وزير الخارجية يستقبل مدير عام المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة    منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(25) تاريخ ما أهمله منصور .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 16 - 05 - 2011

تكتمل لمسات طباعة كتابي ". . . ومنصور خالد" الذي نشرت فصوله التي بلغ 56 عددا مسلسلة على صفحات مجلة أوراق-الخرطوم الجديدة الشهرية منذ نحو 2006. ونشرت بعض فصوله الأولى في هذا المكان وفصل "منصور القوَّال" الذي أسف شيعة منصور في نقده والتربص به وسنعود نبطل باطلهم عن قريب. وللترويج رغبت أن أن أنشر تباعاً هنا فصولاً عن ما أهمله منصور من تاريح الجنوب لتنطلي على الناس أطروحته عن فشل النخبة الشمالية قاطبة. وهو تاريخ رديء ربما وقف أولو الرشد الناس على ما سوغ له من مشاعر البغضاء والدس والإحن التي عصفت بالوطن. سيجد القاريء في هذه الفصول التي نشرها أسبوعياً هنا، وحصرياً، تاريخاً لنا نحن الشيوعيين، طليعة الطبقة العاملة والكادحين، يكذب قول المرجفين إنه لم يكن بيننا نحن المسلمين العرب الشيوعيين "إخوان صدق من الغر الميامين" ممن أجاد التآخي مع "المهمشين" من قبل أن يصبح الجنوب تلك القصعة.
. . . ومنصور خالد
( 25) تاريخ ما أهمله منصور
عبد الله علي إبراهيم
رسمت الجلسة الثانية والخمسين لأول برلمان سوداني (السبت 31 ديسمبر 1955 ) الحد الفاصل بين المشروع العمالي التقدمي والمشروع البرجوازي لنهضة السودان في دولته التي كانت في طريقها للاستقلال في 1956. ففيها تحادر المشروعان عن كثب وتماسكا الحزز و"تحامرا" لبعض دقائق مشحونة بالدراما وأنصرفا ليصطرعا بصورة أو أخرى بغير هوادة منذ ذلك التاريخ. وقف في تلك الجلسة النائب الشيوعي المحترم حسن الطاهر زروق عن حزب الجبهة المعادية للاستعمار ليناقش مشروع دستور السودان المؤقت المقدم للبرلمان والذي عرف بدستور ستانلي بيكر نسبة للإداري البريطاني الذي كتب مسودته . وقال:
- جاء في الفصل الثاني من الدستور ما يلي: "لا يٌحرم أي سوداني من حقوقه بسبب المولد أو الدين أو العنصر أو النوع فيما يتعلق بتقلد المناصب العامة أو بالاستخدام الخاص أو بقبلوه في أية وظيفة أو حرفة أو عمل أو مهنة ..." وهذا لا شك فصل قيم ولكن ماذا نجد عند التطبيق العملي؟ نجد أن مكتب الاستخدام قد سجل في الخرطوم وحدها أكثر من خمسة آلاف عاطل كما نجد أن أجور العاملين في الجنوب لا تتساوى مع أجور العاملين في الشمال حتى إذا كانوا يؤدون نفس الأعمال.
واعترض السيد بابكر عوض الله، رئيس البرلمان، النائب ينبهه إلى خروجه عن الموضوع قائلاً: هل يستطيع العضو المحترم أن يوضح لنا ما هي العلاقة بين أجور العمال الجنوبيين وهذا الدستور؟
السيد حسن الطاهر زروق: إنني أقصد ألا يكون هناك تمييزاً عنصري. كذلك نجد أن المدرسات يتقاضين أجوراً أقل من المدرسين وبشروط عمل أسوأ حتى إذا كن يعملن في نفس مستوى مدارس البنين ويملكن نفس المؤهلات.
السيد الرئيس: إن هذا الحديث أيضاً خارج الموضوع الذي أمامنا.
السيد حسن الطاهر زروق: ولهذا يبقى هذا الفصل معطلاً حتى تصدر التشريعات التي تزيل الأوضاع التي تعطل تحقق مبدأ الأجر المتساوي وتشريعات لتوسيع نطاق الاستخدام وتحسين شروط العمل بصورة تدريجية عن طريق التطور الموجه للاقتصاد الوطني.
حملت تلك المحامرة الباكرة بين خطتي الطبقة العاملة والبرجوازية في البرلمان بواكير الإفلاس السياسي لرعيل الخريجين الوطني. فقد كشف بابكر عوض الله، باعتراضه على بشائر زروق للمواطنة الشاملة، عن عمى اجتماعي وعرقي وإداري أنشب أظافره في رؤية هذا الرعيل للوطن وأدائه في الدولة فأوردههما موارد الهلاك بصورة معجلة. فبابكر لايري رابطاً بين غمط النساء والمعطلين والجنوبيين أجورهم وبين مادة مركزية في الدستور عن كفالة المواطنة المتساوية بغض النظر عن العرق والجنس. فالدستور، في عقيدة بابكر عوض الله والآخرين، هو أبو القوانين حامل الهموم الأكابر. وسننزله سفحاً متى لوثناه بالحديث عن الهموم الأصاغر مثل أجور المستضعفين. فمكانها ليس الدستور. يا الله. وهنا مكمن المواطنة الناقصة التي ظلت ترخي بظلها الصعب على مسيرة الدولة السودانية وتفت من عضدها حتى قبل أن تستقل.
ذكر الدكتور منصور خالد، الذي أفرد سنوات شيخوخته ليدرس فشل الصفوة في إسباغ المواطنة على سائر السودانيين وإدمانها ذلك الفشل، وقفة أخرى لحسن الطاهر زروق في البرلمان يطلب الحكم الذاتي للجنوبيين. ونبه في موضع آخر إلى سبق الشيوعيين في موضوع تحرر المرأة. وكان استثنى الشيوعيين والجمهوريين من الصفوة التي اعتبرت الحديث عن احترام الخصائص الثقافية لمختلف القوميات في السودان خيانة للوطن. ولكنه متى تحدث عن فشل الصفوة السودانية عمم ولم يخص مما يجعل من استثناءاته القليلة للشيوعيين عرضاً لا جوهراً.
ففشل الصفوة الشمالية قاطبة أصل عند منصور. فمن رأيه أن جيله كله مأزوم لأنه "نشأ في زمن الحتميات التي حملته على السعي لتطويع الواقع للرؤى الأيدلوجية المعتقدية وليس امتحان تلك الرؤى على أرض الواقع لاستكشاف صلاحيتها" (السودان في المخيلة العربية:217 ). ثم عاد يطعن في ماركسية الشيوعيين من جيل الحتميات التي أخلت بقدرتهم على تحليل وضع الجنوب كحالة فريدة لا تسعها مقولات ستالين وأحكام ماركس (السودان أهوال: 28). وواضح من مثل قول منصور إن استثناءاته للشيوعيين غير جدية. فهم عنده فاشلون لعاهة مركزية فيهم انبطحوا بها على نصوص عقيدتهم الرمادية الغبراء "اسارى لمنظورهم الماركسي لأزمة المهمشين" (السودان أهوال: 969).
كان في صفوة الخريجين الوطنية من فشل وأدمن فشله. لا غلاط. وقد رأينا بصورة درامية بذرة هذا الفشل منطوية في تجنب رئيس البرلمان "أهدى الطريقين" للوطن الذي أشار به النائب الشيوعي الوحيد بالبرلمان. وهو طريق تعميم المواطنة على المستضعفين من النساء والمعطلين وأهل الأصقاع. ولم نزل عند هذه المسألة بعد أكثر من نصف قرن. لم نغادر متردمها. وساءت بمرور الزمن وسقمت نخوض فيها بفكر وحِل . . . والدم حتى الركب.
ساء الأستاذ محمد إبراهيم، سكرتير الحزب الشيوعي، تغاضي منصور خالد المتعمد لسبق حزبه في معترك شمول المواطنة، المعروف بالسودان الجديد، حتى وصف أحاديثه في هذا الخصوص ب "البهتان" (مقاله قبل خروجه من التخفي في 2005). واستعرض نقد مواقفاً للحزب ووثائق فاتها منصور "حوفة" مما ربما شفعت للشيوعيين دون تعميم الفشل عليهم. والبهتان، متى صح وهو صحيح في حالة منصور والشيوعيين، عيب لا يليق بمن ظل يزعم إتباع مناهج البحث المؤسس على ذاكرة الأرشيف لا طق الحنك. ولا يقع في مثل هذا البهتان إلا مستجد على البحث أو مدع له. ومنصور مستجد في مباحث المواطنة السابغة. فلم تلامس هذه القضية سنة قلمه إلا بعد انضمامه شيخاً للحركة الشعبية في 1985. ولا تثريب بالطبع لولا أنه لم يأت للحركة تائباً عن امتيازات الصفوة البرجوازية بل لاجئاً. وقد فصّلنا في أبواب سبقت من هذا الكتاب كيف أن مسألة هذه المواطنة أو السودان الجديد لم تتنزل من سنة القلم إلى شغافه. وهذا شأن مستجد الشيء النَهّاز النَهَاش: ولو أني الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل.
ومن جهة أخرى فمنصور مدع للبحث. فقد استغربت لمنصور دائماً يهجم على المسألة مثل السودان الجديد مثلاً ويؤرخ لإنطلاقته بقيام الحركة الشعبية بغير رجوع للأدب المكتوب السابق لهذه الفترة المتأخرة الذي ربما احتوي على أقباس للسودان الجديد تفيد الناشطين لأجل . الأدهى أن منصور يقرر بغير مسوغ أنه لا يوجد أدب يٌرجع إليه أو أنه مما لا يستحق النظر فيه حتى لو وجد. والرجوع لهذا الأدب في الشغل الأكاديمي والعلم الوثيق به شرط الأشراط. فنحن لا نأذن لباحث بالشروع في مسألته بدون استيفاء أكثر ما كتب في بابه من قبل. بل لا نجيز لباحث البدء في مبحثه إلا بعد أن يقنعنا بأنه سيأت بجديد لم يوفق إليه من سبقه من الباحثين. ولا نقبل من باحث اختراع العجلة من جديد. ولما قصرت تآليف منصور عن مستحق البحث العلمي، وهو ما يزعم قيامه به وإحسانه فيه، أصبح شنشنة إيدلوجية أسماها الدكتور أبراهيم محمد زين ب" الثقافة السياسية".
ووصفنا لكتابات منصور بالإيدلوجية، وهي الوعي الزائف، لا يقلل من خطرها. فقد وصف منصور في كتابه "نميري وثورة الترويع" (1985 ، بالإنجليزية، الفهرست) فترة 1975-1979 من عهد انقلاب مايو ب "سنوات الوعد" أي أنها سنوات مايو المبشره خلافاً لبقية سنواتها العجاف. ومعلوم أن تلك هي السنوات التي طابقت صعود نجمه شخصياً في دولة مايو وحزبها وصحفها قبل أن ينزع نميري عنه "البلق". وقوله بأن تلك هي السنوات الناجية من مايو هو ظن الرجل بنفسه ومزعمه عن قدره. وهو حر أن يعتقد ما شاء عن عظم مساهمته وبره بالوطن. ولكن ينبغي أن لا يَعدي الدراسة التاريخية بهذا التوهم فتندرج تلك الفترة في سجل التاريخ كما وصفها منصور لغرض في ذات نفسه. وقد أسفت لأن عدوى منصور أصابت باحثاً حسن الاطلاع دقيق الحس مثل الدكتور عبد السلام سيد أحمد. فأنجر وراء منصور يوافقه أن سنواته في دولة مايو كانت هي بحق "سنوات الوعد". ومن عرف عبد السلام السياسي الذي عرفته عرف أن تلك السنوات هي ما تعرفنا على وصفه ب "سنوات الردة". بل وجدت سياسياً حاذقاً مثل الأستاذ الحاج وراق يهدي منصوراً، ضمن آخرين، كتابه "حركة الترابي" (1997) بقوله:"وإلى د. منصور خالد تأكيداً بأن هناك من يقرأ ويفهم ويقدر." وكان وراق وقتها شيوعياً متفرغاً للعمل الثقافي ومن ضمن شغله حراسة تاريخ حزبه الصريح الجريء في الدعوة للمواطنة السابغة. و لا أعرف من شطب هذا التاريخ بجرة قلم مثابر مثل منصور المسبوق حتى قال نقد "بهتنا منصور!".
كانت وقفة النائب الشيوعي في أول برلمان سوداني، في عبارة إنجليزية سائرة، مثل الرأس الطافح فوق الماء من جبل الجليد الكامن تحتها. وهي عندي مثل "اشرئبابة" التيجاني يوسف بشير:
سمح قيام الشعب واشرئبابه والوثبة الأولى وطفر شبابه
فلم يكن مطلب زروق بشمول المواطنة مجرد مبدأ قويم لإحقاق الحق وتبرئة للذمة. بل ترسخت هذه الاشرئبابة في ممارسة شيوعية بين قوى الشعب العامل والنساء وقطاعات مرموقة في الهامش (وكان اسمه القطاع التقليدي عندنا) طمعاً في تنزيل "الوجود المغاير" في الوطن. وهنا ربما اختلف الشيوعيون عن الجمهوريين. فقد كان موقف الأخيرين الإيجابي حيال الهامش "دعوة" للرشد بينما انغمس الشيوعيون في نشاط عملي بين الجماهير ولأجلهم وبهم لتنزيل دعوتهم حول المواطنة السابغة. وسنعرض في باقي كتابنا هذا عن منصور خالد لهذه السعة في همة الشيوعيين الباكرة لتحقيق الأخاء السوداني من معطى الاستقلال. وسنرى كيف تنزلوا بمشروع هذا الأخاء الذي عرضه زروق على البرلمان (وما فهم البرلمان الكلام) على أرض الواقع بعموميات ماركسية يستهدي بها التطبيق الخلاق لها على الواقع السوداني كما كانوا يقولون. فسنقارن في هذا المبحث بين موقف الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي من كعكة الاستقلال وسخائها في قسمتها بالقسط وموقف البرجوازية، كبيرة وصغيرة، التي أستاثرت بها. فالأخيرة لم تحرم منها أندادها في الهامش فحسب بل تعاركت فرقها في ما بينها عراكاً حقنها بالمرارت وطبعها بحب الذات. وسنعرض بعد ذلك لوقفات شيوعيية راجحة ضد نظم السخرة والدقنية الموروثة من عهد الاستعمار التي أذلوا بها اهل الهامش وغير أهل الهامش وغيره من التاريخ المسكوت عنه في بيض صحائف منصور وسودها.
كانت السودنة هي الاختبار الأول لجدية وطنية البرجوازية والنادي السياسي في بناء وطن متآخ متآلف حر مستقل للجميع. وفشلت في الاختبار فشلاً ذريعاً. ولم نحتج لأكثر من عامين من بدء السودنة لتعرف البلد من أدناها إلى أقصاها حقيقة هذا الفشل وفداحة تكلفته المادية والروحية على الوطن. وأخذنا هذا العلم عن تقرير لجنة التحقيق في حوادث الجنوب التي شكلتها الحكومة برئاسة القاضي السوري قطران للتحري بشأن "تمرد" الفرقة الجنوبية عام 1955. ولم يَلِت التقرير ولم يعجن حول بؤس إدارة عملية السودنة. فقد عاب التقرير تطبيق سياسة سودنة الوظائف فى الخدمة المدنية ووصفه بأنه جاء مخيباً لآمال كل فئات الموظفين الجنوبيين المتطلعين لقسمة مقدرة من كعكة الإستقلال. فقد بذلت أحزاب الصفوة الشمالية لهم الوعود . . . ونكثت. فقد مَنَّاهم الحزب الوطنى الإتحادى في منشور ممهور باسم رئيس الحزب، السيد إسماعيل الأزهري، بأن معالجته لمسألة السودنة "ستكون دائماً عادلة وديمقراطية. وسوف لاتعطى الأسبقية للجنوبيين فى الجنوب فحسب بل سنشجع أيضاً إستخدام الجنوبيين فى الشمال ، خاصة فى الوظائف الكبيرة فى خدمة الحكومة المركزية ." وهيهات. فالتقرير يقول بأن الذين إستاثروا بغنم السودنة وامتيازاتها هم الموظفون الشماليون وبقى الجنوبيون على قارعة الطريق. فمن أصل نحو ثمنمائة وظيفة إدارية رفيعة فى الحكومة المركزية إستحوذ الموظفون الشماليون عليها جميعاً ماعدا نحو تسعة وظائف وضِعت جانباً ليشغلها موظفون جنوبيون. وينتقد تقرير لجنة القاضى قطران بشدة تغليب لجنة السودنة الإعتبارات الإدارية دون مراعاة ما قد يترتب على هذا التغليب من تبعات سياسية تتولد عن حس مشروع بالغبن ممن لم يصيبوا حظاً من سودنة بلدهم. وذكر تنصل الحكومة آنذاك مما التزمت به لفئات جنوبية أخرى. ولما تواترت الوعود المنقوضة من كل جهة خاب أمل الجنوبيين في الاستقلال وفقدوا الثقة وثاروا ثورتهم التي كانت موضوع تحقيق لجنة قطران.
لم يصمد معيار الصفوة البرجوازية الشمالية للسودنة القائم على "الكفاءة والتأهيل" فتهافت بتمرد 1955 . ورأينا أن التحقيق جرّح هذا المعيار تجريحاً شديداً. فقد اشترطت هذه الصفوة لشغل وظائف الإنجليز الموروثة معايير مهنية خالصة كانت قد بوأت صفوة الشمال الدرجة الرفيعة في الخدمة المدنية حتى على عهد الاستعمار دون غيرها من صفوات الهامش. ولم تتدارك الصفوة البرجوازية هذا الوضع، الذي يدججها بالامتياز تدجيجا، بحس تاريخي ينفذ إلى إمتيازها الموروث فيزلزله. فلم يخطر لها أن بؤس كفاءة صفوة الهامش ذنب استعماري ترتب عن سياسته التي حصرت تنمية البلد على تلك الأجزاء التي يسهل حلبها بأقل تكلفة واشتهرت مؤخراً ب "مثلث حمدي". ومن السخرية أن ذلك كان رأي الحركة الوطنية وعبرت عنه في كتابها الموسوم " مآسي الإنجليز في السودان" الصادر في آخر الأربعينات والذي جدده وحرره الدكتور حسن مكي ونشره لسنة خلت. ويٌقال إن السيد أحمد خير المحامي هو المحرر الخفي لهذا الكتاب. وفيه نقد شديد للاستعمار لإبقاء الجنوب بغير تنمية ولتنصله عن تبعة التعليم في أرجائه وإيكالها لمدراس التبشير المسيحي التي لا تحسنه. ولكن ما أن جاء الاستقلال ودنا قطاف ثماره حتى تنصلت صفوة الخريجين عن نقدها الرجيح لمآسي الإنجليز فرحاً بما عندها من مؤهلات كالثراء الحرام جعلتها الفيصل في نيل مناصب السودنة. فحين جاء الوقت على صفوة الخريجين أن تتبع القول بالعمل والقسط شحت نفسها وأخذت "جهل" الجنوبيين حجة عليهم لا لهم. ولم تر شرر النذر على فساد خطتها.
من النذر الباكرة التي لم توقظ الصفوة البرجوازية من سبات السودنة فتتحوط وتخرج من شح النفس إلى السخاء ما جاء في كتاب السيد حسين شرفي "صور الأداء الإداري (1942-1973) (الخرطوم 1993). فقد لقي شرفي مقاومة قوية حين وصل إلى مركز الناصر وشعبه من النوير ليسودن وكيل مفتشها الإنجليزي مستر ديننق الذي حل محل مستر ريني، الباشمفتش، الذي كان يتعالج من عضة ثعبان بإنجلترا. ولم يفعل شرفي سوى كسر هذه المقاومة بما وصفه ب "انقلاب عسكري" لشدة ضبط الإجراءت التي قام بها لوضع مشائخ النوير الذين تمردوا عليه في مكانهم. .
قال شرفي إنه في أغسطس 1954 ركب قطار الخرطوم-كوستي سبعة مفتشون شماليون لسودنة مراكز في الجنوب. واخذوا الباخرة من كوستي إلى تلك المراكز. ودار أنسهم في أيام الرحلة الطويلة حول التحديات التي سيواجهونها في أشغالهم الجديدة في تلك الفترة الحرجة. وكان أكثر ما حَذِروا منه هو تبييت الإنجليز النية لإحداث إنهيار دستوري لنقض إتفاقية تقرير المصير. وخلال عملية تسليم المركز وتسلمه من المفتش الإنجليزي جاء صباح يوم أحد إلى شرفي، وهو في مكتب مستر ديننق، أربعة مشائخ من النوير. فحيوه بغضب وتوتر. وجلسوا قبالته يلفهم صمت صعب ثم قالوا له:
- لقد سمعنا بأن كل الناس أصبحوا يحكمون انفسهم بأنفسهم. وهذا سبب رحيل الكيذور (وهو اسم ثور بصفات معينة يطلق على المفتش وللباشمفتش اسم ثور آخر). وأنت أمك تختلف عن أمنا فوجب أن ترحل مثل الكيدوز مستر ديننق إلى بلدك.
تماسك شرفي. فسمع قائل منهم:
-لم تسألنا لماذا نريد لك ان تحل عنا؟
ووجد شرفي في هذه سانحة ليرتب أوراقه من جديد التي صدمها هذا الهجوم المباغت. فقال إنه سيسمع لأسبابهم. قال أحدهم:
-إنك لا تحسن تصريف الأوراق التي أمامك كما فعل الكيدوز.
ولم يتركوا له فرصة ليستجمع نفسه فقال ثالث:
-أنت لا تعرف لغتنا كما يعرفها الكيدوز فكيف ستحل مشاكلنا بدون فهمها؟
ولما فرغوا من حيثياتهم المفاجئة شرح لهم شرفي ملابسات وجوده بينهم وزاد بأنهم زعماء البلد وطالما رفضوه فسيتصل بملكال ويبلغهم بموقفهم لإرجاعه إلى الخرطوم. ثم طالبوه بمرتباتهم عن فترة الخريف فأعتذر بأن اليوم عطلة والصراف غير موجود وسيفعل ذلك في اليوم التالي. فاحتجوا بخلو يدهم من المال وهم بالمدينة. ففكر شرفي وقدر وقال لهم تعالوا عصراً عند الخزينة لصرف استحقاقهم. وسمع من بعد ذلك أنهم دخلوا السوق فأرهبوا التجار الشماليين. وبعد انصرافهم مضى شرفي لمكتب البريد ووجد مديره بطرس به مع أن اليوم عطلة ولا يفتح المكتب سوى ساعة فيه كانت قد انقضت. فأرسل شرفي تلغرافاً بالشفرة لمدير المديرية بالواقعة طالباً مده بقوة كافية من الشرطة الخيّالة لتهيب النوير الاصطدام بالخيل. ثم استدعى شرفي الباتجاويش بخيت أوار من قبيلة المورلي وتدارس معه "تمرد"مشائخ النوير. ورسما خطة لمواجهة التمرد قوامها استنفار الشرطة وتجهيز كومريّ البوليس للطواف بالمدينة.
جاء شرفي بعد صلاة العصر راجلاً في ملابسه العادية من مسكنه بالاستراحة إلى حجرة الحرس. وارتدى بها ملابسه الرسمية واستلم "التمام" من البتجاويش وتحدث للقوة وقال إن القصد من الإجراء هو إظهار هيبة الحكومة فقط. ولما جاء السلاطين لصرف مرتباتهم تم اعتقالهم بغير مقاومة. ولم يكن من بين الشرطة سوى اثنين من النيليين (دينكا ونوير). فلم يكن الإنجليز يجندونهم لفرط إعجاب النيليين بأنفسهم إعجاباً لا يقيمون معه وزناً للضبط والربط.
ثم توزعت الشرطة أرجاء المدينة وذرع الكومران طرقاتها. وأبلغ شيخها السكان بحظر التجوال بعد المغيب. وعند السادسة عاد شرفي للاستراحة فصلى المغرب. فجاءه مستر ديننق وسلطان المنطقة وبعض العمد والمترجم. واحتد مستر ديننق مع شرفي حول مشروعية اعتقال المشائخ. وبرر شرفي الإجراء بأن المشائخ شنوا الحرب على الحكومة وحكمهم الإعدام. ما لبث ان تدخل بورديت بوب، السلطان، والتمس من ديننق أن يخرج ويتركهم مع مفتشهم. ففعل. والتمس السلطان من شرفي إطلاق سراح المشائخ. واستجاب شرفي طمعاً في توطيد علاقته مع السلطان الراجح. واستدعى شرفي الشرطة وأنهى حالة الاستنفار. وقال إنه حين أصبح الصبح كانت مقاليد البلدة بيده والأمن مستتب "عن طريق انقلاب عسكري محكم أبيض تمت فصوله بدون إطلاق رصاصة واحدة. وكانت تلك بداية تسلمي الحقيقي الواقعي لمقاليد الأمور بمركز شرق النوير". واجتمع شرفي بعد ذلك تحت شجرة وارفة بجمهرة من النوير في حضور السلطان والعمد والمترجم، توا ج ريت، وشرح لهم ملابسات قدومه إليهم وأنه ليس يمنع أن يكون مفتشهم القادم منهم متى نال نفس التعليم والتدريب والخبرة. وأثنى السلطان على شرفي وسجل زيارة له في صحبة مشائخ القار جاك النوير المفرج عنهم. ولم يلتق بديننق بعد ذلك حتى وقفت باخرة رحيله النهائي فأدركها وودعه. وسارع بتعلم لغة القوم في ستة أشهر.
لم تبخل الصفوة البرجوازية بجاه الاستقلال على الجنوبيين فحسب بل بخلت قطاعاتها المختلفة به على بعضها البعض. ولم يقتصر كيد رعيل الخريجين البرجوازي على أفندية الجنوبيين بل انقلب كيدهم على أنفسهم. فانقسموا شيعاً مهنية تريد كل منها أن تحصل على الغنم دون الأخرى. فاصطرع المحاسبون والجامعيون في وزارة المالية والإداريون والبوليس والإداريون والفنيون في مصالح عديدة مما طبع الخدمة المدنية بالتجاحد والقبليات. وقد نبه إلى ذلك منصور خالد الشاب في مقال له بجريدة الأيام (يناير 26 عام 1955) تدخل به ليفض بالحسنى حرب المحاسبين والجامعيين. وبينما كانت الصفوة المنصورية في شعاب هذا التجاحد كان لعمال السودان وحلفائهم، من الجهة الأخرى، موقفاً سمحاً تطوعوا به عن حس بتبعة الاستقلال وفروضه على السودانيين قاطبة لإزالة آثاره التي كان الجنوب مسرحاً كبيراً لها. فقد طلب اتحادهم بقيادة الشيوعيين من الحكومة عند بشريات الاستقلال بمساواة الأجور في الجنوب والشمال. وهو ما صدع به زروق في البرلمان. وسنفصل في هذا التاريخ الذي اهمله منصور في حديثنا القادم.
يؤرخ منصور، في أحسن أحواله، لفشل صفوته البرجوازية التي استنكرت أن يقترن حديث الدستور الجلل بهرطقة أجور المستضعفين في جلسة البرلمان التي مر ذكرها. فانطمست عليهم بهذا الجفاء فروض المواطنة وما زالوا يستدركونها بتعب شديد. فقد نعى منصور على صفوته "تبلد الحس" السياسي وخص من مظاهره بالذكر موقف اتحاد الإداريين الذي كان من رأيه أن الجنوبيين "ليسوا مدربين تدريباً كافياً يؤهلهم للإضلاع بالوظائف الكبرى." (السودان أهوال: 231). وربما أبعد النجعة في نقد الصفوة كما تحسب الدكتور حسن مكي لغلبة الإيدلوجية على كتاباته. من الجهة الأخرى لم ينظر منصور في أي تاريخ آخر لفئات إجتماعية أو سياسية معافاة الحس سليمة الطوية الوطنية. فقد رأينا قبساً من هذه العافية يطل برأسه في دراما جلسة البرلمان المار ذكرها. وهو تاريخ لغمار الناس والصفوة التي تفرغت لخدمة الكادحين. ولكن منصور لا يحب غمار الناس ولا صفوتهم. فالعامة عنده سقط متاع وسياستهم حشف وسوء كيل. فالتاريخ في منظور منصور حكر للصفوة وإن أساءت والعامة يمتنعون. فتجده يستنكر العنصرية بين المثقفين بحسبانها سقطة أخلاقية لا أساس لها في اقتصادهم كما تمثل لنا في السودنة. ولكنه يعتقد أن العنصرية داء يبتلي الله به عامة الناس. ويلتمس لهم العذر في عنصريتهم لأنهم "ضحايا جهلهم بالملل والنحل"(جنوب السودان في المخيلة العربية: 202). فالعامة موضوع للتاريخ لا فعلاً فيه. ولهذا لم يطلب منصور أدب تاريخ العامة أو أرشيف الصفوة الشعبية لأن جهل العامة لا شفاء منه.
وسنقف في حديثنا القادم على تاريخ العامة الذي أهمله منصور.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.