بوضوح أن كل ما نراه بين الشركيين هو مجرد "شكليات" لا أكثر، كل منهما "يمثل" علي الآخر أنه ينفذ الاتفاقية. وأن كلمة " شعب" أو "مواطن " بالنسبة لهما مجرد مسميات "هلامية لا حق لها في حرية الرأي والتعبير ، حتى وان كانت حقوقا واجبة النفاذ في الدستور، واتفاقية السلام الشامل ؟ ولكن..! ،من يأتنا بحقوقنا المسلوبة إذن..،إذا كان الشريكان علي هذا الحال.!؟ هل نفهم أن المسألة كلها مجرد تضييع وقت بين الطرفين وان الأمر محسوم ؟
لم يلتفت أي من الأنظمة الحاكمة التي مرت علي السودان منذ الاستقلال وحتى الآن إلي حقيقة تطلعات وآمال هذا الشعب. نعم.. يذكر اسم الشعب كثيرا في الدساتير والاتفاقيات والبرامج الحزبية ، كما يذكر اسم المواطن تماما في "بطاقة " هويته ، ولكن عند التطبيق يختلف الوضع تماما ، فلا أحد يعرف أحدا .
سابعا : الجوانب المضيئة من الاتفاقية :
لابد من الإشارة إلي أن كل البنود التي وردت في اتفاقية السلام الشامل ولها معالجات تطبيقية تمس مصالح الشعب السوداني ، بشكل مباشر أو غير مباشر ،هي من الجوانب المضيئة ، وهي إن طبقت أو سعي في تطبيقها ، وان كان ذلك متأخرا، ستكون دليلا علي مدي جدية المعنيين بالأمر ، نخص منها ، علي سبيل المثال ما يلي:
مادة 1-5-2:" إيجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان....".
الخلاصة :
هذا الجيل ، في مراحل تحصيله الأكاديمي الكتب أمامه نادرة ،وأن توفرت فهي "للموسرين" فقط . لم يبقي أمامه، كي يواصل المسيرة إلا كم هائل من "الشيتات"ومحاضرات "ذكية"مقتضبة ، ومراجع "الانترنت". ولكن يمكن أن يجد أمامه أيضا فرصة أسهل من ذلك كله ممثلة في أقرانه من الطلبة "المتسيسون" كل يدعوه إلي مائدته ، وهو نفس الهراء الذي ذكرناه آنفا.
أن السودان في حاجة ماسة وحقيقية إلي وقفة تأمل ، فالواقع الآن يقول أننا في حالة "نفخة"كاذبة ، معروف سببها ومظاهرها وكيفية معالجتها ، ويمكن أن نتغلب عليها الآن ، وليس بعد ما نذهب إلي"القبر" .
الأمر ليس صعبا ، استحضار العزيمة وشحذ الإرادة وتحديد الأهداف كلها كفيلة بتحقيق المعجزات. لا بأس أن نبدأ من "أ، ب" ولكن نبدأ من قاعدة صحية صحيحة، والباقي علي "الله"
هي دعوة للتغيير أذن ، بعد نقد الذات ،دعوة مبنية علي التسامح والمحبة والسلام للجميع ، وحب الوطن "بوعي" وليس حب الرؤساء والزعماء ، لأن المطلوب أن نحبهم ليس فيهم هؤلاء.
لنغلق علينا الأبواب ونتعاتب ، ونتصالح مع أنفسنا أولا ، ثم مع الأخريين برد حقوقهم المشروعة وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة، حتى ولو جاءت علي غير ما نريد ، فالعهد والميثاق دين مستحق أولي بالوفاء ، ثم نقرر بعدئذ:
-هل نريد سودانا قويا عزيزا موحدا... أم سودانا مقطع الأوصال منفصلا؟
- هل النظام الديموقراطي هو النظام الأمثل للسودان ؟ ..إذا كانت الإجابة بنعم ... فأي نمط من أنماط الديموقراطية نريد ؟ النمط "الأرسطي" ، أم النمط الغربي، أم مثل النمط الذي تتجهز الحكومة"لتسويقه"، أم هناك أنماط أخري تتلاءم مع طبيعتنا "المتقلبة" ؟.
-هل من حق الحكومات القائمة أن تختار لشعبها نمط الحكم الذي تريد ، أم هناك فرصة لاستطلاع آراء الناس فيما يريدون ؟
إننا حقا أمام مسألة جد معقدة وحلها: إما أن تختزل وتفرض علينا فرضا ، أو أن تفصل وتوضح لنا توضيحا .
(يتبع 2)
محمد عبد المجيد أمين (عمر براق)
E-mail:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.