(حذفته الرقابة الأمنية) (أنا مع هذا القصر ولو كان بداخله غردون باشا) هكذا عبّر أحد المستقطبين للمؤتمر الوطني الذين عملوا مع الإنقاذ بعد توسيع صف الحركة الإسلامية -عقب الإنقلاب الإنقاذي- من خلال إستراتجية الخروج بالتنظيم الإسلامي في ذلك الوقت من صفة التنظيم النخبوي الصفوي المغلق على عضوية بعينها وفتح المجال لقطاعات من المجتمع مهما كان كسبها السياسي وولائها السابق، وهي استراتجية خطط لها التنظيم الإسلامي منذ وقت بعيد وطرحها د. الترابي في كثير من المناسبات وبدت واضحةً في عدد من منشوراته وكتبه حيث تحدث عنها بوضوح في كتابه (الحركة الإسلامية.. التطور والمنهج والكسب) حين قال: "وفي سياق تحويل الجماعة النخوية التقليدية إلى كيان شعبي يمثل مجتمعاً متكاملاً بدّلت لوائح العضوية توطئة لحدود المدخل إلى الجماعة وتيسيراً لتكليفات العضو مما يناسب مختلف المستويات والثقافات سماحة في شروط العضوية وواجباتها..." غير أن الحاجة الملحة لتثبيت الإنقاذ في شهورها الأوائل دعت إلى المسارعة في تنزيل إستراتجية الإنفتاح والإستعانة بوجوه جديدة لا يعرف عنها الإلتزام في صف الحركة وتنظيمها وهكذا تم فتح الصفوف لوافدين جدد بدواعي كسر العزلة عن النظام الجديد المنقلب على الديمقراطية والساعي للإنفتاح نحو قطاعات المجتمع كافة. وكانت أول خطوة في ذلك الإتجاه عبر مؤتمرات الحوار الوطني التي شملت الساحة السياسية في أيام الإنقاذ الاولى والتي أجتهدت أن تغطي أكبر عدد من الأسماء القومية والأكاديمية وتعمل على استقطابهم مشاركين في تلك المؤتمرات، ويرى إسلاميون شاركوا في الإعداد لتلك المؤتمرات أنها كانت أكبر حملة علاقات عامة لنظام الإنقاذ في أيامها الأولى وقد كانت الإستجابة كبيرة لتلك الدعوات بالمشاركة في مؤتمرات الحوار الوطني التي مثّلت أول بوادر الإستقطاب والإنفتاح نحو الآخر من قبل الإنقاذ. جانب آخر يشير إليه الإسلاميون الذين عملوا على تنزيل هذه الإستراتجية وهو "أن الحركة الإسلامية كانت قد قررت ألا تحكم وحدها بمنهج طائفي ولكنها تتخير حلفاء لها من الجماهير التي تتفاعل مع برامج الثورة الوليدة بالولاء والتأييد" بذلك إنفتح باب الحركة وحكومتها (الإنقاذ) وأكتظ القادمون يدخولون في أطرها وتناظيمها أفواجاً وعبر منهج –كذلك- يعلن عنه دائماً الشيخ الترابي: "وحينئذٍ تجاوزت الحركة تماماً منهج الإنتقاء والتجنيد الفردي، وأصبح متاحاً للناس أن يدخلوا في الجماعة أفواجاً لا أفذاذ. فقد تدخل القبيلة والطائفة والفرقة ولا يترتب عليهم حرج حتى لو دخلوا بما يحملون من ولاءات فرعية في الطرق الصوفية أو القبائل ما جعلوا الولاء الأعلى للحركة الإسلامية واندرجوا في التزامها أفراداً لا كتلاً مؤتلفة..." ولئن كانت إستراتجية الحركة تتيح للناس الدخول إليها بما حملون من ولاءات ولكن دون التكتل في إئتلافات منظمة فقد خالف المايويون ذلك بحسب د. عبد الرحيم عمر إذ أنه يقطع بأن هؤلاء كانوا منظمين ومؤتلفين ولا يفعلون شيئاً عفواً هكذا، فيقول: " بعد الإنقاذ إجتمعوا وهم منظمون طبعاً، وقد حكى لي أحد المايويين ممن عملوا مع الإنقاذ أنهم إجتمعوا وقرروا أن يدخلوا هذا النظام ودخلوه وهم منظمين ولذلك عندما جاء نظام المؤتمرات في شهور الإنقاذ الأولى إهتبلوا هذه الفرصة فكان من النجوم اللامعة جداً الأستاذ أحمد عبد الحليم وكان عبد الباسط سبدرات وأبو القاسم محمد إبراهيم وغيرهم." ولكن كيف أستطاع هؤلاء أن يتسنموا مواقع عليا في دولة الإنقاذ متفوقين حتى على السابقين من أهل الحركة الإسلامية ممن نشأوا وتربوا في كنفها طائعين وعاملين لها؟ د.عبد الرحيم يفسر ذلك: " المايويين كانوا لهم خبرة في العمل النقابي والسياسي أكثر من الإسلاميين الذين جاءوا من المعارضة ومن المثالية والتنظير ولما أصبحوا في المواقع القيادية أصبحوا يحتاجون لأهل الخبرة والتجربة وهو ما وجدوه في المايويين هذه واحدة ثانياً هؤلاء المايويين كانوا أذكياء ومعظمهم كانوا كوادر حزب شيوعي ولهم تكيتكهم وأسلوبهم في الوصول للقيادات والتأثير عليهم بالمديح والإطناب والحضور الدائم بينما كان الإسلاميون تمنعهم تربيتهم من إنتهاج هذه الأساليب في التطبيل ومسح الجوخ وإذ كان الآخرون لا يبادرون لتصحيح الخطأ والنقد فإن الإسلاميون دائماً هم من يقومون بذلك. وهذا أمر أصبح مرفوض من قبل القيادات الإسلامية حينما جاءت إلى السلطة وذاقت حلاوتها فأصبحت تركن إلى المادح وتفر من القادح وهكذا خلقت هوّة بين الإسلاميون وإخوانهم وهذه الهوّة سدها المايويين الذين أنتشروا في الإنقاذ بصورة كبيرة وتمكنوا فيها حتى ظل بعضهم مستوزراً منذ اللحظة الأولى وإلى اليوم." وبالحديث عن إمكانية أن يكون هؤلاء المايويين قد رتبوا وأعدوا لإختراق الإنقاذ والعمل من داخلها لإضعاف الحركة الإسلامية يقطع د. عبد الرحيم عمر ويجزم بهذا الزعم.." لا أشك في أنهم أسهموا إسهاماً كبيراً في إبعاد بعض الإسلاميين.. هم لهم خبرة سياسية عمرها ستة عشر عاماً في العهد المايوي ولا أشك في انهم أسهموا حتى في إحداث إنشقاق الحركة الإسلامية ليس هم وحدهم بالتأكيد ولكنهم يتحملون جزءً من ذلك." ولكن يبقى السؤال الأهم مطروحاً .. كيف لم يتنبّه الإسلاميون ويلتفتون في ذلك الوقت لهذا الخطر القادم في ركاب الوافد الجديد –على حد وصفهم- سؤال جيب عليه الإسلاميون ذاتهم بإن قطاعات هامة منهم تنبهت وحذرت من ذلك الغزو الذي لم تحصره فقط في مجموعة المايويين وحدهم وإنما في كافة جموع المستقطبين القادمون ونصب أعينهم أهدافاً محددة تتمثل في الوصول لمطامحهم وأطماعهم في السلطة دون قيود من تلك الكوابح من التربية والقيم التي كانت تحكم أهل التنظيم المنفتح مع أول دولته المتطلعة لكسر عزلتها وحاجتها للكوادر المتمرسة. د. عبد الرحيم يرجع تلك الغفلة لحل تنظيم الحركة ذلك الإجراء الذي وصفه بالخنجر المسموم الذي غرس في صدور الإسلاميين: "عندما حلت الحركة الإسلامية بعد الإنقاذ فقد الإسلاميون البوصلة فما عادوا يستمعون لمثل هذه المسائل ولا ينتبهون لها فلا يوجد تنظيم ولا مرجعية ولا أدوات محاسبة بل حتى أنه ماتت الشجاعة في نفوس الناس فما عادوا ينتقدون خوفاً على مواقعهم وامتيازاتهم إلا بصيصاً في جلساتهم الخاصة جداً أو تعليقات من أولئك المهمشين في الصف الحركي." تهميش ومهمشين من خاصة صف الحركة الإسلامية خبأ بريقهم في حين لمعت نجوم أخرى من المستقطبين والوافدين الجدد الذين يسدون كل فراغ ينتج عن تساقط السابقين من أهل الحركة وعضويتها واقع ربما ولّد كثير من الغيظ والمرارة في نفوس أبناء الحركة الإسلامية فذهبوا يستعصمون بالبحث الأكاديمي ويشقون دروباً أخرى في الحياة بعيداً عن الدولة التي بنتها حركتهم وشادت، يرمقونها بعين الحسرة وربما أنطلقت بعض التعليقات الساخطة توصف ذلك الواقع الجديد على نحو ما فعلت المرحومة د. زكية ساتي حين قالت: "عندما أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولته في المدينة أسند حقائبها وقيادتها للأبكار من صحابته من المهاجرين والأنصار، وأما الطلقاء فقد قال لهم إذهبوا فأنتم الطلقاء ولم يجعل لهم دور يميزهم.. أما إخوتنا في الحركة الإسلامية فقد قالوا لإخوانهم إذهبوا فأنتم الطلقاء.. وجاءوا بالطلقاء ليحلوا مكانهم." حلّ الطلقاء بمواقع الأبكار – وفق تعبير ساتي – إلا أنهم أكدوا شكوك الإسلاميين ممن عصفت بهم زوابع وتقلبات الإنقاذ بعيداً نحو الرصيف متفرجون يرقبون مسار اللعبة ويعضدون مذهبهم في أن غالب هؤلاء المستقطبين من المايويين وغيرهم جاءوا ليسايروا الدولة والسلطان أينما جارت أو إهتدت مراكبه ويحتجون بأنه مهما توزع الإسلاميون أصحاب الفكرة والسابقة بين القصر والمنشية بعد فتنة الإسلاميين وانقسامهم إلا ان المايويين ورفاقهم من المستقطبين مالوا بكامل عدهم نحو القصر لا يفارقونه بل يجاهر واحدهم بأنه مع القصر ولو كان بداخله غردون باشا. حميد أحمد