حكى لنا الحاج حسن إبراهيم إدريس– مد الله في عمره – أن رجلاً من أهل الجزيرة قال لابنه بعدما حصدا زرعهما، وباعا ما يريدان بيعه من المحصول، وخزنا مؤونتهما: - لنذهب يا بُني لزيارة "أسرارنا"، أي أقاربنا، في البندر سرُّ الابن الشاب أيما سرور بالاقتراح الذي صادف هوىً في نفسه؛ وما هي إلا أيام حتى وجدا نفسيهما تحت أضواء "كهارب البندر"، الذي لم يكن سوى الخرطوم في العهد الاستعماري. لم يكن الأب المكتهل معنياً كثيراً بمباهج المدينة، بل كان جل همه الالتقاء بأقاربه والانغماس في "ونسات" لا ينضب معينها. أما الابن الشاب، فكان شأنُه آخرا، إذ كان الفضول يسوقه إلى التجوال في أنحاء المدينة؛ وكان حين يعود يقص على أبيه ما رآه بأدق التفاصيل. وفي ذات يوم قال لابيه: - رأيت الناس من أمثالنا، يا أبي، يعملون بالأجر اليومي في البناء ويتقاضون المال الكثير آخر الأسبوع. فلو قبلتَ، سنجني بعض المال الحلال. وافق الأب، فعملا الأسبوع الأول واشتريا بعرق جبينيهما كساءين من قماش الدمور، ونعالين من جلد البقر. وعندما طلب الأب من الابن العودة إلى القرية، رد الأخير: - كيف نكتسي نحن ولا نكسو أمي وأخواتي؟ فسكت الأب مُفْحَماً، وعملا أسبوعاً ثانياً اشتريا بعائده كسوة للأم وبناتها. ثم قال الأب: - لنعد يا بني فقد أطلنا المكوث. فرد الابن: - لكن إن عدنا يا أبي زارنا كل أهل القرية لإلقاء التحية، فماذا سوف نقدم لهم؟ رضخ الأب أمام إصرار ابنه، فعملا لأسبوع ثالث اشتريا في نهايته ما تيسر من السكر والشاي والبن والتمر. وحين طلب الأب من ابنه العودة، رد الابن: - دعنا نعمل أسبوعاً آخر يا أبي فنكسب نقوداً نضعها تحوطاً في جيبوبنا، ونسمع رنينها فتشعرنا بالطمأنينة. عندها، كان جواب الشيخ حاضرا وحاسماً: - لدينا ما يكفي حاجتنا من القوت والكساء وإكرام الضيف؛ فلو سعينا لجمع مال فوق هذا سنصبح كفاراً يا بني، هيا بنا نعود إلى قريتنا. فعادَ الأبُ بابنه، غانمين سالمين، إلى القرية. ELRAYAH ABDELGADIR [[email protected]]