وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الإسلامية السودانية: نظرات في الفكر والممارسة(1)
نشر في الصحافة يوم 15 - 05 - 2010

تعتبر الحركة الإسلامية في السودان جزءا أصيلا من تيار الصحوة الإسلامية الذي عم العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن الماضي، بفعل العديد من العوامل والأسباب التي أدت إلى ظهورها، وفي مقدمة هذه الأسباب المد الاستعماري والتيارات العلمانية الرأسمالية أو اليسارية التي أعقبته. ومنذ أربعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من القرن الحالي مرت الحركة الإسلامية السودانية بالعديد من المراحل التي أثرت على تجربتها في شتى المجالات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وخصوصاً بعد استلامها السلطة في ثورة الإنقاذ عام 1989 والذي كان بداية اختبار حقيقي لمنطلقاتها العقدية والفكرية والسياسية والاجتماعية، شهدت بعده عدة تطورات على المستوى التنظيمي والفكري والسياسي والاجتماعي، كان أبرزها انشقاق الحركة وتوقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. up
- نشأة الحركة الإسلامية السودانية وتطورها
- المصادر الفكرية للحركة الإسلامية السودانية
- رصد أهم القضايا (الداخلية) التي واجهت الحركة ورؤيتها حولها
أولاً: نشأة الحركة الإسلامية السودانية وتطورها
1- ظروف النشأة
كغيرها من الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، نشأت الحركة الإسلامية السودانية في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث كان السودان حينها يرزح تحت حكم المستعمر الإنجليزي وتنشط فيه حركة وطنية سياسية وثقافية تشترك فيها عدة تيارات تمثل ألوان وقطاعات المجتمع المختلفة. الطائفية بكل أنصارها؛ الختمية والأنصار، مؤتمر الخريجين بكل أعضائه من المثقفين والناشطين الوطنيين، بعض الغيورين من السودانيين المنتمين للمؤسسة العسكرية، بعض تيارات اليسار السائدة آنذاك من الشيوعيين والقوميين العرب وغيرهم، ... الخ. ولكن كانت تيارات اليسار الإشتراكي لها صوت عال ووصاية ووهيمنة فكرية مسنودة بمدد من النفوذ الشيوعي العالمي المتوسع في أوروبا وأسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. أكسبها كل ذلك سيطرة واضحة على كثير من الفئات المتعلمة والمثقفة، وبالتالي مثل التيار اليساري سهما متقدما في التأثير على مجريات الأمور الفكرية والثقافية والسياسية في المجتمع السوداني البسيط آنذاك. وقد كان القطاع الطلابي باعتباره قطاعا مستنيرا ونوعيا يمثل فيه اليسار أكثر التيارات نفوذا فيه وتغلغلا. أما المجتمع السوداني نفسه فقد ضعفت فيه أشكال التدين في مستواه العام، فظهرت فيه كثير من مظاهر الفساد والإنحراف بعضها بسبب الأثر الاستعماري وبعضها بسبب الغزو الفكري والثقافي العلماني والإلحادي.
ويمكن الإشارة إلى عوامل إيجابية وأخرى سالبة ساهمت في تعزيز فكرة نشوء الحركة الإسلامية السودانية. وتتمثل العوامل الإيجابية في رصيد تاريخي من المخزون الثقافي والسياسي كالممالك الإسلامية التي قامت في السودان، بما في ذلك المهدية بثوريتها الإسلامية ونظامها الإسلامي، بجانب الدفق الصوفي الذي يميز التدين في المجتمع السوداني. أما العوامل السالبة فتتمثل في الإرث الإستعماري والغزو الفكري والثقافي العلماني والشيوعي. وربما كانت هذه العوامل نفسها سببا في إثراء تجربة الحركة الإسلامية السودانية لاحقا. إذ أن ظهور الحركة الإسلامية بزخمها الديني في ظل الحراك الوطني ضد الإستعمار أكسبها بعدا تحرريا أهم صفاته المقاومة والنضال، وجعلها صاحبة ميزة إضافية عن بقية التيارات الوطنية الأخرى. أما في معاركها الداخلية مع تيارات اليسار الشيوعي والقومي العربي، فقد استطاعت الحركة أن تتقاسم النفوذ معها بل وتتمدد على حسابها داخل قطاع الطلاب وخارجه مستفيدة من فطرة وطبيعة الشعب السوداني المتدينة والصوفية النزعة.
2- بدايات النشأة
إن بدايات الحركة الإسلامية السودانية كانت من داخل قطاع الطلاب عام 1946م، وفي مدرسة حنتوب الثانوية حيث أسس ما عُرف ب (حركة التحرير الإسلامي) بقيادة بابكر كرار وآخرون. وكانت أهداف حركة التحرير الإسلامي تتمثل في مقاومة الاستعمار الإنجليزي وحركة التغريب التي يقودها من ناحية والتصدي للشيوعية والأفكار الملحدة التي تستبطنها من الناحية الأخرى. في المقابل وربما دون علم التيار الأول هناك تيارا آخر كان محسوبا على حركة الإخوان المسلمين المصرية ظهر في وجهين؛ وجه تقوده مجموعة من الطلاب السودانيين الذين كانوا يدرسون في مصر وعادوا يحملون لواء الدعوة الإخوانية ووجه آخر حمله بعض المصريين المتواجدين في السودان من خلال الإحتكاك مع بعض السودانيين الناشطين إسلاميا. إذا مثّل هذين التيارين الطلابي والشعبي دعما قويا للحركة الإسلامية الناشئة في السودان لأول عهدها. ولكن لم يستمر دفع الحركة كثيرا، نتيجة ظهور توجهات لدى بعض المنتمين للحركة لإلحاقها بحركة الإخوان المسلمين الأم في مصر مما أنذر بحدوث انشقاقات في داخلها. وقد دافع كل طرف عن موقفه بالحجج التي تدعم دعوته ولكن كان واضحا جدا أن تباين أسباب وأهداف النشأة للحركتين لعبا دورا كبيرا في تعميق الخلاف بين الطرفين. فحركة الإخوان المسلمين (الأم) في مصر كانت أسباب نشأتها وأهدافها تتجاوز مصر للعالم الإسلامي كله، بينما أسباب نشأة وأهداف حركة التحرير الإسلامي لم تكن لتتجاوز قضايا واقعها المحلي السوداني.
3- المؤتمر الأول للحركة
في 1954م عقد أول مؤتمر للحركة الإسلامية وفيه تم حسم الخلاف بين الطرفين بطريقة توافقية تقول باعتماد والتزام الحركة بإسم (الإخوان المسلمين) وبالمرجعية الفكرية لها، ولكن في المقابل تحفظ للحركة الإسلامية السودانية استقلاليتها التنظيمية عن الحركة (الأم). ومنذ ذلك الحين، قويت اتجاهات الحركة الاستقلالية وإزدادت نزعتها المحلية لها في مخاطبة واقعها بجانب ارتباطاتها الفكرية والسياسية العامة بتيارالإخوان المسلمين (الأم) خاصة والصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي على وجه العموم.
بعد معالجة الحركة لقضاياها التنظيمية الداخلية أخذت تنظر لدورها في المجتمع وقضاياه المختلفة بصورة ايجابية أكثر. فكانت أولى محطاتها في المساهمة بدورها في الحياة العامة هو إدراكها لنفسها كحركة تغيير إسلامي ومحاولتها لإبراز إختلافها عن بقية التيارات السياسية والإجتماعية الأخرى الناشطة. فرفعت الحركة شعارين أساسيين هما: الدعوة لدستور إسلامي مرجعيته الشريعة الإسلامية، ومحاربة الشيوعية والتصدي لها في كل محفل أو موقع تنشط فيه.
في 1955م، كوّنت الحركة كيانا سياسيا عريضا يضم كل التيارات والأحزاب التي تتفق معها في الدعوة للدستور الإسلامي تحت مسمى (الجبهة الإسلامية للدستور). وكانت الجبهة بذلك تمثل كيانا واسعا لهدف محدود، وهو العمل من أجل الدفع بقضية الدستور الإسلامي في واجهة وأولويات العمل السياسي للأحزاب الوطنية. ولأول مرة أبرزت الحركة الإسلامية رؤاها من خلال النموذج الذي قدمته للدستور حول نظام الحكم، ورؤيتها الإقتصادية. فاحتوت رؤيتها لنظام الحكم، تأييد النظام البرلماني مع قدر من اللامركزية الإقليمية ولكن في إطار دولة موحدة. أما اقتصاديا، فقد أبرزت الحركة ميولها الاشتراكية في رؤيتها، مثل الدعوة لإجراء إصلاحات إسلامية في النظام المصرفي، وإلغاء الفوائد الربوية وتبني الصيغ الإسلامية في كل المعاملات المصرفية. في 1957م، ورغم رفض مقترح الدستور الذي تقدمت به الحركة من خلال (الجبهة الإسلامية للدستور)، من قبل اللجنة التي كونتها الحكومة لوضع الدستور، إلا أن مبادرة الحركة الإسلامية مثلّت خطوة متقدمة جدا تجاه فرض نفسها في الساحة السياسية.
4- الحركة بعد انقلاب عبود
في نوفمبر من العام 1958م، حدث انقلاب إبراهيم عبود القائد العام للجيش آنذاك ودخلت البلاد في أول تجربة لها للحكم العسكري. وبعد سيطرة الجيش على السلطة بقيادة الفريق إبراهيم عبود، قررت الحركة الإسلامية مقاومة النظام العسكري الجديد وانضمت إلى (الجبهة المتحدة) التي تمثل المعارضة الوطنية بقيادة السيد/ الصادق المهدي زعيم حزب الأمة. واستطاعت الحركة الإسلامية أن تحقق مشاركة فعالة في مقاومة نظام عبود العسكري مما جعلها رقما سياسيا بالنسبة للأحزاب السياسية الكبيرة؛ الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، يصعب تجاوزه. وقد نجحت الحركة بالتعاون مع الأحزاب المعارضة في إسقاط نظام عبود بواسطة انتفاضة شعبية كبرى في 21 أكتوبر 1964م. بعد سقوط النظام العسكري مباشرة بدأت الحركة الإسلامية تعيد ترتيب صفوفها للاستفادة من الزخم الإعلامي والجماهيري الذي تحقق لها نتيجة مشاركتها الواضحة والفاعلة في معارضة وإسقاط النظام العسكري.
5- تشكيل جبهة الميثاق الإسلامي
نشطت الحركة في رسم دور جديد لنفسها يستصحب واقعها والظرف الذي تهيأ للبلاد، يكون أكثر أثرا ونفوذا في الساحة السياسية والاجتماعية العامة. فشكلت ما عرف ب (جبهة الميثاق الإسلامي)، وهي واجهة سياسية عريضة الهدف منها هو استخدامها في تحريك المجتمع عبر قطاعاته المختلفة؛ الطلابية والشبابية والنسوية والنقابية والفئوية، لصالح البرنامج الإسلامي. ثم ظلت تصورات الحركة حول أهدافها ودورها دون تغيير في كلياته ولكن حدث لها بعض التغيير في رؤاها حول كيفية تحقيق أهدافها في واقعها المحلي. وهو ما يدل على مرونة الحركة وتقبلها للتكيف متى ما ظهر لها ما هو أفضل وأنسب سواء على مستوى شكلها التنظيمي أو وسائلها المتبعة في تحقيق أهدافها، بل أحيانا تعيد ترتيب أولوياتها وفقا لمتطلبات المرحلة. الجدير بالملاحظة والذكر هنا؛ أن نجاح الحركة في طرح نفسها وبرامجها على المجتمع كان دائما ما ينظر له من قبل التيار العلماني الشيوعي خاصة على أنه تحدي مباشر يستهدفه ولابد له من مواجهته والتصدي له. لذا نجد أن وتيرة الصراع بين الطرفين؛ الإسلامي والعلماني، ظلت هي التي تصبغ كل أوجه التنافس السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي بينهما. وسنقف على ذلك بصورة أوضح في أثناء تناولنا لرؤى ومواقف الحركة الإسلامية حول كثير من القضايا التي تعتبر إشكالات وتحديات ظلت تواجه إستقرار ووحدة وتقدم السودان منذ استقلاله وحتى اليوم (أغسطس 2009م).
6- التحالف مع انقلاب مايو
بعد أن أدركت الحركة نقاط قوتها في مواجهة القوى السياسية الأخرى، خاضت أولى معاركها ضدها في انتخابات 1965م واستطاعت أن تحصل على خمس (5) مقاعد برلمانية رغم محدودية القطاعات التي كانت تستهدفهم آنذاك باعتبارهم يمثلون النخب المثقفة وليس الجماهير. ويمكن أن يُقرأ هذا الكسب المتواضع بأنه ما كان ليحدث لولا استخدام الحركة (الإخوان المسلمين) لذراعها السياسي (جبهة الميثاق الإسلامي) والذي منحها فرصة التغلغل بحرية أوسع داخل القطاعات المختلفة وهزيمة اليسار بخطاب فكري وسياسي أكثر واقعية. في 25 مايو 1965م، حاول اليسار بكل أطيافه الشيوعيين والقوميين العرب والإشتراكيين قلب الطاولة على الإسلاميين والأحزاب الطائفية الكبيرة (الأمة والإتحادي الديمقراطي)، بالتخطيط للانقلاب الذي قاده العقيد/ جعفر محمد النميري. مرة أخرى، وجدت الحركة نفسها في مواجهة مع نظام عسكري، ولكن هذه المرة يسيطر على النظام العدو اللدود لها وهم الشيوعيون بدعم من كل قبائل اليسار. ومنذ البدء اتخذت الحركة موقفا عدائيا من النظام وعملت بكل جهدها لإسقاطه، فدخلت في تحالفات مع الأحزاب التقليدية (الأمة والاتحادي الديمقراطي)، بدءا بانتفاضة (شعبان) وحتى وصلت إلى درجة التنسيق العسكري لإسقاط النظام في ما أشتهر بغزو (المرتزقة) في 2 يوليو 1976م. في عام 1977م وصلت الحركة إلى الإيمان بأن المعارضة بشكلها ومنهجها الذي تعتمده لن تستطيع إسقاط النظام، عليه قامت بمبادرة للصلح معه، بموجبها شاركت الحركة في كل مؤسسات النظام الرسمية والحزبية. وتعتبر فترة المصالحة مع نظام مايو أكثر فترة هيأت للحركة فرصا للانتشار المجتمعي والنفوذ السياسي والاقتصادي. فقد (دخل الإخوان المسلمون ميدان العمل الإسلامي الدعوي المنظم من خلال منظمة الدعوة الإسلامية، والعمل الإغاثي الإقليمي والدولي من خلال الوكالة الإسلامية الأفريقية للإغاثة، وعرفوا مفاتيح النفوذ الاقتصادي من خلال حضورهم المؤثر في تأسيس عدد من البنوك الإسلامية والشركات التجارية الكبرى في البلاد، وانفتحوا على العالم من خلال وجودهم في مناصب رسمية في وزارات وهيئات رسمية كثيرة).
وكان عام 1983م يمثل دفعة حقيقية للتيار الإسلامي في السودان حيث أعلن نظام نميري تطبيقه للشريعة الإسلامية في كل البلاد. إذا فقد نجحت الحركة في تحويل النظام لخطها وتبني برامجها الإسلامية، الأمر الذي لفت أنظار العالم بشقيه الاشتراكي والغربي الرأسمالي للسودان وللحركة الإسلامية تحديدا. هذا التحول للنظام جلب له الكثير من الضغوط الداخلية والخارجية، مما جعله ينقلب على الحركة الإسلامية وقادتها وزج بهم في السجون وبدأ حملة لتصفية نفوذهم في مختلف ميادين الحياة. في أبريل 1985م، حدثت انتفاضة شعبية عظيمة أدت لتدخل الجيش وإعلان سقوط نظام النميري وتكوين حكومة انتقالية برئاسة المشير/ عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب وبمشاركة مختلف القوى السياسية والنقابية وبعض الرموز الوطنية لحين إجراء انتخابات في فترة لا تتجاوز عام.
7- إنشاء الجبهة القومية الإسلامية واستلام الحكم
ومن منطلق وعي الحركة الإسلامية السودانية الكامل بضرورة تحويل كيانها التنظيمي الضيق (الإخوان المسلمين) إلى حزب سياسي جماهيري فاعل ومؤثر في الحياة السياسية السودانية، قامت بإنشاء (الجبهة القومية الإسلامية) وهو تكتل جديد يضم بجانب الإخوان المسلمين عدد من القيادات القبلية والاجتماعية. والمفاجأة التي أحرزتها الحركة الإسلامية الجبهة القومية الإسلامية في انتخابات 1986م كانت أن جاء ترتيبها الثالث من حيث عدد المقاعد التي تحصلت عليها، من بعد الحزبين الكبيرين (الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي). ويبدو أن النتيجة التي حصلت عليها الحركة الإسلامية (الجبهة القومية الإسلامية) أهلتها لتكون في موقع منافس وأحيانا موازي للقوتين الطائفيتين التقليديتين. فقد دخلت الحركة المعادلة السياسية للبلاد وصار لها نفوذ يمنحها قوة في تحديد توجهات البلاد ومصيرها المستقبلي، سواء كانت في المعارضة أو شاركت في الحكومة . ولكن هذا النفوذ للحركة لم يكن يرضي الكثير من الأحزاب والقوى الوطنية الداخلية والقوى الأجنبية الخارجية. وقاد هذا الصراع المعلن والخفي أحيانا، بين الإسلاميين والعلمانيين، إلى تشجيع بعض الخلايا المنظمة في الجيش للتفكير في التأثير في اتجاهات السياسة في السودان بحسم الصراع لصالح التيارات التي ينتمون لها. وكانت الحركة الإسلامية الأسبق في الوصول للسلطة من بقية التيارات الأخرى، فخططت لانقلاب 30 يونيو 1989م تحت مسمى (ثورة الإنقاذ الوطني)، بقيادة العميد/ عمر حسن أحمد البشير. وقد استمر حكم الحركة الإسلامية للسودان منذ ذلك التاريخ منفردا لأكثر من ستة عشر عاما (1989 2005) ثم بالاشتراك مع الحركة الشعبية لتحرير السودان من 2005 وحتى الآن.
ثانياً: المصادر الفكرية للحركة الإسلامية السودانية
بدأت الحركة الإسلامية إستقاء منهجها الفكري في أول الأمر من أدبيات الأخوان المسلمين في مصر، ثم لاحقا انفتحت الحركة على أدبيات الجماعة الإسلامية في باكستان والهند. وهي في ذلك لا تختلف عن بقية الحركات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي. ولما لم تكن هناك حساسيات معرفية تمنع قيادات الحركة الإسلامية الناشئة في السودان من التزود المعرفي من أدبيات الحركات الأخرى السابقة لها، أخذت الحركة السودانية تعتمد في مرجعياتها الفكرية على ما يأتيها من الخارج. ولكن يلاحظ على الحركة الإسلامية أنها عندما نشأت كان غالب الذين عملوا على تأسيسها من الطلاب الذين سبق لهم الانتماء للتيارات اليسارية التي كانت تهيمن على الساحة الطلابية في ذلك الوقت. وعليه فقد جاءوا إلى الحركة وهم يحملون بذور تجارب فكرية وتنظيمية مختلفة يتفاوتون في كسبهم عن بعضهم البعض، ولكنهم دخلوا الحركة وهم يتمتعون بزاد معرفي وافر جعلهم أكثر انفتاحا على المعرفة الإسلامية ومعارف الآخر غير الإسلامي أيضا. كل ذلك ساهم في خلق أساس معرفي متين لقادة الحركة، مكنهم من التعامل المعرفي مع كتب التراث الإسلامي بعقل متفتح وواعي. وخلافا لكثير من المسلمين كانت قراءة قادة الحركة الإسلامية الطلاب الناشطين آنذاك توصف بأنها عقلانية ونقدية أكثر منها تلقائية عادية. وأيضا مما يميز قادة الحركة الأوائل أنهم كانوا شبابا أندادا يديرون أمرهم بينهم بالحوار والشورى. فكانت التحديات التي تواجههم في واقعهم تمثل فرصة سانحة لهم لإدارة الحوارات والمناظرات فيما بينهم من ناحية وبين خصومهم من الشيوعيين والقوميين العرب والعلمانيين أو بينهم وتيارات الإسلام الأخرى من السلفيين وأنصار الطائفتين من الختمية والأنصار وغيرهم من الناحية الأخرى. وقد أوصل ذلك الحركة الإسلامية في نهاية الأمر إلى بلورة منهج وفكر ظل في كثير من جوانبه مميزا لها عن غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى. وهناك من يرى أن الحركة الإسلامية السودانية لم تكن تولي الفكر الأهمية المطلوبة وإنما كانت تقدم العمل عليه، مما يجعل كثير من أفكار الحركة هو في الأصل نتاج ونتيجة لمبادراتها في مجال العمل الحركي والسياسي.
وفيما يلي عرض لأهم المصادر الفكرية للحركة الإسلامية في السودان:
1- مرجعيات الدين الأساسية (القرآن والسنة)
تتفق الحركات الإسلامية على المرجعية ولكنها ربما تختلف حول المناهج التي تستخدم لفهم التعاليم واستنباط الأحكام للوقائع المختلفة التي تواجهها. واختلاف المناهج، سعة وضيقا، أو تشددا وتساهلا بالضرورة قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى تباينات واضحة بين الحركات الإسلامية يظهر أثرها ليس فقط في الجوانب الفكرية وإنما أيضا في الجوانب التنظيمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية.
ومن خلال اجتهادات رمزها الفكري د. حسن الترابي؛ تبنت الحركة الإسلامية في السودان فكرة (التجديد) في منهجها الفكري وجعلت منه مدخلا لتحقيق فكرة الفاعلية في الحياة والدين معا. وتقوم فكرة التجديد كما يراها د. الترابي على أن مجال التجديد في الاسلام هو الفكر الاسلامي ولا يشمل الدين، باعتبار أن الدين خالدا ولا مكان فيه للتجديد، والذي يتجدد ويتقادم ويبلى إنما هو الفكر الإسلامي. والفكر الإسلامي هو التفاعل بين عقل المسلم وأحكام الدين الأزلية الخالدة ... فمبدأ التجديد هو السر الذي يميز الحركة الإسلامية السودانية على المستوى الفكري، وفي ذات الوقت هو الذي يضعها في خانة أكثر الحركات الإسلامية جدلا في نظر الكثيرين، المسلمين وغيرهم.
2- البيئة أو الواقع (المحلي والإقليمي والدولي)
تفرق الحركة الإسلامية السودانية في فكرها ما بين مفهوم الدين ومفهوم التدين. فالدين كما يعرفه الترابي هو توحيد بين شأن الإنسان في الدنيا وشأنه في الآخرة، بين الثابت المطلق والمتحول النسبي. ويظل الدين بناء على كل ذلك قائم على رد الشأن الظرفي المتحول إلى محور الحق الثابت. من هنا أيضا برز اهتمام الحركة الإسلامية بالتاريخ وحركته؛ والوعي بالزمان والمكان باعتبارهما عناصر ضرورية لفكرة التجديد في إطار الفكر الإسلامي. يقول الترابي حول أهمية الوعي بالمكان: ( كنا دائما نحاول قراءة الواقع، واستكشاف سياقاته ومصائره. وكذلك نركب متن حركة التاريخ، ونوجهها وجهة دينية). وهكذا ترى الحركة الإسلامية في السودان أن الواقع يمكن أن يمثل في كثير من الأحيان منطلقا لها للبحث في نصوص المرجعية الدينية عن الخطاب الديني الأنسب الذي يمكن أن يقارب بين مثال الدين والواقعة الظرفية الماثلة. ولعل في استصحاب الوقائع الظرفية وما يحيط بها من ملابسات جعل الحركة تبدو في تقييمها للناس والوقائع والأحداث أكثر موضوعية وواقعية مقارنة بكثير من الحركات الإسلامية وغيرها من الحركات العقائدية الأخرى. إذ أن المدخل الأنسب لإحداث أي تغيير في مجتمع ما هو أن يحمل حداة التغيير تصورا عن المجتمع يكون فيه مقاربة موضوعية وواقعية تمكنهم من رسم أوجه وأدوات الإصلاح أو التغيير المطلوب. ولكن مجافأة المجتمع المستهدف والانعزال عنه أو رفض واقعه كليا لن يسمحا بسلامة التشخيص لأدوائه وأمراضه، وبالتالي لن تساعد هذه النزعة الرافضة والمعتزلة من تمكين دعاة التغيير والإصلاح من تحقيق أهدافهم.
3- التجربة الإنسانية (للمسلمين وغير المسلمين)
ظل مبدأ التوحيد هو المبدأ الذي يحكم كل تصورات الحركة الإسلامية السودانية؛ ويعني به القول بوحدة الخالق، وحدة الدين، وحدة الحياة، ووحدة الكون، انطلاقا من كل ذلك كانت الحركة تتجه نحو غاياتها وأهدافها وهي مفتوحة الذهن ومعتصمة بمنهجها الفكري في قبول ورفض الجديد والغريب من الأفكار والنظم والمؤسسات. عليه مثلت التجارب الإنسانية الإسلامية وغير الإسلامية مصدرا معرفيا للحركة ورصيدا إضافيا لها في مسيرتها نحو تحقيق غاياتها وأهدافها في التمكين للإسلام في أرض الواقع المعاش. فقد كانت الحركة تهتم كثيرا بدراسة تجارب حركات الإصلاح الإسلامية السابقة لها دراسة نقدية وموضوعية للإستفادة من إيجابياتها وتجنب سلبياتها، واستخلاص العبر التاريخية والإنسانية من سيرها وما انتهت إليه من مآلات. بل استطاعت الحركة أن تكون أكثر ذكاء حينما استعارت أهم ما كان سببا في تفوق الشيوعيين وهيمنتهم على الساحة السياسية في الأربعينيات، قوالبهم التنظيمية ووسائلهم ومهاراتهم في الاتصال الفردي والجماهيري، بل ودخلت معهم حلبة التنافس وسط القوى الحيوية والفئوية من الطلاب والشباب والمرأة والعمال والمزارعين وغيرهم.
وكان ما أفادت منه الحركة الإسلامية السودانية من الفكر التنظيمي الغربي أعظم من ذلك الذي أفادته من الحركات الإسلامية الأخرى. وقد أخذ البعض بالاعتراض على توجه الحركة الإسلامية في السودان الاستفادة من تجارب الغرب في أسلوب العمل التنظيمي والسياسي، إلا أن د. الترابي قد واجه هذا الاعتراض حيث لا حرج في ذلك طالما أنه يمكن أن يسهم في ترقية حياة المسلمين مع تحقيق المسلم لأصالته وحسن انتقائه لما يأخذ أو يترك.
*أستاذ العلوم السياسية جامعة سنار بالسودان
عن (الشروق نت)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.