بينما كنت أشاهد حفل قيام دولة جنوب السودان كانت تختلج في صدري مشاعر متداخلة كتداخل الملح والسكر في الفم وما يتبعه من طعم غريب. كنت حزينا لأن جزءً عزيزا من الوطن قد انشطر قسرا وأصبح دولة قائمة بذاتها بعد أن فشلت القيادات السياسية في إدارة التنوع وبعد سيول من الدماء وموارد تبددت سدىً. كنت أقول لنفسي كيف يكون شعور الراحل د. جون قرنغ لو كان حيا وهل كان يمكن أن يقع الانفصال حقا ؟ خيرة شباب هذه الأمة - فيهم العلماء من مختلف مجالات العلوم وبصرف النظر عن كونهم من الشمال أو الجنوب – رووا بدمائهم الزكية تراب الوطن وهاهو الجنوب اليوم يصبح دولة بين عشية وضحاها! أنا حزين كذلك على الأسر التي اتخذ غيرهم قرارا ويطلب منهم تنفيذه بمرارة ، فتراهم يلملمون أطرافهم ليتوجهوا صوب الجنوب وتفيض أعينهم من الدمع حزنا أن لا يجدوا لهم موطئ قدم في الوطن الجديد. ولكني بنفس القدر كنت مسرورا أن شعبا استطاع أن ينال حقه "بضراعه" عبر عقود من التعميش ولم يكن ليحصل ذلك لولا أن حفنة من النخب الخرطومية – منذ الاستقلال وخصوصا في عهد الانقاذ – استحوذت على مقاليد السلطة والثروة ولا تسمح بهما لغيرها إلا بما يخدم أجندتها الإقصائية وتمكنها من تعزيز قبضتها. ولكن السؤال هو: ما هو الضمان لبقاء الجزء الآخر من السودان موحدا إذا استمرت نفس السياسة الاقصائية؟ دعونا نتكلم بهدوء – بعد انقشاع الغبار – لنناقش بموضوعية الأسباب الحقيقية وراء قرار الاخوة الجنوبيين. وهل كان هناك بديل لهذا القرار؟ ما لم نضع الاصبع في موضع الألم سنظل نراوح مكاننا وغدا ستنفصل أطراف أخرى من السودان وسيدعمها ما يسمى بالمجتمع الدولي طالما كانت المبررات موضوعية. فكل شعب له الحق في تقرير مصيره إذا قرر ذلك وليس من حق أي جهة إجباره على غير ذلك. والتململ اصبح سيد الموقف اليوم في مناطق ما يسمى بالهامش. لكي نحافظ على ما تبقى من السودان وبعيدا عن المجاملات وطعن الفيل في ظله ، أحسب أن التهميش والاقصاء الثقافي من أهم الأمور التي ينبغي للدولة السودانية التنبه لها. من أمثلة التهميش الثقافي الجرعة العروبية الزائدة والتي غيبت عن قصد العناصر الزنجية داكنة البشرة عن الواجهة لا سيما في الإعلام المرئي. فتلفزيون السودان مثلا لا يمثل السودان على الإطلاق ، إذ لا تظهر فيه إلا وجوه من مناطق بعينها فلا تجد مذيع أو مقدم برامج في وسائل الإعلام الرسمية أو غير الرسمية لأن مسألة عدم ظهور الوجوه ذات الملامح الأفريقية في الإعلام أصبح أمرا عاديا. وقد رأينا مؤخرا – في إطار "علوقة الفزع" لترضية الجنوبيين – ظهور الفتاة الجنوبية أنجلينا لقراءة أخبار الطقس في تلفزيون السودان ثم اختفت بلا رجعة. الصور النمطية السالبة عن لون البشرة والقبح وما إلى ذلك ساهم في نشرها أصحاب النكات التي أطلق لهم العنان لينكتوا في القبائل السودانية وخلق صور نمطية سالبة بإلصاق الغباء أو القبح مثلا بقبائل معينة ، مع أن معايير الجمال والقبح تختلف باختلاف الثقافات وليس من حق شخص أو قبيلة فرض معاييره على الآخرين. وفي خضم الموجبة العاتية من الفضائيات العربية الماجنة تبدلت معايير الجمال فلم نعد نسمع "الأخضر الليموني" والطير والخضاري" وما إلى ذلك. نتيجة لهذه الصور النمطية انتشر في السودان اليوم ظاهرة غاية في الخطورة وهي ظاهرة استخدام المساحيق لتغيير لون البشرة خاصة لدى العنصر النسائي – لأنه العنصر الأكثر تأثرا بالصور النمطية – علما بأن المسألة لا تقف عند تغيير لون البشرة بل يتبع ذلك اهتزاز الثقة بالنفس والشعور بالدونية واللا انتماء. دولة جنوب أفريقيا مثلا وهي من أكثر الدول التي بها فوارق طبقية وعرقية وثقافية في العالم ، لا يسمح فيها القانون بظهور مجموعة اثنية معينة في وسائل الإعلام دون غيرها بل لابد من تمثيل المجموعات الاثنية الأربع – السود والبيض والملونين والآسيويين – حتى في الدعايات المتحركة والثابتة ، سواء كانت خاصة بالإعلان عن مواد استهلاكية أو خدماتية. المواطن هنا لا يشعر بأن هناك مناطق لا ينبغي أن يظهر فيها لأن لونه أو شكله "غير سياحي" ، بل يحس بأنه موجود وله مكانته بصرف النظر عن خلفيته. هذا الاحساس يعزز روح الوطنية في الفرد ويبعث فيه الهمة للعمل من أجل البلد التي ينتمي لها. لكي نحافظ على ما تبقى من السودان ، إذن ، لابد من الاعتراف بأن السودان دولة عربية أفريقية ذات تنوع ثقافي وديني إلى حد ما – باعتبار وجود بعض الجيوب غير المسلمة في جبال النوبة ومنطقة الأنقسنا وحتى في الخرطوم (الأقباط) – وأن كل المواطنين سواسية في الحقوق والواجبات دون اعتبار لخلفياتهم الاثنية أو الدينية وتتاح لهم الفرص في كل أروقة الدولة على هذا الأساس وحسب مستوى تأهليهم. لكي نحافظ على ما تبقى من السودان لابد من قيادة جديدة ونهج جديد ، نهج يبتعد عن التعبئة السياسية والتكتلات الاثنية والعواطف الجياشة والتهور والهوس الديني ودق طبول الحرب باسم الدين. نحن بحاجة لقائد يستخدم عقله وليس عواطفه ، قائد يصعب التعرف على مواطن ضعفه من حيث ما يحب ويكره حتى لا يكون سهل الاستغلال من المنافقين وأصحاب الغرض، هو من يشكر مؤيديه ولكن يحترم معارضيه ويهتم بما يقولونه أكثر من اهتمامه بما يقوله مناصروه بصرف النظر عن وزنهم. القائد الذي يناسب السودان في المرحلة القادمة هو ذلك الذي يضع حدا فاصلا بين الدولة والحكومة ، باعتبار أن الحكومة تابعة للحزب وأما الدولة فتبع الشعب. وبالتالي فالذي يتولى منصبا في الدولة يحاسب على أدائه بما يصلح الدولة والشعب لا يحاسب على قناعاته الفكرية.. نريد قيادة لها رؤية ثاقبة تتجاوز شخصنة الوظيفة الرسمية وبناء نظام مؤسسي لا يحتاج فيه المواطن للوقوف في صفوف طويلة للحصول على حقوقه ، بل تكون مهمة حكومة الدولة المؤسسية إيصال حقوق المواطن إليه حيث يقيم. لكي نحافظ على ما تبقى من السودان لابد من وجود أحزاب سياسية شابة ، تنعتق من عقد الماضي وتتنافس فيما بينها من أجل البناء وليس من أجل تدمير ما صنعه غيرها ، أحزاب قائمة على برامج سياسية واضحة تطرح للشعب والشعب يقرر. أحزاب تعمل لبناء السودان الجديد ، جديد بمعنى الكلمة ، خاليا من عُقد المؤامرات الخارجية وشبح الإرهاب ، سودان يعود إليه أبناؤه من المهجر ويشعرون بفخر الانتماء إليه. مسألة الشريعة أو العلمانية لا ينبغي أن تكون موضع خلاف طالما أن الشعب هو الذي سيقرر. فاليأت كل ببضاعته وللسوق أذواق وأعين. واليكن للأحزاب السياسية رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه ما تبقى من السودان دون اقصاء أو تسفيه لأفكار الآخرين طالما أن الشعب هو الحكم في نهاية المطاف. لكي نحافظ على ما تبقى من لسودان لابد من فسح المجال في الوظائف لأهل الكفاءة والخبرة الذين تمت إحالتهم ظلما للصالح العام. لابد من استقدام خبراء السودان الذين عمروا بلادا لم تكن تحلم بما هي عليه الآن. إذا لم يكن هم ما تبقى من السودان شغلا شاغلا لكل سوداني والكل يسعى بكل تجرد نحو سودان معافى من الامراض الاجتماعية التي رسخها نظام الإنقاذ فليس هناك ضمان على الإطلاق للحفاظ على ما تبقى من السودان. ramadan breima [[email protected]]