[email protected] في تحليل ما يسمى (ثورة 1964م) أو اصطلاحاً (أكتوبر الأخضر) والتي انتهت باستقالة الفريق إبراهيم عبود (باشا)، وليس قتله أو حتى محاكمته، عندها انتهى حكم (عسكر) 17 نوفمبر 1958 في الحادي والعشرين من أكتوبر 1964م، والذي جرى حينها أن تدافع مثقفو تلك الحقبة ولنسميهم (عاطلو) الاتصال بالجماهير، وغياب صف الشعب بامتياز، بتعميدها (ثورة شعبية) أنزلت عن كاهلها عسف 6 سنوات من حكومة عبود، وهي الحكومة العسكرية الأولى التي تولت حكم البلاد وللمفارقة أن (رجال الجيش) لم يستولوا على السلطة تحت بند (إمارة الغلبة) في فقهنا الإسلامي بل إنهم اضطروا لذلك تحت ضغط وإلحاح (البيه) عبد الله خليل، بأن يستلموا الحكم (عشان الولاد دول بدو يلعبو من ورانا وناصر "جمال عبد الناصر" بيساندهم!)، وجاء ضباط الجيش الأكثر انضباطاً من سياسيو هذا البلد، لينقذوا الشعب بدافع فتوى إمام الحكومة (البيه) والذي كان رئيس الوزراء، وذلك لأن الوضع صار لا يحتمل، ماذا حدث حينها؟ اضطر الجيش إلى إحكام سيطرته تنفيذاً لوصايا (البيه) خليل، وليس تجبراً أو ظلماً منهم، بل بارك (السيدين) عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار، والسيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية، تولي الجيش زمام السلطة، ذلك لأن عبود ليس كله سوء! فالرجل عمد بروح الأبوة إلى التعامل مع قضايا الوطن من منطلق المسئولية الاجتماعية، فعمد إلى زيادة عدد المدارس بمستوياتها المختلفة ، كما شجع التعليم الأهلي، واهتمت حكومته بالمكتبة المدرسية، وفي المجال الزراعي بدأ العمل في فترة رئاسته لإعداد مليون فدان للزراعة المروّية، وهو ما صار يعرف الآن بمشروع المناقل، كما شهد عهده العمل في سّدي الرصيرص وخشم القربة، والرجل عمر الأرض مضاعفاً مساحتها المزروعة حتى زادت عن مليوني فدان. إبراهيم عبود ولد ببلدة (محمد قول) ولاية البحر الأحمر في 5/10/1899 م، ونال تعليمه بسواكن ثم التحق بقسم المهندسين بكلية (غردون)، في العام 1914م، ليتخرج في 1917م منها منتسباً إلى الكلية الحربية برتبة ملازم ثان في 1/7/1918م، وتدرج في سلم العسكرية إلى رتبة لواء وذلك في 15/8/1954م ثم الي رتبة الفريق في 6/1/1957م، وعمل كضابط مهندس بقسم الاشغال العسكرية المصرى وظل به حتي 17/1/1925م عندما تم تكوين قوة دفاع السودان ثم نقل لسلاح الحملة الميكانيكية التابع لسلاح التعيينات والنقل والذي سمي فيما بعد سلاح الخدمة، كما عمل الفريق عبود لفترة بسلاح الفرقة الشرقية، ومنه إلى سلاح الهجانة في 11/4/1948، وفي 9/3/1949م صار قائداً لسلاح الخدمة كأول سوداني يتقلد هذا المنصب، هذا الرجل يحمل أوسمة عديدة ولكنها لم تشفع له عند جيل الثورة الفرنسية، ولي أن أقول إن جيل الانفعال بالثورة الفرنسية لم يكن يفهم منها الكثير، بل جند حماسه الثوري تحت طغيان الشباب لصالح توظيف روح في جسد مختلف. السيد الإمام الصادق المهدي (ديسمبر 1935)، والدكتور حسن الترابي (فبراير 1932م)، ومن جايلهم كانوا يحملون رؤية متخلفة لطبيعة النظام الليبرالي، ذلك لأن الليبرالية في الدولة تعرف بأنها نظرية تعاقدية، فالدولة تنشأ على عقد اجتماعي يحقق اتفاق وإجماع الأفراد، ومع النقد الذي وجهه هيجل (جورج ويلهلم فريدريك هيغل – ت: 1831م) للنظرية الليبرالية القائل بأن الليبرالية تخلط بين مجالين متمايزين هما (مجال الدولة والمجتمع المدني)،أي أنها تأخذ نموذج (العقد) من مجال (المجتمع المدني) والذي هو في عرف سودان الستيينات لم يتشكل بعد!، لتطبقه على (الدولة) والتي كانت في ذلك الوقت عند عتبات التأسيس، ويبين هيجل ذلك في كتابه (أصول فلسفة الحق - ترجمة إمام عبد الفتاح إمام – مكتبة مدبولي 1996م) بالقول: "إذا خلطنا بين الدولة والمجتمع المدني، وجعلنا الغاية الخاصة من الدولة الأمن وحماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية- لكانت مصلحة الأفراد بما هم كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها، وينتج عن ذلك أن تكون عضوية الدولة مسألة اختيارية. غير أن علاقة الدولة بالفرد شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف.. إن الفرد لن تكون له موضوعية ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضوا من أعضائها. إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية". هؤلاء الشباب حينها (د. الترابي – السيد الإمام الصادق)، تشربوا مفاهيم الليبرالية في نسختها المتأخرة في النظرية السياسية الغربية، ذلك أنهم خلطوا بين (الإرادة) الشخصية التي يملكون والتي تحصلوا عليها بسبب معارفهم خارج الحدود، وحاولوا تطبيقها في مجتمع متخلف لا يعرفون عنه الكثير، وهذه ما يسميها البعض ب(غربة المثقف)، وبين الإرادة الجماعية للشعب السوداني، فقالوا بضرورة إقرار دستور ليبرالي لصالح بلاد نسبة أميتها تفوق ال70% في تلك السنوات، وذلك يعبر بصدق عن ضعف آلياتهم الفكرية في استيعاب النظريات السياسية الغربية، وصحيح أن لكل منهم مشروعه الخاص، فالدكتور حسن الترابي قبل انضمامه لكتلة الإخوان جاء منفعلاً بأدبيات النهضة الأوربية ولكن عبر مصادرها العربية الإسلامية، فليبرالية الإمام محمد عبده (ت: يوليو 1905م) وتلك القائلة بأصل الحرية في النظرية الإسلامية، وكان الترابي أيضاً يحمل رؤيته الخاصة بمشروع جان جاك روسو (ت: 1778م) ورؤيته في علم الاجتماع السياسي، وبالتحديد نظريته حول (General Will) في تحليل الثورة الفرنسية (ابتدأت سنة 1789 وانتهت سنة 1799. عملت حكومات الثورة الفرنسية على إلغاء الملكية المطلقة، والامتيازات الإقطاعية للطبقة الارستقراطية، والنفوذ الديني الكاثوليكي)، والتي ذهب فيها إلى أن الحكومة تقوم على رضاء المواطنين وعلى إرادتهم العامة، وإذا لم يحصل النظام السياسي على رضاء وموافقة هذه الإرادة العامة كان من حق المواطنين الثورة عليه. ولذا كان للدور الكبير الذي قام به د. حسن الترابي أثره في ثورة أكتوبر 1964م، ولكن هيجل يصر على أن ما سماه روسو ب (General Will) أو الإرادة العامة ادى إلى الفوضى والإرهاب، وحجة هيجل في ذلك تعاقب الجمهوريات وانتشار الخوف وسط المواطنين، مع ضعف القادة السياسيين إقرار دستور للبلاد، والسيد الإمام كان يحاول التدحرج خارج عباءة رجل الدين ليعمد نفسه مثقف إصلاحي.! وقد أدت فكرة الإرادة العامة هذه كما فهمتها الثورة الفرنسية إلى الفوضى والإرهاب. فقد تم النظر إلي هذه الإرادة العامة على أنها إرادة المجموع Collective Will، أي جماع إرادات الأفراد في المجتمع. وفي التطبيق العملي تنقلب إرادة المجموع بسهولة إلى أن تكون مرادفة لرأي الجمهور من الغوغاء والدهماء، ولذلك تحولت الثورة إلى الفوضى وانتهت بالإرهاب نتيجة لأنها أعطت مضمونا سياسيا لأهواء الجمهور المتقلبة. وكذلك فعلت ثورة اكتوبر والتي حدت بالثوار الافتراضيين إلى الهتاف لصالح الفريق إبراهيم عبود (ضيعناك وضعنا وراك يا عبود!) فتأمل.. يقول هيجل: "في عملية السعي نحو تحقيق الغايات الأنانية.. (مشاريع المثقفين) يتشكل نظام كامل من الاعتماد المتبادل (وهذا غاب لانفصال المثقف عن مواطنيه)، حيث يتداخل نسيج حياة الفرد وسعادته ووضعه القانوني مع حياة جميع الأفراد الآخرين وسعادتهم وحقوقهم، ولا تكون هذه الحقوق مضمونة إلا داخل هذا النظام المترابط. ويمكن النظر إلى هذا النظام.. على أنه الدولة الخارجية، أي الدولة التي تقوم على أساس الحاجة". وما قامت به حكومة نوفمبر (1958- 1964م) من إصلاحات كان يمكن أن يكون النواة الصلبة لبناء دولة الترابط، فقد قام الفريق إبراهيم عبود ورفاقه بأعمال جليلة ما في ذلك شك، ومن انجازاتهم نشر اللغة والاسلام البنيات الاساسية التي وفروها للجنوب و(طرد المبشرين)، والأخيرة دخل منها مثقفو الليبرالية المتخلفة للثورة على نظام عبود، رغم أنهم لو صبروا لعرفوا أنه وحكومته قدموا بطرد المبشرين خدمات جليلة ليس للثقافة الإسلامية ولكن للهوية الجنوبية المختطفة، والتي من تجلياتها الآن بروز ما اسميناه سابقاً بعقلية (الباقانيزم – أي الوثنية السياسية رافضة التوحد..). هذه النقطة لها من الأهمية إبراز مكان آخر لها، ولكن يمكن مراجعة مقالنا بعنوان (الباقانيزم) عبر إرشيف الأحداث.. هيجل ينتقد نظرية الليبرالية والثورة الفرنسية: "لا ترضى الليبرالية (ليبرالية الغياب عند قادة الستيينيات ويمثلهم الترابي والمهدي)... بوجود تنظيم سياسي تظهر فيه دوائر متعددة من الحياة المدنية (الحياة المدنية الغائبة عندما كان رجال السياسة في القرن الماضي يروجون للنظرية الليبرالية في مجتمع متخلف بل وطائفي عشائري..) ذات وظيفة محددة لكل منها، ولا بذلك التأثير على الشعب الذي يمارس من قبل الأعضاء المثقفين في المجتمع، والثقة التي يجب أن تكون تجاههم (وهذه مفقودة حتى الآن!). وفي مقابل كل ذلك ترفع الليبرالية المبدأ الذري Atomistic الذي يصر على الفاعلية السياسية للإرادات الفردية (في مجتمع لم يتشكل بعد، دع عنك إدعاء وعي فردي محرك ومنتج)، ذاهبة إلى أن كل حكومة يجب أن تنبع من سلطة هؤلاء الأفراد وتحصل على موافقتهم العلنية. إن الجماعة التي تناصر هذا الجانب الشكلي من الحرية - و هذا التجريد - لا تسمح لأي تنظيم سياسي أن يؤسس على دعائم ثابتة". لقد انفلت عقال المثقف السياسي (الترابي – المهدي) في تلك الفترة ما دعى السيد الإمام إلى القول (لا قداسة مع السياسة) ليأتي اليوم ويمثل أكبر انتكاسة في جسد الثقافة السياسية في السودان ، وكذلك د. الترابي الذي شكك في جدوى بناء الدولة على الولاء العام وبموجب الإرادة الكلية، لينشأ فكراً سياسياً يعاني تصدعات التخبط بين الدين والسياسة، لقد ادعى البعض قيادة السرب السوداني وهم في ذلك مزيفون، بل ويتحملون وزر فشل بناء الدولة، ذلك بسبب أنهم مثقفون يخلطون بين الإرادة والإستراتيجية.. .. شكراً (هيجل).. نواصل المقال القادم..