تماما كما انكشف الأفق بعد انهيار حائط برلين أمام المحافظين الجدد لممارسة مغامراتهم عبر العالم , وجد اليمين المحلي المسرح مفتوحاً في غياب اليسار. ما لم يستجمع هذا التيار قواه تبقى المحاولة عرجاء ويظل الوضع السياسي على حاله. ربما شكل المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ورقة مغرية للرهان على النهوض. ذلك إغراء يتأتى من القناعة بأن الحزب يجسد قلب اليسار السوداني وقاطرته. ربما يشكل انعقاد المؤتمر في حد ذاته انجازاً حزبياً إذ هو الأول من نوعه في أعقاب مذبحة يوليو 1971. البعض رأى في المساحة الزمانية ما يكفي لإستجماع الأوصال وبلورة رؤى تتجاوز الأزمتين التنظيمية والفكرية. على الرغم من الضربة القاصمة وحملات التشريد والتضييق، للحزب رصيد على الأقل من الصيت ما يجعل عودته إلى دائرة الفعل احتمالاً قائماً. انعقاد المؤتمر أشعل شمعة الأمل في مغادرة الحزب نفق التقوقع إلى رحابة العمل الجماهيري الدؤوب. ما من أحد يريد مجرد تغيير في واجهة القيادة. الشيوعيون بذروا من الجهد وبذلوا من العمل الفكري ما يجعل قطاعاً عريضاً من السودانيين مؤمناً بأن الحزب يظل طليعة في مسيرة التغيير والتقدم والوطنية. على الرغم من انهيار يوتوبيا الاشتراكية وإمبراطوريته العظمى , لم تفقد شريحة من النخبة السودانية قناعاتها في الماركسية اللينينية منهجاً للثورة الاقتصادية والتحديث الإجتماعي. المؤتمر أثبت قدرة الشيوعيين على النهوض من الكبوة ذات الكلفة الباهظة لكنه لم يعزز الآمال المعلقة على الحزب في إحداث تغيير جذري على صور تفتت قواه المتراكمة طوال نحو عقدين. المنتظر من بيان الحزب الأول جملة من العناوين تكشف رؤى لجهة مواصلة الصراع السياسي بتغييرات جذرية وأدوات عصرية. ما من أحد رغب في العودة إلى الوراء غير أن أحداً من القيادات لم يشأ الخروج عن المتداول من المهموس أو المعلن في سيرة الحزب من مغامرة الجنرالات المتقاعدين وحتى مؤتمر قاعة الصداقة. وفقاً لشهادة الحزب غير المعلنة عن يوليو فإن الجنرالات قادوا انقلاباً على قيادة الحزب في الطريق إلى(قصر الشعب). إكراماً للشهداء من العسكر والمدنيين لم يجرؤ أي من (الزملاء) على الجهر برأي مغاير للشهادة الرسمية. المؤتمر لم يكن يحتمل الخروج بالمألوف والمعتاد. الرتابة لا تفضح مواتاً , فثمة صراع احتدم داخل المؤتمر عن جملة من القضايا بدءاً من الاسم وانتهاء بالعقيدة. ربما شكل الصراع عن خيارات شديدة التباين غير ان المؤتمر انتهى إلى ما يشبه صفقة. المساومة لم تحدث بغية بلوغ حل وسط بين الأرثوذكس ودعاة التجديد بل ربما فرضه تباين داخل التيار المنادي بالتغيير نفسه. حفاظاً على الوحدة تبنى المؤتمر تشكيلة قيادية مؤقتة. بقاء الهيئة المؤقتة في مساحة زمانية لا سقف لها يعكس استمرار التباين ومن ثم أزمات المعضلة التنظيمية. تجاوز هذه الأزمة قضية ملحة بغية كسر الحزب حاجزاً نفسانياً وسط الجماهير واكتساب طاقة معنوية شعبية. بدون تجديد طاقاته التنظيمية والفكرية لن يستطيع الحزب الشيوعي استعادة دوره الرائد في رص صفوف اليسار وبناء تحالفات ديمقراطية عريضة. إذا كان منهج غورباتشوف أدى إلى التعجيل بانهيار الإمبراطورية الاشتراكية في غضون فترة وجيزة , فإن ذلك النهج ينطوي على جوانب فكرية لم تندثر تحت ركام الانهيار. غورباتشوف رأى في عبارة (إعادة البناء) ما يوازي ثورة. الرجل رأى كذلك من الغلازنوست - أي الشفافية والمصارحة - قضية لا يمكن إدارة إعادة البناء في غيابها. كلاهما مسألتان ملحتان أمام شيوعيينا على صعيد العمل المؤسساتي الحزبي والتحالف اليساري والتنظير الايديولوجي. القيمة المضافة للحزب لم تكن قاصرة على نضال كوادره فقط بل نابعة كذلك من دوره في صدارة قوى اليسار والديمقراطيين. نجاح الحزب في هذا المضمار لا يأتي من المحاولات البائسة في الحفاظ على تجمع المعارضة المهيض. ربما يكون مفيداً العمل على أكثر من جبهة في وقت واحد , غير ان منح هذه الجبهة المفككة أولوية أثبت فشله نظراً لطبيعة القوى المنضوية تحت مظلة التجمع. هي نفسها اسهمت , إن لم تكن لعبت الدور الأكبر, في تفكيك هذه المظلة. عوضاً عن التركيز على جهود نفخ الروح في التجمع, أمام الشيوعيين واجبات إعادة إحياء تحالف اليسار العريض. من أبرز مؤشرات الربيع العربي ممارسة الفرز السياسي بين القوى , كل في قطره. هناك اصطفافات يمينية وأخرى يسارية في مصر وتونس , كما في سوريا واليمن. كل هذه الاصطفافات تتم وفق رؤى القوى السياسية تجاه وفي فعاليات الثورة ورؤاها المستقبلية تجاه القضايا الوطنية. اجترار النهج بقصور ذات اليد مبرراً للخمول وسط الجماهير ربما ينم عن تمكن الشقاق داخل بنى الحزب أكثر من التعبير عن قصور في الخيال على العمل. الابتكار في هذا السياق ظل سمة ملازمة للإبداع السياسي والتضحيات السخية من قبل الحزب. صحيح أن اليسار في حالة ضمور , غير ان العمل السياسي ينطوي على التفاؤل في أحد ملامحه الأساسية , كما أن الحزب الشيوعي يعاني أزمة الضمور نفسها. الاضمحلال سمة غالبة على اليسار في معظم دول العالم. الحزب الشيوعي مطالب أكثر من غيره بنفض السلبيات الموروثة في تجاربه السابقة. أبرز تلك السلبيات النزعة البابوية باعتباره صاحب القاعدة الجماهيرية الأعرض والنظرية الفكرية الأنفذ. باعتباره الحزب الطليعي يهيمن الشيوعيون على تحالف اليسار. من منطلق زعامة التنظيم الطليعي يفرض سكرتير الحزب بكارزماتيه الطاغية شخصيته ونظرته على التحالف العريض. هكذا تجنح القيادات الأخرى إلى الهروب متهمة الشيوعيين بممارسة ديكتاتورية البروليتاريا على التحالف اليسار. نعم , كل فصائل اليسار تكابد هزالاً , على أن هذا لا يعني تغليب اليأس على الأمل , أو إحلال الإحباط مكان التفاؤل. العمل المعارض يرفض الركون إلى الانهزام , إذ هو جهد مشبع بالرهان في الأصل على الفوز والنصر.