في الجزء السابق من هذه السطور حاولنا مناقشة المقصود بالجمهورية الأولى، عسى الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، ويهدينا إلى فهم ما تعنيه الجمهورية الثانية، وكانت ضالتنا في ذلك ظروف زمانية وجغرافية وما أطلقنا عليه جدلاً موضوعية. وأشرنا في عجالة إلى أن هناك عدة دروس يمكن استخلاصها من تجربة كوريا في المجال السياسي. وقلنا إن كوريا مرت بتحولات سياسية متعددة، توالى على الكوريين فيها حكم استبدادي تلاه حكم عسكري، قبل أن تحط طائرة الديمقراطية بسلام على أرض الصباح الحالم بعد حوالي أربعين عاماً من التحليق. واستكمالاً لما بدأناه، نقول إن أول دستور في كوريا الحديثة صدر عام 1948م عقب إجراء أول انتخابات فيها بناءً على القرار الصادر من مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص، حيث نص القرار على إجراء الانتخابات في كل أرجاء شبه الجزيرة الكورية. ولكون الجزء الواقع شمال خط العرض 38 والذي كان يخضع لسيطرة الاتحاد السوفيتي (كوريا الشمالية) لم يشارك في هذه الانتخابات، فقد كانت الانتخابات مقتصرة على جمهورية كوريا بالمعنى الذي تعرف به كوريا الجنوبية في الوقت الحالي. ونص الدستور على اختيار الرئيس من داخل البرلمان. وفي 1960م أجبرت المظاهرات الطلابية الرئيس سونغ مان لي على التنحي عن السلطة، حيث صدر ثاني دستور لجمهورية كوريا، عُرف بدستور الجمهورية الثانية، والذي استحدث بعض الممارسات والمؤسسات الديمقراطية، استجابة لمطالب المنتفضين. إلا أن هذا الدستور لم يكتب له عمراً طويلاً بسبب استيلاء الجنرال بارك جونغ هي على السلطة في انقلاب عسكري، حيث بادر إلى تعطيل العمل بالدستور وفرض الأحكام العرفية. وفي 1962م أصدر الرئيس بارك ما أطلق عليه دستور الجمهورية الثالثة والذي تضمن في أحكامه بعض سمات الدستور الأمريكي. ورغبة منه في الاستمرار في السلطة قام الرئيس بارك نفسه في 1972م بتبني دستور جديد عرف بدستور يوشين، نص على عدم تقييد مدة تولي الرئاسة مع تركيز السلطات في يد الرئيس. واستمر العمل بهذا الدستور حتى اغتيال الرئيس بارك على يد مدير مخابراته في 1979م، ما مهد لصدور دستور الجمهورية الخامسة في 1980م، والذي يمكن وصفه بأنه كان دستوراً انتقالياً. وفي 1987م صدر الدستور الدائم لكوريا، واضعاً حجر الأساس للنظام الديمقراطي الذي أصبحت كوريا تعرف به في الوقت الحالي. ولعل أحد الدروس التي يجب التوقف عندها هنا هو تفضيل الكوريين بعد مسيرة طويلة لتولي الرئيس لفترة رئاسية واحدة، لا يحق له بعد انتهائها الترشح لفترة ثانية. وتكمن الحكمة وراء تفضيلهم لهذا الخيار في الرغبة في عدم تكرار ما لقوه من ممارسات استبدادية ودكتاتورية إبان حقب سابقة طال فيها جلوس رؤسائهم على سدة الحكم وما عانوه بسبب ذلك من تضييق. فالرئيس سونغ مان لي أول رئيس لكوريا تولى السلطة لما يزيد عن اثنتي عشرة سنة، فيما بقي الرئيس الثالث بارك جونغ هي في القصر لسبع عشرة سنة حسوماً. وقد كانت هناك نداءات من وقت إلى آخر لإجراء تعديلات على هذا الدستور تارة بغرض تخفيض مدة الخمس سنوات إلى أربع سنوات والسماح للرئيس بإعادة ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية على غرار ساكني البيت الأبيض، وتارة أخرى لإسناد بعض الصلاحيات الخاصة بالرئيس إلى رئيس الوزراء وذلك حتى يتمكن الأخير من القيام بدور فعلي في تسيير شؤون الحكم لا الاكتفاء بمجرد منصب اسمي يقتصر فيه على مراقبة أنشطة الوزراء بناءً على توجيهات الرئيس، والانتظار على أمل تولي مهام الرئيس مؤقتاً في حالة وفاة الرئيس أو حجب الثقة عنه أو لعجزه عن أداء مهامه لأي سبب آخر. وبفضل ما أرساه هذا الدستور من نظام ديمقراطي يقوم على تعددية حزبية، فقد تداول الحكم في فترة الجمهورية السادسة رؤساء من اليمين المحافظ واليمين الوسط ومن اليسار والليبراليين والديمقراطيين، حيث كانت الرئاسة عقب إجازة الدستور مباشرة من نصيب رئيس محافظ هو الرئيس روه تيه أوه، تلاه رئيس محافظ آخر هو الرئيس كيم يونغ سام، والرجلان ما زالا على قيد الحياة. ويعتبر كيم يونغ سام أول رئيس مدني يفوز عن طريق الانتخاب الشعبي المباشر في تاريخ كوريا الحديثة. وكان للشعب بعد ذلك كلمته حيث اختار رئيس ليبرالي مناصر للديمقراطية هو الرئيس الأسبق الراحل كيم داي جونغ، والذي يمثل فوزه أول سابقة يتم فيها تداول السلطة بين الحزب الحاكم والحزب المعارض، ثم اختار من بعده الرئيس السابق الراحل روه مو هيون، الذي كان حكمه مكملاً بعض الشيء لحكم سابقه. ثم ما لبث المحافظون أن عادوا مجدداً لسدة الحكم بتفويض شعبي أيضاً، حيث يتخذ الرئيس لي ميونغ باك (المحافظ) من القصر الرئاسي مقاماً إلى حين منذ مطلع العام 2008م. وعلى مستوى الجهاز التنفيذي، نص الدستور الكوري على أن لا يقل عدد الحقائب الوزارية عن 15 وزارة ولا يزيد عن 30 وزارة. وقد اعتمدت الحكومة الحالية مثلاً الحد الأدنى لهذه الوزارات حيث تحتفظ بخمس عشرة وزارة. الهدف كما أعلنت عنه الحكومة هو تخفيض الصرف الحكومي واعتماد حكومة صغيرة في حجمها، ذات كفاءة عالية في أدائها. ويقوم الرئيس باستبدال وزرائه بعد فترات قصيرة بحيث لا يبقى أحدهم في الوزارة لأكثر من سنة في الغالب، وسعيد الحظ منهم هو مَن تتاح له الفرصة للبقاء بوزارته لأكثر من ذلك. وفي الحالات التي تتم فيها تعيينات لاعتبارات خاصة في المناصب العليا كالوزارات واللجان الخاصة والمفوضيات والمناصب الحساسة كرئيس القضاء والمدعي العام وغيرها، هناك تقليد مبني على الأقدمية يقوم بموجبه من هم أقدم من المعيَّن لأحد المناصب المشار إليها بتقديم استقالاتهم لتثبيت أن خللاً في السلم الإداري قد حدث، ولا يمكن تقويمه إلا بهذه الوسيلة. وللتخفيف من وطأة النظام المركزي، تم تعديل قانون الحكم الذاتي المحلي، وبموجب ذلك تم تقسيم كوريا من الناحية الإدارية إلى 16 حكومة محلية منها سبع مدن رئيسية وتسع محافظات. ويجلس على قمة الهرم الإداري عمداء في المدن الرئيسية، ومحافظين في المحافظات. ويساعد هؤلاء العمداء والمحافظين في أداء مهامهم رؤساء المجالس البلدية، لا وزراء ولائيين، مع منح الوحدات الإدارية المحلية استقلالا ذاتياً تاماً مستفيدة من الإصلاحات الناتجة عن المطالبة بالمزيد من الديمقراطية. إن ما أوردناه فيما تقدم بشأن كوريا يشبه ما مر به السودان إذا نظرنا إلى ذلك من زاوية تعاقب عدد من الحكومات ذات التوجهات المختلفة، كما أن هناك تشابه من ناحية عدم استقرار الدساتير خلال حقبة الأربعة عقود التالية لاستقلال كوريا، وما يزيد عن خمسة عقود منذ استقلال السودان. والدرس المستفاد بهذا الخصوص هو أن ما مرت به كوريا من تعاقب في الحكومات واستبدال دستور بآخر، أوصلها في خاتمة المطاف إلى تبني نظام ديمقراطي، حيث حسمت كوريا أمرها منذ أواخر الثمانيات باعتماد دستورها الدائم الذي تناولنا في حديثنا بعض ما تضمنه. وبمقدم الجمهورية الثانية في السودان، يعتبر أمر الدستور من الأمور التي تقف في مقدمة أولويات المرحلة القادمة إذ عليه تقوم كل أعمدة الدولة الديمقراطية الحديثة، ومنه تتفرع كل الأمور الأخرى. أما من حيث ما يجب أن يتضمنه هذا الدستور، فلا شك أن تحديد أسس واضحة للحكم هي أهم أولوية، من حيث تكريس التعددية الديمقراطية الحقيقية ووضع قالب لمن يتولى الرئاسة بمواصفات لا علاقة لها بأي اعتبار حزبي أو جهوي أو قبلي أو غيرها من الاعتبارات الأخرى. وعلى الصعيد التنفيذي، يجب أن يعاد النظر في ظل الجمهورية الثانية في الحقائب الوزارية الحالية بالإبقاء على عدد محدود من الوزارات على النحو الذي يتم تداوله هذه الأيام، مع ضرورة شطب منصب وزير الدولة حتى لا يكون في كل وزارة وزيران أحدهما فعلي والآخر تكملة عدد، وإلغاء منصب وزير في الحكومات الولائية واستبدال من يعرفون بالوزراء بمدراء قطاعات كل في مجاله. ولنا أن نتخيل أن دولة مثل كوريا لديها ناتج إجمالي بحوالي ترليون ونصف ترليون دولار وميزانية سنوية تصل إلى 300 مليار دولار، تكون مهمومة بتخفيض الصرف الحكومي خشية إملاق. فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل هناك لزوم أصلاً لإصباغ صفة (وزراء) على مساعدي الولاة، في وقت نصرّ فيه على تخفيض الصرف. إذا علمنا أن من يتم الإنعام عليه بصفة وزير ولو ليوم واحد، وخاصة في السودان، سوف يظل وزيراً مدى الحياة، بمعنى أنه سوف لن يفكر في أية وظيفة أخرى تقلل من مركزه. والنتيجة الطبيعية هي شطب مثل هؤلاء الوزراء (مقاسات صغيرة) من قائمة الكوادر المنتجة في المجتمع، إن كانوا أصلاً من المنتجين، بمجرد انتهاء فترة عملهم. وآخر قولنا: إن كوريا لم تصبح دولة ديمقراطية بين عشية وضحاها، وإنما وصلت إلى هذه المرحلة عبر مراحل طويلة من الصبر والممارسة الواقعية. وقد كانت شمتنا الصبر كما كان الكوريون من قبل. فهل آن لنا أن ننعم مثلهم بحياة ديمقراطية؟ وماذا لو خيِّرنا ما بين ديمقراطية لا يدعمها رفاه اقتصادي، ونهضة اقتصادية في غياب الحريات السياسية على الطريقة الكورية في فترة الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي ؟ سنحاول في الجزء التالي مناقشة هذا الجانب. [email protected]