كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في الساحة السياسية سواء من هيئة علماء السودان أو غيرها يجب عليه أن يرفق مع طلبه (مذكرة تفسيرية) توضح بجلاء ماهية ما يطالب به للمواطن السوداني حتى يكون على بصيرة من أمره، لأن أدعياء تطبيق الشريعة أنفسهم غير متفقين على تعريف جامع مانع للشريعة فيما يلي الحياة العامة التي طابعها في كل زمان ومكان الحركة والتغيير المستمر وفقا لتبدل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ووفقا لاختلاف الفقهاء والمفكرين المسلمين أنفسهم في بلورة المفاهيم والتصورات لكيفية تطبيق أحكام الشريعة في الدولة القطرية الحديثة، وهذا الاختلاف لا يقتصر على أمور شكلية بل يصل إلى قضايا جوهرية، وتأسيسا على ذلك نجد الترابي يجزم بأن ما يطبقه الرئيس عمر البشير ليس بشريعة، فيما نجد كثيرا من السلفيين يكفرون الترابي نفسه ويعتبرونه فاقدا الأهلية للتحدث عن الشريعة، والأخوان المسلمون في مصر فهمهم للشريعة مختلف تماما عن فهم هيئة كبار العلماء في السعودية، وهنا في السودان يختلف فهم هيئة علماء السودان للشريعة عن فهم هيئة شئون الأنصار، وقبل هذا وذاك صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام أنفسهم تعاركوا بالسيوف على شأن الخلافة والحكم لأنه شأن اجتهادي نسبي متحرك لا ثوابت فيه ولا مطلقات كشأن العقائد والعبادات. هناك من يظن – وبعض الظن إثم- أن مطلب العلمانية أو مدنية الدولة سيفقد مشروعيته بعد استقلال الجنوب ومن ثم تخلو الساحة السياسية للمدلّسين الذين هم على استعداد لسفك دماء الناس باسم تطبيق الشريعة في حين أننا إذا توجهنا إليهم بالسؤال المنطقي والمشروع جدا حول ما هية الشريعة لا نجد لديهم سوى التعميمات الفضفاضة والشعارات المطاطية الفارغة من المضمون الوظيفي التطبيقي! إن شأن السياسة والحكم في أي زمان ومكان شأن اختلاف وتعددية وتباين في الآراء وصراع بين المصالح والأجندات، فرفع شعار الإسلام وتطبيق الشريعة لا يغني الشمال عن بلورة منهج واضح المعالم في السياسة والحكم حتى يتمكن من إدارة اختلافاته الفكرية وتنوعه الثقافي سلميا وحتى يتمكن أهله من تحقيق مصالحهم على أسس عادلة وموضوعية،أي أن وحدة وتماسك ونماء وتقدم الشمال أمور مرهونة بالحكم الراشد الذي يتطلب وضع الحدود الفاصلة بين الإسلام كدين وكمكون حضاري وكرافد للعقل والوجدان والثقافة في المجتمع،والإسلام كآيدولوجية سياسية لجماعة أو حزب يسعى لاحتكار السلطة وفرض الوصاية على المجتمع،فالأول يمكن أن يكون محور تماسك وثراء، أما الثاني فيمكن أن يكون سببا للاحتراب والاقتتال، إن الشمال الذي يضج أهله بالشكوى من الفقر والبطالة والأمراض المستوطنة وانهيار الزراعة والصناعة والبيئة والتعليم، وتكبله الديون، لدولة تلتفت بجدية لوظيفتها المحورية أي إدارة مصالح المواطنين وتحسين نوعية معاشهم ، ومثل هذه الدولة لا بد أن يكون من يحكمها منتخب من الشعب ومساءل أمامه، يحاسبه الإعلام الحر والرأي العام ، لا أن يكون من يحكمها محصن من النقد والمساءلة والمحاسبة استنادا إلى الادعاء الأجوف بأنه حامي حمى الشريعة، والشريعة المفترى عليها مختزلة في المطالبة بتطبيق الحدود وملاحقة النساء بالسياط لفرض الزي المحتشم حفاظا على المظهر العام، ومن هنا نتساءل هل هذا برنامج حكم لدولة غارقة في الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ وأيهما أكثر تشويها للمظهر العام في (دولة الشريعة) نساء الخرطوم غير المحتشمات أم نساء دارفور وهن يركضن خلف سيارات الإغاثة طلبا للطعام من الدول(الكافرة)!! إن من أراد استلهام قيم الإسلام وروح الشريعة فعليه أن ينشغل بقضايا (ديوان المراجعة العام) أكثر من انشغاله بقضايا (المظهر العام)! ************ التزام منخفض التكاليف!! رشا عوض النقطة المركزية في الخطاب الذي يوجهه الإسلامويون إلى المرأة هي وجوب الالتزام بالحجاب، ولا يقتصر ذلك على إسلاميي السودان بل هو ظاهرة عامة في خطاب الإسلام السياسي أينما وجد، فعندما يرغب الإسلامويون في تجنيد أية امرأة في صفوفهم يكون الدرس الأول الملقى عليها في الحجاب حتى إن كانت هذه المرأة محجبة!! فهل الحجاب هو كل ما جاء به الإسلام في أمر النساء؟ وهل هذا التضخيم لأمر الحجاب ناتج عن الحرص على العفة والفضيلة كما يدعي الإسلامويون أم أن له أسبابا أخرى؟ بقراءة تجربة الإسلام السياسي في السودان ممثلة في الإنقاذ يتضح أن تضخيم أمر الحجاب والاعتماد عليه في التدليل على المشروعية الدينية والالتزام الإسلامي هو أن الحجاب من المظاهر الشكلية التي ليس للالتزام بها ضريبة سياسية أو اقتصادية إذ أن تدخل الدولة في أزياء النساء وفرض نمط معين من الملابس النسائية على الطالبات والموظفات ليست له تكاليف مادية تذكر، فهو ضرب من ضروب الالتزام الديني منخفض التكاليف بالنسبة للدولة! ولذلك لا بأس من التعبير عن الهوية الإسلامية عبر تغطية رؤوس النساء! ولكن لا مجال إطلاقا للتعبير عن الهوية الإسلامية عبر توفير العلاج المجاني للنساء وعبر رعاية الحوامل والمرضعات، ولا عبر دعم المزارعات والراعيات الفقيرات وتزويدهن بالإرشاد الضروري لإنتاج غذائهن وحمايتهن بالقانون وبالسياسات الاقتصادية من الاستغلال، ولا عبر توفير المساكن الشعبية المجانية أو حتى المنخفضة التكلفة للأرامل والمطلقات وكبيرات السن والمعاقات، ولا عبر محو الأمية وتوفير فرص التدريب الذي يوفر للفقيرات فرصا لكسب الرزق الحلال والابتعاد عن دروب الرذيلة، لم نسمع في خطاب الإسلاميين ربطا بين الإسلام وهذه الرعاية لحقوق المرأة الاقتصادية والاجتماعية ونحن في بلد فقير ومنكوب بالحروب الأهلية التي دفعت ثمنها النساء أضعافا مضاعفة فهل نفهم من ذلك أن مسؤلية النظام الإسلامي تجاه النساء تنتهي بمجرد توجيه الأمر لهن بارتداء الحجاب وما سوى ذلك ليس إلا رجسا من عمل العلمانية؟ إن المشكلة التي ظهرت عبر الممارسة العملية في عهد الإنقاذ هي أن هذا التضخيم لأمر الحجاب والاحتشام في الملبس ليس محكوما برؤية فكرية شاملة لوضعية المرأة ومكانتها الإنسانية وفق تصور إسلامي عميق يعرّف الحشمة كمنظومة سلوكية تهدف إلى الارتقاء بالفكر وبالذوق العام من حالة التمركز حول الجسد التي تحصر المرأة في أنها كائن مثير للغرائز إلى حالة الاحتفاء بالمرأة الإنسان ذات العقل والضمير والموقف والمسئولية الاجتماعية والمرأة المواطنة ذات الحقوق والواجبات والمرأة العاملة ذات الموهبة والكفاءة والإنتاج، فبمتابعة أوضاع النساء في دولة المشروع الحضاري سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وبمتابعة الخطاب الإعلامي والمناهج التعليمية يتضح لنا أن قضية المرأة من أكثر القضايا التي تظهر سطحية هذا المشروع في التعاطي مع القيم الإسلامية واستغراقه في الشكليات. أزمة الإسلام السياسي الإنقاذي هي فشله الذريع في تقديم برامج سياسية واقتصادية وتنموية بديلة عن تلك البرامج الموصوفة في خطابه التعبوي بالعلمانية والانتماء للثقافة الغربية، فعندما قفز أهل الإنقاذ إلى السلطة خضعوا لإملاءات صندوق النقد الدولي في الاقتصاد، وخضعوا لإملاءات أمريكا في مكافحة الإرهاب وطردوا بن لادن الذي يتباكون عليه الآن بدموع التماسيح، وقبلوا بالوجود العسكري الأممي الكثيف بموجب اتفاقية السلام، وقبلوا بمستوى من التدخلات الأجنبية في الشأن الوطني لم تقبل به حكومة في تاريخ السودان المستقل، فلم يتبقى لهم ما يعبروا به عن خصوصيتهم الإسلاموية سوى (ملبس النساء) وهذه قضية هامشية لا تحتاج إلى (ثورة إنقاذ) وبيان رقم 1!! فالنساء المحجبات موجودات في مصر وتركيا وسوريا وحتى في أروبا وأمريكا حيث لا نظام عام ولا شرطة أمن مجتمع، فما دام أهل الإنقاذ فشلوا في الالتزام الإسلامي (مرتفع التكاليف) ممثلا في التصدي للاستكبار الأمريكي حسب خطابهم، فلا معنى للالتزام (منخفض التكاليف)!! rasha awad awad [[email protected]]