شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    خريجي الطبلية من الأوائل    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منصور الشاب والفكر كأشغال شاقة مؤبدة .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 19 - 05 - 2011

(هذا هو الفصل السادس والعشرون من كتابنا " . . . ومنصور خالد" الذي اكتمل نشره مسلسلاً في مجلة "أوراق جديدة" التي تصدر عن وزارة الثقافة بولاية الخرطوم. وهو قيد النشر الآن في كتاب سائر. وأردنا به رد الاعتبار لصفوة الشيوعيين والطبقة العاملة التي لم "تفشل ولم تدمن الفشل" كما قضى بذلك منصور خالد بغير علم أو كتاب منير. وصار تاريخه مما يأخذ به حتى اليساريون من "ناس قريحتي راحت" في عبارة موفقة لكاتب ب"سودانيزأونلاين". ونحاول بنشر بعض حلقات الكتاب هنا رد هؤلاء الغاوين عن التاريخ الرديء.
. . . ومنصور خالد
26- منصور الشاب والفكر كأشغال شاقة مؤبدة
"كانت مايو الخدعة الصغرى، والتي ظننا أنه بعدها لا خدعة ولا خداع، والتي مشت على أجسادنا عبر العديد من الخدع الفرعية الأخرى. أطالت بها حياتها الكئيبة التي تمرغ في وحلها الصف الطويل من الصفوة الذين حاورهم منصور خالد ولم يخرج من حوارهم بشيء. إذ هو منهم وهم منه، يفعل فعلهم ويفعلوا فعله وأسهم بيده فيها كل من أدمن الفشل من النخبة السودانية، من يسار ويمين وبيروقراط وكنوقراط إلا من عصمه ربه أو صوت الشعب او الضمير"
عادل عبد العاطي، الحوار المتمدن، 16-1-2005
بالطبع ترافق خطاب الرؤية (vision) مع محنة السودان خلال الحرب الأهلية في الجنوب وما بعدها. فالحديث عن الرؤية أصل في كل نزاع. فكل نزاع حدث ثقافي في المحصلة الأخيرة. ولكن ما يعيب خطاب الرؤية عندنا افتراض أهله أن رؤية الشمال العربية الإسلامية هي وعي زائف، أي أيدلوجية، ولن يسلم السودان إلا حين يخلعها الشماليون خلعاً. وقد استنكر السيد الصادق المهدي في خيمة الصحفيين الرمضانية مثل هذا الطلب الصادر من الدكتور فرانسيس دينق وقال، كشمالي، إنه لن يستطيع خلع وعيه بهويته جزافاً ولكنه سيحرص أن لا يتعالى بها على آخر أو يفرضها عليه.
وهناك مثلاً الدكتور منصور خالد الذي قال في افتتاح مركز الخاتم عدلان للاستنارة خلال شهر رمضان بأننا، بخلاف الهند التي لمت شعثها من الأقوام فأمنت، انعدمت عندنا الرؤية الصحيحة بل "أن تغبيشها جعلنا نتربص بالحاضر ولا نعلم بالمستقبل". وهو قول على عواهنه. فالذي يطلب الرؤية الصحيحة يفترض بالضرورة أن هناك أكثر من رؤية في الساحة. فلا تكون الرؤية صحيحة إلا قياساً برؤى أخرى انحرفت عن الرؤية الموصوفة بالصحيحة بشكل أو آخر. ولكن منصور لا يعتقد في تعدد الرؤى لأنه يتحدث عن رؤية صحيحة لم نوفق إليها وباظت الحكاية. والواقع أنه كانت للأطراف السودانية حاكمة ومعارضة رؤاها المختلفة حول بناء الوطن المتآخي. فقد جاء مثلاً في ميثاق تكوين الحزب الوطني الاتحادي في نوفمبر 1952 التزامه ب "إنهاض السودان بكامل حدوده الجغرافية الحالية اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً مع بذل عناية خاصة بالجنوب والمناطق الريفية النائية، وتنمية موارد البلاد لإسعاد أهلها، وكفالة الحقوق الإنسانية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب دون تمييز عنصري أو ديني". ولم نبلغ من أفضل رؤانا التي في الساحة بعد أكثر من نحو نصف ما يفوق هذه العبارة الخالصة في الإلفة السودانية. ولن يفيدنا إعادة اختراع عجلة الرؤى صحيحة وغير صحيحة بل المفيد حقاً النظر في كيف فسدت مثل هذه الرؤية الاتحادية في التطبيق خلال حكم الوطني الاتحادي من 1954 إلى 1956.
ويضعنا بحثنا عن فساد الرؤى، لا عدمها كما يزعم منصور، وجهاً لوجه أمام الاقتصاد السياسي لتلك الرؤى. وهذا ما بدأنا في الحديث عنه في الفصل الماضي من هذا الكتاب. فقد تطرقنا إلى سقوط رؤية الوطني الاتحادي والصفوة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة للوطن والمواطنة في أول اختبار لها وهو مشروع السودنة. فلم تعط لجنة السودنة القومية والحكومة الجنوبيين سوى الفتات ضاربة عرض الحائط برؤيتها التي التزمت فيها للجنوب ليس فقط بالقسط بل وبالقسط الإيجابي نظراً لتهميش المستعمرين له ولغيره من أقاليم السودان. فلم ينل الجنوبيون غير 9 وظائف من نحو 800 وظيفة إدارية رفيعة فى الحكومة المركزية. وتذرع البرجوازيون لإرتكاب هذه المجزرة الوطنية ببؤس كفاءة الجنوبيين. ومن سخريات السودنة أن صفوة الشمال نفسها اعترفت، من جهة أخرى، بنقص تأهيلها حين جعلت المعيار للسودنة سياسياً لا مهنياً. فقد سودنت من الوظائف ما رأته يمس الجو الحر المحايد لبلوغنا الحكم الذاتي. فلم تثق الحكومة في الإنجليز ولا المصريين ليكونوا في وظائف من شأنها التأثير على الدولة والمواطنين في ظرف حرج كان من المتوقع فيه أن يختار السودان الوحدة مع مصر أو الاستقلال المفهوم أنه سيكون بعلاقة خاصة مع بريطانيا. فمن بين ال 1250 وظيفة شغلها الإنجليز أو مصريون (150 وظيفة) آنذاك لم نسودن في طور من أطوار السودنة سوى 600 وظيفة خضوعاً لمعيار صون الجو الحر المحايد. بل كانت الاعلانات تتري آنذاك لتعيين قضاة باكستانيين ليحلوا محل بعض الإنجليز. وليس صعباً الاستناج هنا أن صفوة الشماليين ربما سودنت عدداً من المناصب التي شغلها أجانب لمجرد كفالة الجو الحر المحايد بغير نظر لسداد تأهيلها. وهو السداد الذي حاسبت به الجنوبيين على دائر المليم.
وأفسد ما في خطاب الرؤى هو قولهم إنها مما يقبل القسمة على اثنين: رؤية شمالية فردة وأخرى جنوبية فردة. و"فردة" هذه ليست من لغة الشماسة بل من مصطلح الاتحاد الاشتركي لدولة نميري الذي كان يصفه سدنته بأنه "التنظيم الفرد". وقد قلنا في المقال الماضي أن الرؤى أخصب من أن تقتصر على شمالية وجنوبية. وكشفنا عن الرؤيتين الشمالتين اللتين اصطرعتا في الجلسة الثانية والخمسين لأول برلمان سوداني (السبت 31 ديسمبر 1955 ). ففيها تحادر المشروع العمالي التقدمي، الذي مثله النائب الشيوعي المحترم حسن الطاهر زروق والمشروع البرجوازي لنهضة السودان كما مثله السيد بابكر عوض الله رئيس البرلمان. فقد استعلى بابكر على فهم العلاقة التي حاول زروق إقامتها بين المواطنة من جهة وحقوقها في الأجر المتساوى من الجهة الأخرى. فقد نبه النائب رئيس البرلمان إلى أن قول الدستور إنه يكفل المواطنة بغير تمييز عرقي او جنسي أو إقلميي هو قول معسول كذوب ما لم نستردفه بالقسط من مثل إعطاء النساء والجنوبيين أجورهم على قدر ما يعطى الرجل الشمالي على قاعدة الأجر المتساوى للعمل المتساوي.
ورؤية زروق هي غير رؤية بابكر عوض ورهطه. والحديث عنها رجماً بأنها شمالية هي حشر للجغرافيا أو العرق في غير مكانهما لأنها مما جرى تصميمه أصلاً لتجاوز ضيق أفق الجغرافيا والعرق إلى إنسانية وطنية مبتكرة . . ما استطاعت. وهي رؤية لم تصدر عن مجرد ضمير مسهد أو مؤرق تبرئة للذمة بل من إحاطة بواقع سودان ما بعد الاستعمار وضرورة أن يتسع الوطن الجديد لغير الجماعة السودانية التي اضطلعت بعبء الحركة الوطنية من رجال شماليين وبرجوازيين صغاراً وكباراً ممن ناضلوا لطرد المستعمرين في كنف تكوينات طائفية دينية مستحدثة. وقال زروق ورهطه بلسان فصيح إن رؤيتهم اجتهاد قائم على نظر سياسي استرشد بعموميات ماركسية وسيغتني بالممارسة والتطبيق الخلاقين لها. ووجدنا اتحاد نقابات عمال السودان يسترشد بهدى تلك الرؤية ويضع مساواة الأجور بين العمال الشماليين والجنوبيين كمطلب مقدم في مفاوضاته مع الحكومة لتنسم شميم الوطن الجديد. وهذه أريحية فكرية وسياسية لم يتجشمها البرجوازيون حين جعلوا السودنة كواراً لا حساباً. وبنى اتحاد العمال قنطرة إلى عمال الجنوب، الذين كانت أجورهم المبخوسة شاغلاً ساخناً في مدن الجنوب ومصنع أنزارا بالإستوائية، لبسط رؤيته لمواطنة الجنوبيين المعززة بالأجر المتساوى. ولتزداد هذه الإنسانية العمالية الماركسية وضاءة سنعرض إلى اقتصاد السودنة الذي أفسد رؤية صفوة الحركة الوطنية فرضيت من الوطن الكبير بغنيمة الإنجليز فأزهدت غيرها فيه.
لم تبخل الصفوة البرجوازية بجاه الاستقلال على الجنوبيين فحسب بل بخلت به قطاعاتها المختلفة على بعضها البعض. فلم يقتصر كيدها على أفندية الجنوب بل كادت جماعاتها الواحدة للأخرى. فانقسموا شيعاً مهنية تريد كل منها أن تحصل على الغنم دون الأخرى. فاصطرع المحاسبون والجامعيون في وزارة المالية والإداريون والبوليس في وزارة الداخلية والإداريون والفنيون في مصالح عديدة مما طبع الخدمة المدنية بالتجاحد والقبليات.
بدا لأول وهلة أن الإداريين من سلك مفتشي المراكز ومديري المديريات هم من سيقتلون دجاجة السودنة ويخمون بيض وظائفها غير الفنية كالطب والهندسة متى خرج الإنجليز. ولم يقبل بهذا لا ضباط البوليس ولا الفنيون. فقد طلب البوليس أن ينشأ له كيان مستقل مركزي لا تخضع وحداته في المديريات والمراكز لسلطان الإداري من مدير مديرية ومفتش مركز كما كان الحال على عهد الإنجليز المعروف بأنه "حكومة المفتشين". فحيث وٌجِد البوليس، في طلب الشرطة بعد الاستقلال، خضع لمدير البوليس لا لغيره. فقد قر في اعتقاد البوليس أن كتفهم وكتف الإداريين قد تلاحقا بعد زوال الإنجليز. فلم يكن معظم الإداريين من خريجي الجامعات كسلفهم الإنجليز وإنما هم خريجو كلية غردون يتخصص الواحد منهم في حرفة الترجمة والكتابة والمحاسبة في سنته الثانية. وعليه فليس لهم فضل علم على البوليس. وتعبأ البوليس حول قضيتهم ضد الإداريين. فاجتمع قمنداناتهم في مؤتمر البوليس في مدني بتاريخ 10-1-1955 وترأس الاجتماع، الذي حضر جلسته الافتتاحية السيد إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء ووزير الداخلية، والسيد محمد أمين حسين مدير البوليس. ويبدو أن مؤتمر القمندانات هذا جاء رداً على مؤتمر للإداريين في نهاية 1954 ثَبَّتوا به حقهم في تبعية البوليس لهم. وجاء في قرارات مؤتمر البوليس تمسكهم بقيام مصلحة خاصة يكون عليها بالمديريات قمندان البوليس مسئولاً لدى رئاسته بالخرطوم مباشرة لا لمدير المديرية. وبرر البوليس قيام هذه المصلحة بأنهم يريدون النأي بشغلهم الحساس من التطفل السياسي الذي قد يترتب على خضوعهم للإداريين. وكان من رأى الإداريين، من الجهة الأخرى، أن تبعية البوليس للإدارة هو من توصيات مارشال (وهو خبير في الإدارة استأجره الانجليز قبل رحيلهم ليوصي بخطة مثلى لحكمهم في السودان) عن الحكم المحلي في 1949. فقد وصى بأن يكون البوليس بيد السلطات المحلية في المديريات والمراكز لأن قيام كيان مركزي للبوليس سيجعل منهم سلطة نظامية غير مسئولية للحكومة المحلية مما سيترتب عليه خرق كبير لحريات الأفراد. وحثت جريدة الأيام في كلمتها (52-6-1955) الحكومة بالتدخل في هذا النزاع ووضع الأمور في نصابها خاصة بعد ما ورد عن احتكاك منذر بالشر بين الفئتين في مديرية بحر الغزال. وأخيراً قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة من أعضائه لدراسة الأمر.
وتجلى فساد العلاقة بين الإداريين والبوليس، ممن جمعت بهم على خلاف وزارة الداخلية، عن نفسه بأشكال مختلفة. وتخاشنا. فلدي السودنة استلم أمين أحمد حسين قيادة البوليس في حين عين السيد بابكر الديب، من سلك البوليس، وكيلاً لحكومة السودان في القاهرة ثم سفيراً لها بمصر. وبعد مسألة حلايب والمواجهة السودانية لمصر بقيادة عبد الله خليل، رئيس الوزراء، عاد الديب واستلم رئاسة البوليس في 1958. وحاول الديب إجراء تغيير في نظم الأمن والمباحث فأعترضه الإداريون بوزارة الداخلية. وكان السيد مكاوي أكرت يشغل منصب الوكيل بينما كان السيد داؤد عبد اللطيف نائباً له. وغاب أكرت مرة فحل محله داؤد على غير المتفق عليه من أن يحل محل الوكيل في غيابه مدير البوليس. فاستقال الديب وخرج للأعمال الحرة ولكنه عاد لاحقاً ليكون مديراً للبوليس.
ويبدو أن نزاع (feud وهي اللفظة الانجليزية التى تصف بها الصفوة الإدارية نزاعات القبائل من رعاياهم) البوليس والإداريين قد ملأ الدنيا وشغل الناس. فقد وقف السيد عبد الرحمن مختار، الصحفي المعروف، أمام القضاء بسبب ما كتبه عن دمج سلكي الإدارة والبوليس. وكان منصور خالد، المحامي الحدث، هو الذي رافع عن عبد الرحمن (الناس 4-5-58). ونقول استطراداً إن علاقة الشرطة بالإدارة ظلت ساخنة ومعلقة بصورة حالت دوننا ودون إحداث إصلاح طال مداه في الإدارة في السودان. فقد انتهز البوليس والفنيون مدراء المصالح الحكومية من صحة وبيطرة وغيرها قيام دولة عبود (1958-1964) ليهمشوا مدير المديرية، سليل الإدارة، بقانون المديريات لعام 1960. فقد استثمر النظام خلافات طغم صفوة الدولة ليقلص سلطات مدراء المديريات ورجال سلكهم. وكان أكثر غرض النظام من ذلك أن يفرض الحاكم العسكري، القيادة المبتكرة للمديرية، على الجميع. وما لنا نذهب للشواهد بعيداً في الماضي. فنزاع ولاية الخرطوم وواليها السيد المتعافي والشرطة حول تبعية الأخيرة لقيادة الوالي، بحسب ما أملى النظام الفدرالي ونصوص اتفاقية نيفاشا لعام 2004، هو من ذيول السودنة التي لم نستأصل شأفتها.
وتجاحد من جهة ثانية الجامعيون والمحاسبون. فقد احتج اتحاد المحاسبين على مزاحمة خريجي كلية الآداب بكلية الخرطوم الجامعية لهم في وزارة المالية وأكثرهم تخرج بعلوم لا صلة لها بالمال مثل الجغرافيا أو التاريخ.وكان منصور خالد، حديث التخرج من الكلية، شاهد عيان فصيحاً على هذه الفسولة من عهد السودنة. فقد كتب يرد على اتحاد المحاسبين (الأيام 26-5-1955). وقال منصور إنه لا مصلحة له في خلاف الجامعيين والمحاسبين لو اقتصر على التهالك السائد آنذاك على المناصب. قلو كان الأمر كذلك في قول منصور "لهان الأمر ولما كان لنا من شأن غير إبداء الحسرة والأسية". الذي ساء منصوراً أن المعركة انتقلت من جهة المحاسبين لهدم بعض القيم المتعارفة. فقد جاء الاتحاد بما تجاوز زحام خريجي الكلية الجامعية لهم في وزارة المالية وتعداها "إلى الإنكار الصريح لمستويات الكلية وكفايتها العلمية وقيمة درجاتها". فالمحاسبون قللوا من قيمة شهادة الكلية لأنها غير معترف بها في غير السودان. ونبه منصور إلى أن دهاقنة الأكاديميين أقروا من عهد قريب آنذاك بأن إجازة الكلية تعدل إجازات أفضل الجامعات الإنجليزية. ولم ير منصور سبباً للمحاسبين للطعن في إجازة الكلية بينما مطلبهم الحق هو قصر وظائف المالية عليهم. وضرب لهم مثلاً على فساد منطقهم. فسألهم أن يتصوروا أن مساعديّ الحكيم، وهم قوم محسنون، طالبوا بأن يشغلوا أمكنة الأطباء لأن شهادتهم الجامعية غير معترف بها في العالم. وقس على ذلك: ملاحظو الأشغال يطالبون بإقصاء خريجي هندسة الكلية وهلمجرا.
ورد منصور على نقطة المحاسبين عن بٌعد علوم خريجي الآداب عن شأن المال فقال إن مبلغ علمه أن هؤلاء الخريجين يعملون في شئون الموظفين والتصديقات المالية. وهم لم يتعلموا الجغرافيا لخاطر أن يلموا بمعرفة عواصم البلدان أو منابع الأنهر ومصباتها لذاتها بل للنفاذ من مثل هذه المعارف إلى توسيع المدارك التي لا غنى عنها في إدارة الأمور. وغمز منصور من قناة المحاسبين قائلاً إنه لا شيء يستبدل هذا التوسيع للأفق بعد درس الجغرافيا وغيرها في الكلية بينما أمكن من الجهة الأخرى استبدال عمل المحاسبين بالآلة الحاسبة. وأنبرى السيد محمد عبد الله محمود (طالب حسابات) لمنصور قائلاً إنه إذا صح ما تمتع به خريجو الكلية بما وصفه ألا يحق لهم مزاحمة المهندسين والأطباء والبرادين. فالحساب علم مثل تلك العلوم الخالق الناطق (الأيام 3-2-1955).
وانتهى تجاحد الخريجين والمحاسبين إلى تماسك الحزز. فقد كان على وزارة المالية السيد حماد توفيق. فلما خلا منصب الوكيل للسودنة تصارع المحاسبون والجامعيون على المنصب. وكان حماد محاسباً في الأصل ولكنه ميال للجامعيين. ولذا تحرج موقفه بين بؤرتي الصراع. فأختار أن يرقي 3 من طاقم الوزارة: المحاسب منصور محجوب والجامعيين حمزة ميرغني ومامون بحيري إلى درجة واحدة دون إسناد الوكالة لأي منهم بعد تفريق مهامها بينهم. وخلق هذا وضعاً شاذاً اجتمعت اللجان لحسمه. وجاء السيد ابراهيم أحمد وزيرا للمالية بعد حماد. وقرر حسم هذا الوضع الشاذ فأختار حمزة ميرغي بعد المشورة وفَضَّله على مامون لقدمه في الخبرة.وترك القرار شرخاً بالوزارة لم يؤثر على سير العمل كما قال مامون في ذكرياته.
واستاء مامون لحرمانه من الوكالة مع عرفانه للوزير لحرصه على لقائه وشرح حيثيات القرار قبل إعلانه وتنفيذه. وقال مأمون إنه غضب ولكنه عاد بآخرة ورأى الحكمة من القرار. وكتب في مذكراته مع ذلك أنه أرجع تغليب الوزير لميرغني عليه في وكالة الوزارة إلى حادثة له في مجلس كلية غردون التذكارية. فقد كان مامون عضوا بلجنة كونها المجلس وترأسها إبراهيم أحمد لتدارس قانون قضى بتحويل كلية غردون إلى كلية جامعية. وعرض عليهم السيد ولشر، مدير كلية غردون، مسودة القانون وجاء فيها نص بأن يكون إبراهيم رئيساً دائماً للكلية. وكان مامون هو العضو الوحيد الذي اعترض على الشرط لأنه غير ديمقراطي. واسقطت اللجنة التوصية بغير خلاف حتى من إبراهيم. وحدثت مأمون نفسه أنه ربما علق بإبراهيم شيء من تلك الواقعة واحتقنها وأدخرها له.
لم يتأسس مأزقنا حيال شمول المواطنة في منعطف السودنة في صحة الرؤى أو خطلها. فقد كنا في زحام من الرؤى بعضها صالح وبعضها طالح وبعضها له حظ من هذا وذاك. فقد كان للشيوعيين رؤية أشبعوا بها القوى التي تكنفتهم مثل اتحاد العمال. بل كان لمنصور نفسه رؤية غراء حين استعلى على صراع المحاسبين والجامعيين ووصفه بأنه "تهالك على المناصب". ولم تقع كلمته أرضاً. فقد هلكنا جميعاً من فرط التجاحد. ولم يكن صنع الرؤية بحاجة إلى درس عصر. كان يكفي صفوة البرجوازية الذائع من أدب الإسلام والعرب لتركيب هذه الرؤية. فقال أصدق من قائل: "ومن يوقى شح نفسه". كما فات أذن هذه الصفوة بالطبع قول الشاعر عن العفة عند المغنم على سبقهم الناس في الدواس. فالساسة تأليف وحسن ندى كما قال البنا الشاعر.
ما ينبغي ان يؤرق فكرنا ليس صحة الرؤية بل اقتصادها. فقد كانت معظم الرؤى المتزاحمة صحيحة سياسياً كما رأينا. ولكن ما أن دنا قطاف شجرة المستعمرين من الوظائف حتى شحت نفوس صفوة الأفندية التي الأصل في تعليمها المسمى ب"التجهيزي". وهو تعليم رتبه لها الإنجليز ليعلفها بعلم مستجحد حتى تملأ أصاغر الوظائف بالدولة. وها هي السودنة تفتح لها باب أكابر الوظائف. ف"جَنَّت" عديل وخرجت عن طورها الآدمي إلى تلمظ الغاب وفتكاته. ومن أحسن من عبر عن جدل الرؤية واقتصاد التلمظ هذا الأستاذ عبد الرحمن عبدالله، وزير الخدمة العامة في دولة مايو، في كتابه "السودان". وعبد الرحمن شاهد على السودنة ومستفيد منها كأول من سودن وظيفة مفتش بالجنوب. فقد كتب بآخرة في كتابه:
"توافد مع الاستقلال الموظفون الشماليون إلى الجنوب: إداريون وقضاة وأطباء ومهندسون ومعلمون وبيطريون وضباط شرطة وفنيون. ولم يحتلوا الوظائف العليا فحسب بل تمتعوا أيضاً بالإمتيازات والنعم جميعها التي ورثوها عن "سلفهم الصالح" (وهذا ما كان يطلقه بعض الأفندية من السودانيين على طاقم الإنجليز الاستعماري) في حين كانت منزلة الجنوبيين في الوضع الجديد في درك متناه مؤسف بالمقارنة. فلقد وقعت لهم وظائف قليلة في مستويات السلك الكتابي الدنيا وظلوا يقيمون في حلال الأهالي التي تشبه الغيتو. وكان مكان اجتماعهم المسائي في بلدة كملكال، عاصمة مديرية أعالي النيل، مكاناً قفراً خرب. ومن سخرية الأمر أنه كان قريب جداً من نادي الموظفين الشماليين الرسمي ذي الأجناب. لم ينشأ هذا الوضع الشاذ من فصل عنصري مقصود مدبر بل هو ثمرة للتاريخ وسوء الظنة وبصورة أكيدة، انعدام الرؤية. لقد جرى تنفيذ السودنة في حماسة لطرد الإنجليز عن البلاد. وكان من المهم أن توؤل الوظائف المسودنة لأفضل السودانيين تأهيلاً ممن تصادف أن كانوا من السودانيين الشماليين. ولكن إذا استقبل المرء من أمره ما استدبر صح حكمنا على السودنة بانها كانت محض قصر نظر لأنه كان من المستحب سياسياً على الأقل أن تخصص وظائف عليا معلومة للجنوبيين بمبدأ التمييز الإيجابي لا المعيار البروقراطي. وعلى كل فبعض السودانيين الشماليين أنفسهم لم يملك المؤهل المناسب لبعض الوظائف المحددة التي انعقدت لهم." (مترجم عن النص الإنجليزي)
مما من الله به على منصور الشاب أنه نفذ إلى اقتصاد السودنة في طور التكوين ورأى في 1955 بذرة فشل الصفوة البرجوازية تبذر أمام ناظريه. وقصر منصور فكره لنصف قرن أو يزيد يبكي ذلك الفشل ويستبكي إدمان الصفوة له. وهذا باب في السجن مع الأشغال الفكرية الشاقة. فاستغلق على منصور طوال نصف القرن المنصرم أن يأخذ بجدية رؤية ماركسية في المواطنة الجديدة صدع بها نفر من زملائه في قاعات الدرس ممن يمموا وجوههم شطر الكادحين وجاءوا بنسل صالح من الرؤى وبخٌلق سوى في ممارستها. وهي جدية يلزمه بها مقتضى البحث متى خاض في نجاح قوم أو فشلهم وإلا كان قوله حبلاً على غارب. فكل ما حَزَب أمر البلد انكمش منصور في صدفته البرجوازية ينعى علي قبيله البرجوازي بؤس الرؤية وإدمان الفشل:
عاج الشقي إلى رسم يسائله.
لقد اختار عمداً ان يكون مؤرخاً لفشل صفوته البرجوازية وإدمانها له. وسنفيد علماً جماً متى قرأنا منصوراً كمشخص جيد لعلم امراض طبقته الاجتماعية. أما شموله للفكر والممارسة الماركسية في السودان في تلك الأمراض فهو محض نشاف وجه مما يسوغ لصاحبه أكل الصدقة في عرف السودانيين الشماليين. وسيكون هذا التاريخ الآخر للرؤى الماركسية والخلق الجميل موضوع حديث قادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.