[email protected] في مصر حكاية رائجة تحكي عن الذل والهوان الذي وصل إليه الشعب أيام مبارك مفادها أن الرئيس نادى كبير مستشاريه مستغرباً عدم احتجاج الناس على الأوضاع وعدم خروجهم إلى الشارع رغم التنكيل والتضييق. طلب الرئيس من المستشار التفكير في طريقة يثير بها الشعب للقيام باحتجاج محدود حتى يحس العالم بأن هنالك ديمقراطية في البلد. فكر المستشار برهة ثم قال للرئيس نفرض ضريبة جديدة يدفعها كل من يصعد الكبري فدفع الناس الضريبة عن يد وهم صاغرون ولم يحتج أحد، فقال المستشار نفرض ضريبة على النزول من الكبري فدفع الناس الضريبة دون أي تذمر. أشتاط المستشار غضباً وخشي من رد فعل الرئيس فأمر بتخصيص رجل أمن يقف عن نهاية الكبري ليضرب المارة على قفاهم بعد الدفع. وقف الناس صفوفاً طويلة يصفعون ثم يغادرون دون أن ينبسوا ببنت شفاه والمستشار يشاهد كل ذلك. وفجأة صاح رجل وسط الصفوف: إيه الكلام دة يا جماعة؟ إيه البتعمل فينا دة يا جماعة؟ سر المستشار من الرجل المتذمر وظن أن خطته قد أتت أكلها, فأمر بالرجل فجئ به ولما وقف بين يديه سأله قائلاً: لماذا تحتج؟ فقال الرجل: لماذا تتركون أمر الضرب على القفا لرجل أمن واحد من المفترض زيادة عدد رجال الأمن حتى لا تتعطل مصالح الناس بالوقوف في الصف. وفي علم النفس النظري يعرف جلد الذات على أنه شعور سلبي يتنامى دائماً في أوقات الهزائم و الإحباطات بسبب مناخ الهزيمة الذي يخيم على الأجواء فتتوارى النجاحات (و التي غالبا ما تكون قليلة أو باهتة) و يتصدر الفشل واجهة الصدارة . و الشعور السلبي المتمثل في جلد الذات ينبع من رغبة دفينة بالتغلب على الفشل و لكن ليس عن طريق مواجهته و إنما بالهروب منه (أو ما يعرف بالهروب إلى الداخل حيث ينزوي الإنسان و يتقوقع داخل هذا الحيز الضيق من الشعور بالعجز و الفشل) و ذلك لعجز الفرد (أو الأمة) عن إدراك مواطن قوته و مواطن ضعفه و أيضاً مواطن قوة و ضعف أعدائه (أو تحدياته) و يسرف بدلاً من ذلك في تهميش كل قوة له ويعطى لعدوه أو تحدياته قوة أكثر بكثير مما هي عليه في الحقيقة . يحاول الكثيرون، ولكل إمرءٍ فيما يحاول مذهب، إنزال التعريفات النظرية على الواقع للتحقق من مدى مطابقتها له فمنهم من يدفعه عدم الإيمان بصدق النظريات حتى يرى الشواهد من الواقع جهرا و منهم من هو مؤمن ولكن ليطمئن قلبه ويزداد يقيناً. رأيت ثم رأيت ولكني لم أرى من شواهد التطابق بين التنظير والواقع مثلما رأيت بين مفهوم "جلد الذات" ومقال مولانا سيف الدولة حمدنا الله المنشور في صبيحة يوم الانفصال. فقد كتب مولانا ضمن ما كتب "لا يجوز لنا في مثل هذا اليوم (9/7/2011) أن نكتب مقال، فقد كتبنا - وغيرنا - من المقالات ما يكفي، واذا كان لنا ثمة ما يمكن أن نضيفه هنا، فهو أن نقدم كشف حساب بأعمالنا، ونواجه ذاتنا بحقيقة أنفسنا، فلم يعد هناك ما نخشى عليه بعد الذي حدث فينا، فنحن لم نعد شعب بطل !! بل نحن شعب من ورق، فالحقيقة أن شعبنا قد تحول من نمر كاسر إلى قطة منزلية !! شعب كسير وكسيح وبلا نخوة، وللبشير ألف حق في أن يتصرف فينا وفي الوطن كجزء من تركة والده الذي يبني له في المساجد، فقد استطاع - وهو رجل واحد - أن يمرٌغ بنا ونحن (44) مليون مواطن في بركة من الذل والهوان دون أن نتمكن من الثورة في وجهه أو نخرج على طاعته". فمولانا سيف الدولة صاحب القلم الشجاع الذي طالما صوبه لضرب أصحاب الذوات بالغاً ما بلغ شأوهم وشأنهم قد نجد له العذر في بعض ما ذهب إليه نتيجة الشعور بالإحباط من فشلنا في الحفاظ على وحدة التراب. ونحن إذ نؤيده في أنه لا بأس، بل إنه من الواجب الوطني، أن نقف في هذا اليوم المشهود لنجرد حساباتنا الوطنية ونقيم مسيرتنا العاثرة وننتقد سلوكنا المعيب ونلوم أنفسنا ولكن ينبغي أن لا نترك حبل النقد الذاتي على غارب عواطفنا فيذهب بنا إعمال مبدأ المحاسبة والوقوف مع النفس مذاهب تورثنا الإحباط وتوصلنا إلى مرحلة جلد الذات. فجلد الذات إن كان مبتداه النقد الذاتي القاسي فمنتهاه بلا شك هو الانحسار والانهزام وفقدان الأمل بالتغيير بل الركون والرضاء بالأمر الواقع. ينبغي علينا أن نلتقط الإشارات الموجبة مهما تضاءلت من وسط الركام السالب مهما تعاظم وننفخ فيها الروح لتكون واقعاً سويا نواجه به التحديات الماثلة والمرتقبة ونستنهض به الهمم. وقد هالني قوله (لم يعد هناك ما نخشى عليه بعد الذي حدث فينا) فإن تملكنا هذا الشعور السلبي فتلك هي الطامة الكبرى التي ستقصم ظهر الأمل في التغيير وتأتي على ما تبقى من عزيمة وصلابة، فالشعب السوداني لا يزال لديه الكثير الذي يخشى عليه فلا ينبغي أن نهن فيسهل الهوان علينا. نعم قام أهل الإنقاذ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً باسم الإسلام، بذبح الكثير من الرجال بدم بارد لدرجة أن نافعهم تبجح في لندن بأنه (ذبحاً حلالاً) فقد حسبوه ذبح على الطريقة الإسلامية ضمن ما حسبوا ونسبوا كثيراً من أفعالهم المشينة إلى الإسلام. نعم ذبحوا الرجال يا مولانا ولكنهم لن يستطيعوا ذبح الرجولة في الشعب السوداني. فشعوب مصر وتونس التي لم يعرف تاريخها الحديث الخروج لإسقاط الأنظمة الحاكمة كما هو الحال لدينا خرجت يوم أن أرادت الحياة فاستجاب لها القدر فاندكت عروش الطغاة وزلزلت أركان الجبابرة وحاشا أن نقول إن أهل السودان قد كره الله انبعاثهم فثبطهم أو نقول إن نفوسهم قد جبنت فقالت أقعدوا مع القاعدين ولكننا شعب به أناة كما وصفنا القامة المرحوم الطيب صالح صاحب التساؤل النابه من أين أتى هؤلاء والذي عجزنا جميعاً كما عجز هو من قبل في الإجابة عليه ولكن الذي نعلمه يقيناً إنهم سيذهبون من حيث أتوا وما ذلك على شعب السودان ببعيد.