سيد الأتيام يحقق انتصارًا تاريخيًا على النجم الساحلي التونسي في افتتاح مشاركته بالبطولة الكونفدرالية    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    كامل إدريس يدين بشدة المجزرة البشعة التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في مدينة الفاشر    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالفيديو.. الفنان طه سليمان يفاجئ جمهوره بإطلاق أغنية المهرجانات المصرية "السوع"    إلى متى يستمر هذا الوضع (الشاذ)..؟!    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    قرارات وزارة الإعلام هوشة وستزول..!    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    قرار مثير في السودان    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مخاض التاسع من يوليو! .. بقلم: كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 12 - 07 - 2011

.. فيا أيُّهَا الذَّاهِبُونَ، خَبَباً، فِي طَريق الذِّهَابْ/ أيُّهَا المُوغِلُونَ فِي الرَّحِيلِ المُرِّ والغَيَابْ/ لَرُبَّمَا لَمْ تعُدْ فِي دِنَانِ صَبْرِكُمْ قَطْرَةٌ/ لَرُبَّمَا لَمْ يَعُدْ ثَمَّةَ مَا يُغْوِي فِي سِلالِنَا العِجَافِ بِالإِيَابْ/ لَكِنَّنَا نُقْسِمُ بِاللهِ العَظِيْمِ، "نَلْحَسُ سِنَّةَ القَلَمِ، نَلْعَقُ ذَرَّةَ التُّرَابْ"/ سَوْفَ تَبْقَى فُصُودُكُمْ مَنْقُوشَةً، أَبَدَ الدَّهْرِ، عَلَى جِبَاهِنَا/ وأَهَازِيجُكُمْ نَدِيَّةً، عَلَى الدَّوَامِ، فِي شِفَاهِنَا/ فَذَرُونَا ومَا حَفَرَتْ أَيَادِينا/ ذَرُونَا ومَا حَفَرَتْ أَيَادِينا/ ذَرُونَا ومَا حَفَرَتْ .. ذَرُونَا/ واعْذُرُونَا، واذْكُرُونَا، (مِثْلَ ذِكْرَانَا لَكُمْ)/ مِثْلَ ذِكْرَانَا لَكُمْ .. يَا أَيُّهَا الأَحْبَابْ!
(1)
عشيَّة التاسع من يوليو 2011م، يوم الإعلان، رسميَّاً، عن قيام دولة جنوب السُّودان المنفصلة، قفزت إلى الذهن، فجأة، ذكرى صديقنا شاعر الدينكا الفذ المرحوم سر أناى كيلويلجانق، وهمسه لنا، مبتسماً، تحت ظلال العشيَّات الزرق، بعبارته شديدة البشرى، معدية التفاؤل، على أيَّام انتفاضة أبريل 1985م الباسلة التي قبرت دكتاتوريَّة النميري، يقول: "الآلام التى ظلت تقاسيها أمَّتنا ليست، قطعاً، آلام المرض، بل هي، يقيناً، آلام الطلق"!
وكان السيد نيكولاس كاي، سفير بريطانيا الحالي إلى الخرطوم، قد كتب، بتاريخ 3/7/2011م، قبل أيَّام من 9 يوليو، معلقاً، في مدوَّنته الخاصَّة، على اتفاقيَّات أديس التي لم يكد حبرها يجفُّ، مؤخَّراً، بين المؤتمر الوطني والحركة الشَّعبيَّة، حتى أجهضها رئيس الجُّمهوريَّة: "إن (آلام المخاض Labour pains) تسبق أيَّ ميلاد، بما في ذلك ميلاد أيَّة أمَّة؛ والسُّودان، كأكبر بلد في أفريقيا، ظلَّ يقاسي، موجة تلو موجة، من المعاناة؛ لكنَّ المسألة ليست كلها (ألم)؛ فالسِّياسيُّون القابلات لم يهجروا عملهم؛ وفي أديس أبابا، عمل القادة السِّياسيُّون والعسكريُّون من كلا الجانبين بصبر للوصول لاتفاقيَّات تخفف معاناة شعوبهم. إن من يبدأون القتال يتعين عليهم إنهاؤه، وعلى القادة السِّياسيِّين أن يتحمَّلوا مسؤوليَّاتهم. لقد عمل المجتمع الدولي، بقيادة الرئيس السَّابق مبيكي، بلا كلل، من أجل تحقيق السَّلام؛ لكنَّ الخيارات النهائيَّة تبقى بيد الرَّئيسين البشير وسلفا كير؛ فما سيفعلانه، خلال الأيَّام القليلة القادمة، سيقرِّر ما إن كان بلداهما سيولدان، يوم التاسع من يوليو، من بين التعانف والدَّم المسفوك، أم بروح السَّلام وحسن الجِّوار".
قد يبدو التخاطر، هنا، غريباً، فلكأنَّ أصداء عبارة سر أناي قد تردَّدت، من وراء السِّنين، في مسمعي نيكولاس كاي، وعلى لسانه، لولا أن الأوَّل تدفق بروح الشَّاعر الوطني الذي لم يكن يقينه ليتزعزع في (الوحدة) الرَّاسخة، بينما الآخر يحدوه طيف أمل دبلوماسي مرتبك في إمكانية تعايش الدَّولتين، سلمياً، برغم (الانفصال) .. وشتان ما بين الاثنين!
(2)
ظلت حكومات الخرطوم الوطنيَّة المتعاقبة أسيرة للتلاوين التي وسمت صورة الذات الإثنيَّة المستعربة المسلمة المنتشرة، تاريخيَّاً، وبالأساس، على طول الشَّريط النيلي شمالاً، وامتداداته إلى مثلث الوسط الذهبي (الخرطوم كوستي سنار)، منبثقة، أصلاً، من جذور نوبيَّة استعربت وأسلمت، عبر القرون، ولم يعد لنوبيَّتها تلك معنى محدَّد. هذه التلاوين هي التي بلورت، دائماً، أخطر جوانب الوعي الزائف بهويَّة الذات لدى هذه الجَّماعة ونخبها، وهو الجَّانب المتوطن فى توهُّم العروبة الخالصة في العرق واللسان والثقافة، دونما أدنى استشعار لنبض أيِّ عنصر آخر، زنجي أو نوبي أو بجاوي أو خلافه.
ملامح هذه الصُّورة الملفقة انعكست، عام 1956م، على منهج لجنة التحقيق في أحداث توريت وغيرها عام 1955م، والتي ركزت، كما لاحظ فرانسيس دينق بحق، على ما يفرِّق، وعلى المبالغة في تقدير نتائج عمليَّات الأسلمة والتعريب فى الشَّمال، والفوارق التى ترتبت عليها بين الشَّمال والجَّنوب، حتى لقد أضحت تلك الفوارق مرشداً لعمل أيَّة حكومة مركزيَّة تجاه الجَّنوب، إلى حدِّ التيئيس من الوحدة. ويمكن حصر تلك الفوارق في خمسة على النحو الآتي:
(1) الشَّمال، عرقيَّاً، عربي، والجَّنوب زنجي؛ والشَّمال، دينيَّاً، مسلم، والجَّنوب وثني؛ والشَّمال، لغويَّاً، يتكلم العربيَّة؛ والجَّنوب (يرطن) بأكثر من ثمانين لغة.
(2) الجَّنوبيون يعتبرون الشَّماليين أعداءهم التقليديين.
(3) الاستعمار دفع بتطور الجَّنوبيين، حتى 1947م، على خطوط زنجيَّة، فأعاق أيَّ تقارب بينهم والشَّماليين، مستعيناً بأداة القانون والنشاط التعليمي للإرساليَّات التبشيريَّة.
(4) الشَّمال، لأسباب تاريخيَّة، تطوَّر سريعاً، بينما ظل الجَّنوبيون على تخلفهم، مما أورثهم شعوراً بأنهم ضحايا خداع واستغلال من الشَّماليين.
(5) الجَّنوبيين، لهذه العوامل، يفتقرون للشُّعور بالمواطنة والوطنيَّة مع الشَّماليين (لاحظ الإحالة المعياريَّة المستعلية إثنيَّاً).
واستطراداً، لم ينس التقرير اتهام الشِّيوعيين، ضمنياً، بالضلوع فى أحداث 1955م، فعدل من حيث أراد التجني، إذ أشار لازدياد نشاطهم خلال ديسمبر 1954م في مركز الزاندي والمورو، وبين عمال صناعة القطن ونقاباتهم، ولتوزيعهم منشوراتهم، وقتها، بلغة الزاندي!
باختصار كان التقرير نعياً كاملاً لكلِّ مقوِّمات (الوحدة)، ونتاجاً طبيعيَّاً للذهنيَّة النخبويَّة المستعلية بمركزويّة (الذات) في علاقتها ب (الآخر)، والتي طفحت آثارها المأساويَّة بعد الاستقلال، حيث شكلت أيديولوجيَّة السِّياسة الوطنيَّة تجاه الجَّنوب، باستثناء شواهد قليلة، كبيان 9 يونيو 1969م، وجهود وزارة شئون الجنوب تحت قيادة جوزيف قرنق (1969م 1971م)، وما انعكس من تلك الجهود في اتفاقيَّة أديس أبابا 1972م.
(3)
إذن، وبفضل ذلك (المرشد)، أصبحت خطة (الأسلمة والتعريب) المتلازمين في المنظور الإجرائي البحت، ضربة لازب، والقائمين على رموزيَّات القوَّة المادِّيَّة، والتفوُّق العرقي، وإهدار حق التميُّز الثقافي، هي البديل (الوطني الحر المستقل) للسِّياسات الاستعماريَّة تجاه الجَّنوب حتى لم تترك له سبيلاً سوى (الانفصال) بموجب استفتاء يناير 2011م! وقد فاقم من ذلك توهُّم الجَّماعة المستعربة المسلمة السُّودانيَّة، ونخبها الحاكمة، أن عليها الوفاء، في تخوم العالمين العربي والإسلامي، بمهمَّة (مقدَّسة) ألقت بها على عاتقها الجَّماعة العربيَّة المسلمة الكبرى في مركز القلب من هذين العالمين لتجسير الهوَّة التي تعيق انسياب (العروبة) و(الاسلام) نحو عالم الأفارقة الوثنيين، مما ولد لدى غالب النخب الشَّماليَّة، وبالأخص النخبة الإسلامويَّة التي لطالما تسيَّدت اقتصاديَّاً، وسياسيَّاً، واجتماعيَّاً، منذ 1989م، ذهنيَّة (رساليَّة) تجاه الجَّنوب قائمة على الاخضاع والاستتباع subordination، مثلما ولد لدى قطاعات عريضة من النخب الجَّنوبية ردود فعل شديدة العنف والحدَّة تجاه كلِّ ما هو عربي وإسلامي، مِمَّا يتمظهر، غالباً، في الميل إلى تضخيم الانتماء للرموزيَّات الثقافيَّة والعرقيَّة (الأفريقانيَّة)، وللدِّيانة المسيحيَّة، وللغة (الإنجليزيَّة)، رغم أنف الحقيقة القائلة بأن 60% من العرب موجودون، أصلاً، في (أفريقيا)، ورغم أنف (عربي جوبا) الذى لا تعرف التكوينات القوميَّة الجَّنوبيَّة نفسها لغة تواصل lingua franca في ما بينها غيره.
هتان النظرتان المتصادمتان اللتان تمتحان من الوهم، بأكثر من حقائق الواقع، حبستا كلا (العروبة) و(الأفريقانيَّة)، على ركاكة المقابلة الاصطلاحيَّة، فى أسر مفاهيم عرقيَّة وثقافيَّة بالغة الضِّيق دعمت مناخ العدائيَّات المستمرِّ بلا طائل، وعرقلت أيَّ مشروع معقول لوحدة مرموقة. فلسنا البلد الوحيد الذي تمايزت فيه الأعراق؛ على أنه ما من بلد مثلنا زعم فيه البعض انتسابهم إلى عرق (خالص) يستعلون به على بقية الأعراق، فدفعوا الآخرين، بالمقابل، إلى مجابهة هذا الاستعلاء باستعلاء مساو له في المقدار، ومضادٍّ له في الاتجاه! ولسنا البلد الوحيد الذي قام على تعدُّد وتنوُّع تحتاج مكوناته إلى حوار تاريخي هادئ، ومثاقفة تلقائيَّة رائقة؛ غير أنه ما من بلد مثلنا كابرت فيه جماعة بتفوُّقها الثقافي والدِّيني واللغوي، طالبة تنازل الآخرين لها عمَّا بأيديهم، وتسليمهم بامتيازها المطلق، فلم تستحقَّ منهم سوى الكراهية والدَّم! ولسنا البلد الوحيد الذى أدَّى استلحاقه القسري، منذ مرحلة ما قبل الرَّأسماليَّة، بفلك السُّوق العالمي، إلى تفاوت قسمة الثروة، وحظوظ التنمية والتطوُّر، بين مختلف أقاليمه؛ سوى أنه ما من بلد مثلنا انطمست بصائر نخبه الحاكمة عن رؤية المخاطر التى يمكن أن تحيق بسلطتها نفسها، في ما لو تحوَّلت جملة هذه المظالم إلى (غبينة) تاريخيَّة!
(4)
بالنتيجة اختار الجَّنوبيون (الانفصال)، وأعلنوا، يوم التاسع من يوليو الجاري، قيام دولتهم (المستقلة). لكن من تمام الغفلة اعتبار نموذج الجَّنوب استثناء لا يُقاس عليه، وغير قابل للتكرار، بل يلزم الإقرار الموضوعي بأن الجَّنوب، في الحقيقة، ليس سوى النموذج الوحيد المرشَّح لأن يحذو حذوه، في نهاية المطاف، كلُّ تكوين قومي تبلغ روحه الحلقوم؛ ولعل حالة دارفور وأبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، دع الشَّرق وشمال (السُّدود) الأقصى، هي أول ما يقفز إلى الأذهان كإرهاص شؤم بهذا المآل!
مع ذلك ليس من قبيل المعجزات أن يفضي بنا الانتباه لحقائق تساكننا السابق، ودلالات صراعاتنا التاريخيَّة نفسها، فضلاً عن حركة التدافع، وطنيَّاً وإقليميَّاً وعالميَّاً، إلى مستقبل تستعيد فيه بلادنا وحدتها، لا على ذات خط الانحدار الذي أفضى بنا إلى (الانفصال)، بل على مداميك وطنيَّة جديدة تنعم فوقها بدرجة معقولة من توازن التطوُّر، وتكافؤ الأعراق، وتعايش الأديان، والثقافات، والتكوينات القوميَّة المختلفة. ولا شك في أننا سنكون أكثر قرباً من هذا المستقبل، بقدر ما سيراكم تاريخنا من معطيات تتيح لكلِّ مفردة في منظومة تنوعنا أن تعي ذاتها في نسق علاقاتها بغيرها، مما سيجعل من التوازن، والتكافؤ، والتعايش، ليس، فقط، حالة بديلة عن حالة الاستعلاء والاحتراب التي أسلمتنا إلى ما نحن فيه من بؤس وطني، بل ضرورة لا غنى عنها لوجودنا نفسه.
هذا هو التحدِّي الشَّاخص في أفق تطوُّرنا، والذي يفترض العكوف على تدبُّر مجابهته، بإحسان تدبُّر جملة الجَّرائر التي أودت بوحدة الوطن. فالمستقبل المأمول ليس محض طور من أطوار الارتقاء التلقائي، يقع، حتماً، سواء عملنا أو لم نعمل لأجله، وإنما يحتاج إلى حركة دفع قصديَّة جادَّة بثلاث اتجاهات في آن واحد:
الاتجاه الأوَّل: الإنطلاق من الإقرار بواقع التنوُّع إلى تصميم برامج للتنمية المتوازنة بين مكوناته، وإعطاء الأولويَّة لإعادة استثمار الموارد القوميَّة، كالبترول، حيثما وجد، في القطاعين الزراعي والصِّناعي، وكلِّ مجالات التنمية، بدلاً من الاقتصار على (قسمة العائد) البائسة، فضلاً عن تخصيص ما يكفي من الموارد لردم فجوة (التهميش) التى تعانى منها مناطق شاسعة من الوطن، وذلك بتفعيل (التمييز الإيجابي positive discrimination)، أي المعاملة التفضيليَّة للمناطق التي تشكل منابع الثروات القوميَّة، فيعاد استثمار قدر معلوم من عائدات هذه الثروات للارتقاء بخدمات الصحَّة والتعليم وغيرها في هذه المناطق، سواء مِمَّا تخصصه الميزانيَّة العامة، أو ما ترصده ميزانيَّة التنمية.
الاتجاه الثاني: ولأن العامل الاقتصادي غير قمين، وحده، بكفالة حلِّ مشاكل التساكن القومي، فلا مناص من التواضع على بناء دولة مدنيَّة ديموقراطيَّة قائمة على التعدُّد، ومعياريَّة المواطنة، والعدالة الاجتماعيَّة، والحرِّيَّات العامَّة، وحقوق الإنسان كافة، كما نصَّت عليها المواثيق الدوليَّة، لتكون حاضنة وطنيَّة لهذه العمليَّات، ليس في مستوى الإطار الدُّستوري والقانوني، فحسب، وإنما بالمراجعة التاريخيَّة المطلوبة بإلحاح لمحدِّدات الهويَّة الوطنيَّة في السِّياسات الثقافيَّة، ومناهج التربية والتعليم، وبرامج الراديو والتلفزيون، وغيرها من أجهزة الإعلام ووسائط الاتصال الجَّماهيريَّة الأخرى ذات الأثر الحاسم في صياغة بنية الوعي الاجتماعي العام، بما يشيع مناخاً صالحاً لازدهار كلِّ المجموعات القوميَّة، بمختلف ثقافاتها، وأديانها، ومعتقداتها، ولغاتها، ويهيئ لانخراطها في مثاقفة ديموقراطيَّة هادئة في ما بينها، "فليس أمَرُّ من صدام الثقافات .. وأدمى"، على قول شهير للمرحوم جمال محمد احمد. إنجاز كهذا يستحيل إتمامه عبر صفقات منفردة بين نخب في (الهامش) و(المركز)، بل لا بد من أوسع مشاركة منظمة للجَّماهير في المستويين، عبر أحزابها، ونقاباتها، واتحاداتها المهنيَّة والنوعيَّة، ومؤسَّساتها المدنيَّة الطوعيَّة، وروابطها الإقليميَّة والجِّهويَّة وغيرها.
الاتجاه الثالث: لا بد، إلى ذلك، من انخراط الجَّماعة المستعربة المسلمة نفسها في حوار داخلي سلمي وحر بين مختلف أقسامها، حول فهومها المتعارضة لدينها الواحد، فى علاقته بالدَّولة والسِّياسة، الأمر الذي لطالما شكل، منذ فجر الحركة الوطنيَّة، بؤرة نزاعات خطرة لم يقتصر أثرها السالب على هذه الأقسام، فحسب، بل امتدَّ ليطال علاقات المستعربين المسلمين، عموماً، بمساكنيهم من أهل الأعراق والأديان والثقافات الأخرى، بما تهدَّد، كما قد رأينا، وما زال يتهدَّد (الوحدة الوطنيَّة).
(5)
هذه المعالجات ليست محض جداول لإجراءات محدَّدة، بل سيرورة تاريخيَّة باحتمالات لانهائيَّة. ولذا من العبث محاولة توصيفها، تفصيلاً، أو تقييدها بمدى محدَّد، أو بترتيبات معيَّنة، أو بحكومة بعينها. وقد تتعرض لانتكاسات، حتى بعد التواضع عليها، حدَّ تكرار تجربة (الانفصال) نفسه. على أن عوامل (التوحيد) الكامنة في تاريخنا الاجتماعي، والتي لا تنكرها العين إلا من رمد، تدفعنا إلى التفاؤل بأن (الوحدة) سوف تشكل خيارنا النهائي. وربما زودتنا بالمزيد من التفاؤل، على هذا الصَّعيد، عبارة سر أناى الشاعريَّة الحكيمة: إن الآلام التى يعانيها وطننا هي، يقيناً، آلام (الطلق)، لا (المرض)!
***
Kamal El Din Elgizouli [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.