في مقدمته المميزة لكتاب "الأخضر والأسود" (1988) عن سياسات القذافي في أفريقيا دعا الأكاديمي ريني لامارشان لإعادة النظر في تحليل ديناميكية دبلوماسة الرجل لأن هناك من ينظر إلى شططه في هذه الجهة ك"مادة من الجنون". فقال الأكاديمي لو اكتفينا بإحالة القذافي إلى أريكة الطبيب النفسي بطل شغل المحلل السياسي بل تورطنا في مذمة كريهة. فأكثر القائلين ب"جنونه" يردون ذلك إلى طبيعة البداوة فيه. فالبدوي عندهم "يعتقد بوجوب أن يكون صليب الرأي وأنه متى تقدم خطوات في سبيل محا أثر خطواته عليه وغير طريقه بغير هوادة حتى يستغفل مطارده". وسيجرنا هذا بالطبع إلى مطابقة البداوة ب"الجنون" وهذه من حزازات أهل المدن ضد سائر أسلوب البدواة الذي هو سمت غالب في الثقافة والتاريخ العربي. ووجدت أن كثيراً منا يرد عنف القذافي المجاني ضد الليبيين المعروض على الفضائيات حالياً إلى جنونه. وهذه إحالة بسيط إلى إريكة الطب النفسي لمرتكب كبيرة في هول ما نراه في ليبيا. وفي هذا تعطيل كبير للتحليل السياسي لمأساة سياسية كأداء. فالثورات العربية الناهضة أرتنا أن القذافي ليس استثناء في الإجرام بحق شعبه. فجاء أسد سوريا وصالح اليمن بما يشيب له الولدان. بل إن من ينتظر مثل البشير في السودان توعد المعارضين بكتيبة استراتيجية (فوق ما عنده من قوي رباها ليوم كريهة معارضة) للدفاع عنه لا تبقي ولا تذر. والجنون كثير، كما يقال في السودان، ولكن شقي الحال (مثل القذافي) من يقع في القيد. التمس لامارشان من أهل الفكر أن يحسنوا الحديث عن ليبيا بعد أن غابت مغازي سياسة القذافي طويلاً عن تحليلهم . فأكتفوا بالأسلوب دون الزبدة وبالتكتيك دون الإستراتيجية وانصرفوا عن تحديد المصلحة الليبية من تلك السياسية التى لا تعدو أن تكون محض إيدلوجية في نظرهم. ومن أهم ما قاله إن هناك منطقاً لعنف القذافي الذي يجد أرضيته في العنفوان الفظ الإستثنائي لعلاقة ليبيا بالغرب. ونسب إلى أبحاث مستجدة فضل تعريفنا بالتعقيد الذي اكتنف تحولها من مستعمرة تركية إلى إيطالية. فليبيا صارت مستعمرة إيطالية بكلفة غالية. فالاستعمار أفرغها من نحو نصف سكانها بالموت والهجرة ما بين 1911 و1943. وهو ما لا مثيل له في بقية البلدان العربية. وقال إن الغرب يستهين بالإهانات والضعة التي يستشعرها الليبيون من تعاطيهم الغرب. وخلص لامارشان إلى أننا سنضع ظاهرة القذافي في إطار أوسع وأوثق متى رفعناه من اضجاعته من على أريكة علم النفس واستصحبنا التاريخ الليبي في التحليل. ومن التزامن الحسن أن يصدر في أيام "لوثة" القذافي هذه كتاب عن تاريخ ليبيا تحت الاستعمار الإيطالي عنوانه "محمد فكيني ونضاله لتحرير ليبيا" للمؤرخ الإيطالي أنجيلو دل بوكا. وصدر الكتاب مترجماً في الإنجليزية عن دار بلقريف ماكميلان في يناير الماضي. وهو ثمرة عرض تقدم به المحامي أنور فكيني للمؤرخ دل بوكا، المختص بتاريخ ليبيا تحت الاستعمار الإيطالي، ليكتب جهاد جده الحاج محمد خليفة فكيني، زعيم شعب الرجبان بالجبل الغربي ، ضد الاستعمار الطلياني منذ 1921 حتى هزيمة المجاهدين في 1930. ووفر حفيد الحاج فكيني للمؤرخ مذكرات بدأ جده في كتابتها بعد هجرته إلى تونس بعد هزيمة المجاهدين حتى مات بها في 1950. وحرص الحاج على الفراغ منها حتى أنه أملاها على معاونيه بعد فقده لنعمة البصر. كما وفر فكيني الحفيد للمؤرخ 335 رسالة تبادلها الجد مع أهل الشأن. واستكمل المؤرخ سيرة فكيني من مذكرات وأشعار ابنه على نور الدين الذي صار في ما بعد سفيراً لدولة السنوسي في تونس. واستصفى بوكا في نصوص فكيني أنها فتح تاريخي لأنها تدون للاحتلال الإيطالي على لسان ضحاياه. فهي، في قوله، "لا توفر لنا صورة دقيقة مكتوبة بعناية لشعب فقير شرس مستطيع اجتراح آيات البطولة والتطلع لآنبل الغايات فحسب بل تكشف عن ما تعاوره من ضعف بسبب تباين الأصول الإثنية والعقدية وصداماتها التي لا تنتهي وبغضائها القديمة. وهذه ميزة في ما جاء به الكتاب من تاريخ . فلم يأت بالتاريخ كسجل بارد للعنف الغربي المهين الليبيون فيه مجرد ضحايا. خلافاً لذلك انعقد هذا التاريخ حول رواية الحاج فكيني متخذاً صورة درامية ترى به نصال ذلك الضيم الغربي تتكسر على جسد حر نبيل. ومصداق ذلك في بيت شعر لابنه علي نور الدين قاله في الرد على استفزاز حرس الحدود الجزائري الذي هزيء من إستدبارهم بلدهم. قال: لا يهجر وطنه إلا من أبى الضيم والمهانة. خضعت ليبيا للحكم التركي منذ 1551 حتى غزو الطليان لها في 1911. وخضعت للطليان حتى أٌخرجوا منها بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية فنالت ليبيا استقلالها في 1951 وتولاها الملك السنوسي. ولم تكن ليبيا بولاياتها الثلاث، طرابلس ووبنغازي وفزان، مستعمرة عادية. فنعمت تحت الأتراك بالتطورات الدستورية العثمانية حتى صار لها 8 نواب في برلمان القسطنطينية. وخلص المؤرخ إلى أنه، والحال كذلك، فإن مزاعم إيطاليا بأنها غزت ليبيا لتدرج بها مدرج التحضر باطلة. ومع أن الإيطاليين غزوا ليبيا في 1911 إلا أنهم لم يستعمروها بالمعنى االدقيق للكلمة إلا في 1922 حين خضعت إيطاليا نفسها لموسليني والفاشية. وخلال الخمس عشر عاماً قبل صعود نجم موسليني كان الطليان في حرج عما سيفعلونه بليبيا. فإن قسوا على الليبين (وقد افحشوا) عادوا إلى الملاطفة والتفاوض. فالحكومة الديمقراطية في إيطاليا لم ترد أن تمضي إلى نهاية الشوط الاستعماري كما أن مقاومة الليبين حصرت الطليان غالباً عند شط البحر الأبيض المتوسط. وكان محور تلك المفاوضات إصرار الليبين على قيام جمهوريتهم الطرابلسية الحرة. وتمسكت إيطاليا بسيادتها على ليبيا ووصفت الجمهورية الطرابلسية بأنها "جماعة متمردة". ولم تلق بالاً للرئيس الأمريكي ودرو ويلسون الذي نصحها بمنح لبيبا حق تقرير المصير. ولتمكين حكمها عبأت إيطاليا جيشاً من الرجال والعتاد وصفه أحد قادته بأن مثله مما لا عين رأت في طرابلس ولا أذن سمعت. ولم ينفعها ذلك ولم تستول حتى على باب العزيزية هدفها الأول. وكان سبب التراخي هو تردد إيطاليا من حرب لا تذر مع الليبيين حتى أنها وجهت فريقها في ليبيا بصريح العبارة أن يتواثق إلى حل سلمي مع الجمهورية الطرابلسية. ولما بدأت المفاوضات كان رأي الليبيين ان يكون على رأس طرابلس أمير منهم في ظل حماية إيطالية. وحضر عبد الرحمن عزام، الوطني المصري الذي صار أول أمين للجامعة العربية، المداولات نصيراً للمجاهدين وتبني خطة استقلال طرابلس بغير شروط. ولم يقبل الطليان بأي من ذلك وتمسكوا بما وعدوا به منذ حلولهم في 1911 ولم يوفوا به وهو أن يتمتع الليبيون بالحقوق المدنية. وانتهت المساومة ب "اللائحة الليبية"، في يونيو 1919 . وبها لم يعد الليبيون "رعية" بل صاروا مواطنين مسلمين إيطاليين وإن على خلاف من مواطنة الإيطالي الأصل. وكفلت اللائحة لهم برلماناً من ممثلين منتخبين وتساوت العربية مع الإيطالية كلغة في الدولة. وأمنت اللائحة على حرية الصحافة. وظل ديدن إيطاليا النكث مع ذلك بعهد اللائحة. وراوحت خلال السنوات بين 1918 حتى صعود الفاشية في 1922 بين مقاومة الليبيين المطالبين باللائحة وبين مفاوضات تنعقد وتتفض بغير فائدة. ووقع استعمار ليبيا حقاً بصعود الفاشية للحكم وتصفية المعارضة التي كانت تشفع لليبيا. وزارها موسليني في 11 ابريل 1926 ودمج ولايات ليبيا تحت حاكم واحد في 1928, وأعرض الطليان منذها عن التفاوض بالكلية والتزموا بكسر ظهر الجهاد بلا شفقة لتخلص ليبيا لهم. وأرضى ذلك غرور إيطاليا الشوفيني وهي التي ما زالت آنذاك مكتوية بعار هزيمتها في عدوة عام 1896 على يد منليك أمبراطور الحبشة. وأوهمت نفسها بأنها باستعمار ليبيا إنما تستعيد مستعمرة للدولة الرومانية القديمة حتى أنه لما عثر أحدهم على قطعة نقود رومانية أثرية بعث بها إلى موسليني يزف له قديم جديدهم الإمبريالي. واشتد الفتك بالمجاهدين والأهالي في ظل الفاشية. ويجد قاريء الكتاب تطابقاً للوحشية الاستعمارية ووحشية العقيد القذافي. فاشتركا في الغارة بالطيران والرجم بالقنابل من البر والبحر. فحتى قبل صعود الفاشية صب الطليان في 1916 جام نارهم على الثوار. فلم يكد المجاهدون يستولون على الزورة حتى أضطروا للتقهقر تحت وابل قصف الطائرات الإيطالية في الجو وبوراجهم من البحر. واتبع الطليان سياسة الأرض المحروقة في 1917 حين حصرهم المجاهدون في طرابلس والخمس والزورة. فأمطرت الطائرات 1270 كيلوغرام من سائل حارق و3600 كيلوغرام من مواد عالية التفجير على حقول الحنطة. من الجهة الأخرى فتكت المجاعة بالليبيين من ضحايا سياسة الأرض المحروقة الإنتقامية. فكتب قائد منطقة الزورة الطلياني أنه كان "العجائز رجالاً ونساء والأطفال ممن شردهم الجوع يأتون من داخل ليبيا لينفقوا عند السلك الشائك المحيط بالمدينة" وزاد القائد بأنهم لم يكن بوسعهم فتح الباب لهم لأن الهدف تجويع سكان الداخل لنضطر المجاهدين للتسليم. وجاءت الفاشية بعنف أرادت به فرض استعمارها بغير هوادة. ففي غزوة ما قتل الطليان 6000 مجاهد. وفي الزلتان قال طلياني إنه "هرب أكثر من ألفي عربي مع سعيتهم تحت وطأة قذائف سلاحنا الجوي". ولم يمنع هذا الحاج فكيني أحياناً من أن يجنح للسلم متى بدأت من الطليان بادرة حتى بعد أن هاجر مثخن الجراح إلى فزان في أهله في 1924. فأرسل للحاكم بادوقيلو بأن يثوب إلى رشده ويعود للائحة الطرابلسية. وقال المؤلف إن فكيني ما درى أنه يخاطب سفاحاً سيطرد 1000 من بنغازي وينشيء 13 معسكراً كريهاً سيموت فيها 40 ألف ليبي وسيشنق عمر المختار. وعاد فلول الثوار المرهقون في 1929 تجتمع للمقاومة. وانزعج الطليان من ذلك وبلّغوا موسليني الذي أجاز خطتهم لحرب "ترهيب" كبرى واقتطع لها المال من الدولة. واستخدم االطليان الغازات السامة من طيرانهم بنتائج مروعة. وقال أحدهم في مفعول هذا السم إنه ما تظهر طائراتهم في الأفق حتى يتفرق الناس ويتلاشوا في المكان. وحتى حين تقهقر المجاهدون في 1930 إلى الحدود مع الجزائر قانعين من الحرب لم يرض ذلك الطليان لرغبتهم في استئصال شأفتهم. فلاحقوهم بالطائرات ترمي حممها على نحو 25 ألف لاجيء من من مجاهدين وأسر بسعيتهم. وسلموا للفرنسيين عند الحدود. لو جاز حتى وصف ما يقترفه القذافي بحق الليبين بالجنون فهو مثل جنون هاملت ( في رواية شكسبير المعروفة) "فيه تدبير". وصار التدبير من وراء جنون عنف دولة وطغاة المستعمرات السابقة هدفاً للباحثين بعد أن تفاقم وساء صيته بالتصفيات العرقية والسياسية وغيرها في رواندا والكنغو ويوغندا وساحل العاج والسودان وغيرها كثير. ووجدت تحليل باسل ديفدسون، مؤرخ أفريقيا الإنجليزي، للنسق الكامن وراء جنون دولة ما بعد الاستعمار سائغاً. فقال إن قادة هذه الدولة أداروا ظهرهم لنظم السياسة والحكم في ثقافتهم التقليدية لاعتقادهم أنها الأصل في تأخرهم. وطلبوا الحكم الحديث المستنير في نظم الغرب. ولكنهم لم يروا من الغرب غير الدولة الاستعمارية التي وطأتهم بمنسمها للعقود الست أو السبع من القرن العشرين. فما أشكل على هذه الصفوات أمر من شعبها حتى تلبسها عنف دولة الاستعمار واستنفرت آلتها وأهلكت الناس. وقريب من هذا قول الدكتور حسن الترابي من إن الصفوة المحدثة في دار المسلمين، متى تنصلت عن الإسلام، لم يعد هناك ما يعصمها من أذى أهلها. فالاشتراكية والليبرالية التي يتمشدقون بها كلها عبارات لا صدى نفسياً لها في ثفافة أهلهم. وعليه فهذا الصفوة أجنبية بمعنى من المعاني. فقد حملت مثلها مثل المستعمرين مهمة تمدين شعبها بالقوة إن وجب. فالقذافي، الثائر من الباديةكما يقول، "استحون" شعبه بوصفهم ب "الجرذان". ولا يقدم على نفي الخصم عن الآدمية إلا من استبدت به مهمته "الحضارية" القومية العربية وأراد تجريع غصصها للناس وإلا الموت الزؤوام. ووفي مواجهة "جنون" القذافي في تاريخيته الموصوفة يخرج علينا الثوار الليييون هذه الأيام ب"جنونهم" العاصف في حب الوطن وفدائيتهم التي لا تلوي على شيء سوى سؤدد ليبيا. وما تغير شيء من ما واجهه الثوار لأجل ليبيا تحت الطليان أو القذافي. فكأن ثائر اليوم يلقى الأمرين مما لقي منه الحاج فكيني الذي وصف الطليان كغزاة جاءوا من البحر باسلحة تجتر الموت بقطع أسطولهم الحربي التي سحقت القرى بمدافعها الجبارة، وطائراتهم التي تنفث الغازات السامة. واستخدموا أوسخ اسلحتهم وهو الفساد والرشوة فخربت ليبيا. ولو صح "جنون" القذافي فهو ليس أصيلاً فيه كما رأينا. فهو في قول مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح "موسم الهجرة للشمال، منتج من منتجات صناعة العنف الأوربي الإمبريالي الذي لفح الغرب من أكثر من ألف سنة مذ سادوا العالم. فهو قطرة من السم الزعاف الذي حقن به الغرب شرايين التاريخ. [email protected]