قبل بضعة أشهر كان لي أن أشارك في دورة تدريبية في ممارسة البرمجة اللغوية العصبية بالخرطوم مع مدرب سوداني أراه مجتهدا في أداء دوره كمدرب، وأكن له تقديرا وودا حتى هذه اللحظة. وخلال مسيرة الدورة مررنا مرورا عابرا بموضوع النمذجة Modeling، ذلك أن المدرب أشار بأمانة إلى عدم درايته بأمرها مبررا ذلك بان النمذجة قد "حجب الأمريكان معرفتنا بها.. وأنهم "إذا وجدوا كتابا في النمذجة مع احد العابرين من مطاراتهم، أخذوه منه"!!!!!. نعم، ألجمتني الدهشة لحظتها..فالنمذجة كإحدى أدوات مهارات الحياة هي شي يمارسه الناس بطبيعة حياتهم..كما انه يمكن لأي شخص أن يحصل على كل ما كتب فيها.. وان يضطلع على مبادئ تطبيقها بمجرد بحثه على أي موقع من مواقع البحث في الكمبيوتر. لم أتوقف كثيرا عند ما سمعت، فقد دلفت على المدرب في مكتبه لاحقا وأشرت له انه بالإمكان الحصول على كل ما كتب في النمذجة. قصدت بقولي أن أشير له بان ما ذكره لا يعدو أن يكون هلوسة.. فرد على بأسلوب رجل محترم قائلا بان ما ذكره هو تكرار لما سمعه من مدربه الدكتور محمد بدرة.. وبرأيه فان الدكتور محمد بدرة عالم في هذا المجال لا يمكن أن يقول قولا غير صحيح. ما كنت سأكتب هذا المقال لولا انه قد وجدت نفسي في بداية هذا الشهر احضر دورة تدريبية في مجال التعلم السريع مع المدرب العالمي السوري الجنسية الدكتور محمد بدرة، والدعاية له ولعلمه ومهاراته وقدراته تملا الآفاق. لست هنا بصدد تقييم تلك الدورة بصورة متكاملة، وإنما أود أن أشارك أبناء وبنات السودان فيما يجري داخل البلاد من تغييب مدهش للعقول من قبل مدربين عالميين كالدكتور محمد بدرة، وتشويه موضوعات تمثل حجر زاوية في نهضة الإنسانية في القرن الواحد وعشرين كما ترى لها منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم، وعلى راس هذه الموضوعات مهارة التعلم السريع. ابتدر المدرب العالمي دورته التدريبية بفندق ريجنسي (مرديان سابفا) بقوله إن "التعلم السريع ليست له علاقة بالعقل"!!!!! وعندما تلتفت إلي يمينك في القاعة، تجد له (اقصد للمدعو محمد بدره) ملصقا مكتوب عليه "يعتمد التعلم على العقل والجسد كليهما"!!!! وقد تبين لي لاحقا بصورة متنامية خلال مسيرة الدورة ان ما يقوم به هذا المدرب من ممارسة للتدريب لا يمت للعقل إلا بعلاقة عكسية.. وما كان له أن يسمي ما يقوم به تعلما حيث انه، في واقع الأمر، لا يعدو أن يكون ما يمكن أن نسميه "بلطجة تكسبية". ومن بعد تقديمه للتعلم السريع على انه شي ليس له علاقة بالعقل، ذهب صاحبنا إلى طرح ميثاق دورته التدريبية في ثلاث نقاط، أو بالأحرى ثلاث أوامر تعليمية وهي: 1/لا تتعلم 2/استمع 3/ابتسم......هل لك أن تتخيل شخص ينفذ هذه الأوامر الثلاثة دون أن يصير متخلفا عقليا أو يتحول إلى قرد؟ فلنكن فقط متسائلين.. لعل لهذا المدرب العظيم ما سيسحرنا به من سحر الساحرين. لقد حول أو- في واقع الأمر- ظن انه قد حول المشاركين إلى مستمعين باسمين غير متعلمين. ظل صاحبنا يتحدث بلا توقف ويحكي من كل ما لذ وطاب لنفسه من حكايات عنه وعن ابنه إبراهيم !!!! وكان عندما يطرح سؤالا ويريد احد المشاركين أن يرد، يقول له لا "لم اطرحه للرد عليه"....لقد كان يسال ليتحدث... فمهمة المشاركة واضحة هي الاستماع..والابتسام..وعدم التعلم!!!!!. السؤال الوحيد الذي كان يكرره ولا يجيبه عليه احد هو "ماذا تعلمتم؟"......ويا ليته كان يقول "ما الذي لم تتعلموه ؟" ذهب صاحبنا العبقري في وصفه بان التعلم السريع "هو أن تصير طفلا" "هو أن تصبح صفرا" ولا يحسبن أحدا إنها بيت شعر غنائي....فالرجل بعيد عن عالم الفن المعروف. ربما يقول قائل بان العبارتان صحيحتان...لكنهما صحيحتين فقط لدى من يفهم معناهما ويستطيع نقلهما للآخرين...بصورة أوضح، يكونان صحيحان لدي من يستطيع تطبيقهما على نفسه بالصورة التي عناها من أنتجهما. عرض مدربنا محتوى دورته التدريبية في خمسة نقاط هي دورات التعلم السريع (واضع خطا تحت كلمة دورات)، وافتراضاته، ومبادئه، وخطوات تصميمه ، وميزات تيسيره. ومن ثم استمر في عرضه لأشياء هي ليست من التعلم السريع في شي وإنما هي أبجديات لعملية التدريب المعروف يجترها صاحبنا اجترارا كمن يقرأ إعلانا.. فهو لم يستبطن حتى هذه الأبجديات لعملية التدريب التقليدي وإلا لكان قد اتبعها في مسلكه العملي فأصبح مستوى تدريبه متساويا مع مستوى تدريب المدربين العاديين المحليين ربما في حلب أو اللاذقية. ولو كان لصاحبنا وعي ولو قليل بأمر التعلم السريع لجعل التعلم السريع في ابسط أشكاله يقوم على نموذج التعلم متلازما مع الخرائط العقلية والنمذجة.. وهذا وحده يمكن أن يزيد سرعة التعلم للمشاركين خلال ساعة أو ساعتين، ذلك باعتبارات الامريكان لم يفلحوا في أن يحجبوا عنا نموذج التعلم والخرائط العقلية. استمر المدرب العظيم في تحليقه في فضاء المعرفة وهو يصدر الفتاوى ..ويلقي بالمواعظ للمستمعين الباسمة . فمن فتاويه شديدة الجراءة أن "الضرب غير مسموح به إطلاقا في جميع الديانات" وان "الضرب ليس له كفارة لانه تشويه كامل"!!!!!. وما درى صاحبنا عالم البرمجة اللغوية العصبية إن هذا العلم الذي يدعي المعرفة به قد حول كل الماسي، حتى الأمراض، إلي فرص.. وانه لا يوجد في الكون شي ليس له كفارة.. كما انه يستحيل احداث تشويه كامل...هذه من أبجديات نظرية المعرفة. ولنستمر في سياحتنا مع هذا الرجل. ذهب في تحليقه قائلا أن هناك امرأة لجأت إليه تستشيره كناصح Coach في التخلص من قسوة زوجها عليها. فأبدع لها نظرية في العلاقات الإنسانية. كانت نظريته كالآتي: 1. عندما يحضر زوجك متجهما قولي له "ابن عمي..مالك مزعوج؟ 2. إذا ضريك قولي له "ليش أعصابك تعبانة يا نور عيني؟ وهكذا حتى يتغير. لا ادري كم كانت فاتورة هذه المرأة المسكينة، فحظها من تلك الاستشارة مثل حظنا من هذه الدورة التعيسة. أما برنامج النصح Coaching فأمره عجبا أخر (ولا تخلو كل الأمور في هذه الدورة من عجائب). بعد طرحه للاستشارة العظيمة التي قدمها للمرأة المسكينة، علق احد مساعديه (أو احد رفاقه) في الدورة قائلا انه "بحث لمدة ستة أشهر كاملة، فقط لكي يحصل على تعريف للنصح".. وهنا التقط مدربنا العالمي القفاز –وكأنما كان في انتظاره، بل ربما كان فعلا في انتظاره- ليلقي محاضرة حول النصح قائلا " إن برنامج النصح يتطلب تدريبا لمدة عام كامل.. وان مراكز تدريبه المعترف بها تأخذ مبالغ هائلة.. وإنها لن تعطيك فرصة للتدرب معها إلا إذا حجزت مقعدا قبل ستة اشهر من بداية التدريب "... ثم قدم إرشاداته للمستمعين الباسمين "انك إذا تقدمت لأية جهة للتدرب على النصح وردوا عليك فورا فاعلم إنهم دجالون". لعمري لم أرى دجلا في حياتي كمثل ما يقوم به هذاالرجل. فالنصح الذي قال صاحب المداخلة انه قد بحث ستة اشهر ليعرف معناه، لا يعني غير أن " تتفهم حاجة الأخر وتقف معه في تحقيقها". والحصول على معني أي شي في عالم اليوم لا يحتاج إلا لدقيقة واحدة تجعلك تكتبه فيها علي موقع البحث في جهاز الكمبيوتر. والنصح كمهارة حياة شي يقوم به كل الناس بدرجات متفاوتة في حياتهم اليومية ومنهم من هو مبدع فيه ولم يدخل مدرسة ولا يعرف القراءة ولا الكتابة. كما أن التدرب عليه (بالا حري نقول التدرب على تطوير مهارتك فيه) يتطلب اقل من أسبوع في ارقي مراكز تدريبه في بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية.. ويمكن أن تحجز مقعدا معهم في أية لحظة تكون فيها مستعدا لذلك.. كما يمكنك أن تدرسه الكترونيا مع ارقي مراكزه وأنت في منزلك بالحاج يوسف او الشبارقة او كبكابية او طوكر..... لقد كان المدرب العظيم خلال الدورة يتحاشى سؤال المشاركين النقدي له. سأله احد المشاركين (وهذا المشارك لم يكن مستمعا مبتسما.. وإنما كان محتارا). استطاع ان يسأله فقط بعد أن اكد له انه سيسأله "سؤالا بريئا". سأله قائلا: في اعتقادك..س كم لديك من الافتراضات الخاطئة؟ فرد صاحبنا بسرعة قائلا " أنا كلي افتراضات خاطئة ...وكل ما بي هو خاطئ" فرد عليه السائل بكلمة شكرا وجلس في الوقت الذي ضحك فيه بعض المشاركين (المستمعين الباسمين). لقد ظن هذا المدرب انه برده ذلك يعكس تواضعا محببا، مع أن المعروف به في علم النفس هو أن التواضع المخل هو سوء أدب فحسب. ولقد كان كاذبا بصورة صارخة في ادعائه، فلو كان يظن أن كل قناعاته خاطئة لما قضي الوقت يتجول بزهو في القاعة وهو يردد "اتحدي اى شخص يقول لي أن هناك دين يسمح بالضرب" "أتحدكم بكذا وكذا....................". في الواقع لا يوجد إنسان أو حيوان في الوجود يرى أن كل افتراضاته خاطئة وإلا فقد تخلى عنها جميعا (تلك هي حالة الموت فقط، حالة الغياب التام للوعي). فلو كان صاحبنا متحريا للصدق في رده لقال "إني افترض أن بعض قناعاتي خاطئة. ولو كان متعلما (ولو تعلما بطيئا) لقال "ومسعى الإنسان في الحياة هو أن يصحح افتراضاته الخاطئة". في تلك اللحظة ربما يسأله المشارك غير المبتسم "وما سبيلك إلى ذلك؟"...حينها يمكن أن يبدأ في اكتشاف وسائل التعلم وكيفية تطبيقها.. وكيفية زيادة فعاليتها لإحداث التعلم السريع. ومن إحدى أقوال هذا المدرب إثناء صولاته وجولاته داخل القاعة إن أفضل دور يقوم به المعلم هو أن يخرج من الفصل". لن نقول بعدم صحة هذه العبارة التي التقطها محمد بدرة من مكان ما ونقلها. ولكن نقول انه لا يفهم مدلولها ومعناها وإلا لكان قد خرج معنويا من القاعة وأراحنا قبل أن اضطر للخروج حسيا من القاعة وإراحته. ذلك ما كان من أمر هذا المدرب العالمي الشهير والذي قام آخرون بالترويج والدعاية له فكسبوه- "من كسب مالا..... وتكسبوا معه على غير وجه حق....كما ان له في عاصمة السودان "معجبون بلا حدود"....لا اعرفا سببا لحبهم غير تغييب عقولهم.....والقلب عندما يتحرك منفردا لا يبالى. إن الوقوف على تشويه خطير للعلم والمعرفة بهذه الطريقة والسكوت عليه يعتبر مرضا نفسيا يسميه عالم النفس الأمريكي سليقمان ب "العجز المكتسب" Self Helplessness . والعجز المكسب يعني ببساطة "نقص القادرين على التمام". لا شك عندي إن كثير من المتعلمين في بلادنا يعانون من هذا الداء فيذهبون لتبرير مواقفهم بأساليب هروبية "سيبك منه ياخي، ما هي اصلا بايظه.. بايظة". بالطبع قال لي البعض ذلك عندما قلت لهم " سأكشف هذا الدجال". إن العجز المكتسب يسبب لمن يعانيه ضغطا نفسيا مستمرا وبالتالي اضمحلالا متناميا في الطاقة الحيوية مما يقوده في خط الموت.. فالموت درجات. وإذا كان من ابسط واجبات المواطنة أن ننبه الشرطة للص يتهادى بين المساكن، فمن الواجب الاوجب أن ننبه الغافلين إلى مصاصي الدماء Vampires ومن ضمنهم المدربون العالميون الذين يعملون على تغييب العقول. فهمهم هو الحصول على أموال بوسائل من ضمنها ما يقوم به هذا المدرب العالمي الشهير. إنهم " يعكرون المياه للاصطياد فيها"وهذا وصف استعيره من الكاتب البديع منصور خالد. أما كثير من المشاركين في دورات هذا المدرب - وبعضهم يدرسون الطلبة في الجامعات- فلا نريد لهم أن ينقلوا هذا الضلال إلى الجيل الناشئ ويصبحوا بذلك بعض أدوات الدجالين، يقودهم في ذلك الإعجاب بلا حدود. فإذا رأوا بغير ما أرى وأرادوا للناس الوقوف على حقيقة مختلفة فادعوهم للحوار...وهو حوار مفتوح ربما يتيح الفرصة لتوضيح نقاط أخرى ذات أهمية في هذا المضمار. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. عبد العظيم عبد الفضيل الضهيب ت 0912876342 Email: [email protected]