عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى خمسينية شهيد الديمقراطية: الرحيل المر وإهمال متعمد .. بقلم: أم سلمة الصادق
نشر في سودانيل يوم 29 - 09 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم
ستمر بنا بعد يومين من اليوم الخميس الموافق الثاني من اكتوبر 2011 ذكرى مرور خمسين عاما على وفاة الامام الصديق المهدي طيب الله ثراه....
لم يعش الامام الصديق طويلا حتى يخدمه أحفاده أو يتمتع بصحبته ولد ..تماما مثلما تنبأ والده الامام عبدالرحمن الصادق ذات يوم ثم أجهش بالبكاء - كما روى لنا الامام الصادق ،الحفيد .فقد كانت حياته الحافلة بجلائل الأعمال قصيرة جدا بقياس الزمن .
مات الصديق الذي ولد في 1911 وعمره لم يتعد الخمسين، وحينما قبضه الله إليه في عصر الثاني من اكتوبر من عام 1961 لم يكن عمر أكبر أولاده أكثر من بضع وعشرين سنة وكان أكبر أحفاده (المرحوم عادل مهدي حسن شريف)في سنته الثانية أو ربما الثالثة لا يعي كيف يمكنه أن يخدم هذا الجد الذي رحل في ريعان الشباب وذروة النضال.
رحل الامام وكل القلوب- به معلقة وكل الآمال- عليه معقودة ، فقد استطاع في زمن جد وجيز بعد رحيل والده المزلزل في مارس 1959 أن يلملم جراحه وجراح الوطن بحنكة الشيوخ وحماسة الشباب ثم يعقد العزم الذي لا يعرف التراخي والحزم الذي لا يعرف التسويف على الوقوف صخرة صلدة في وجه حكم العسكر أعانته ملكات قيادية لا تجارى وإرث مشهود له بقيادة الناس سلما و(وكتين ينكسر المرِق ويتشتت الرصاص) .
ولا يمكن النظر لذلك الدور الوطني المحوري المشهود دون ربط له بما انتهت اليه الوقفة الوطنية الصلبة من نصر شعبي مؤزر على دكتاتورية العسكر الأولى في 21 اكتوبر 1964 والتي وإن أتت بعد موته بثلاث سنوات لكن لا شك عندنا أنه هو من حفر ساسها وبنى أول لبناتها وواهم من يظن أن الثورات تأتي هكذا فجأة دون تحضير إنما الثورات كما الزراعة عمليات تتم في مراحل متعددة ثم تأتي لحظة انبثاقها الميمونة بعد النضج.
عارض الامام الصديق الانقلاب منذ يومه الأول وقد كان في رحلة علاجية خارج السودان عند وقوعه في 17 نوفمبر -1958 رحلة قطعها حالما جاءه النبأ العظيم وتوجه رأسا من المطار الى والده الإمام عبدالرحمن يعتب عليه تأييدهم الانقلاب ببيان ،وقد كانت تلك هي المرة الأولى واليتيمة التي يفعل فيها ذلك فعلاقته بوالده مثلت أعلى درجات بر ولدٍ بوالده بما صار مضربا للأمثال لدرجة أنه اتخذ أصدقاء والده أصدقاء ،لكنه لم يتمالك من قول :(ده شنو يا سيدي العملتوه ده؟) ويروي الرواة أن الامام عبدالرحمن الذي كان في حضرته جماعة من الناس أخذ ابنه من يده الى غرفة جانبية يهديء من روعه ويشرح له لما فعل ما فعله.
ويروي الوالد الحبيب اسماعيل عبد الله الفاضل المهدي أنه راجع حبيبه وعمه ونسيبه- والد زوجه صفوة الكرام مشفقا : "لما عدت قبل اكمال العلاج يا سيدي؟"فرد عليه الامام الصديق بعد أن ضحك ضحكة قصيرة ،بكلمات ما زال صداها يتردد في أذنيه"حال البلد أهم" .لله درك يا صديق فحال البلد أهم عندك من صحتك ومن نفسك..
وإن سألنا عن السبب لوجدنا الإجابة واضحة في بعض خطب الامام الصديق في روايته عن والده الذي أخبره أنه كثيرا ما كان يسأل نفسه لماذا كل هذا الجهد الذي يبذله؟ وهو جهد خالص للوطن كما ثبت أخيرا بالمنحى القومي الذي بدأ ينصف الامام عبدالرحمن ويعترف له بدوره كأب لاستقلال السودان الثاني دون منازع .يقول الامام الصديق أن والده يرجع أسباب هذا البذل اللامحدود لخصلة الوفاء عنده ،فهو يرى أن السودانيين قد وقفوا مع والده-الامام المهدي عليه السلام وقفة لا هوادة فيها حرروا بها السودان من المستعمرين وقال الامام الصديق أن الامام عبدالرحمن كان يشعر بالأسر التام تجاه ذلك الجميل وقد عمل كل جهده ليرد بعضه ويقول الامام الصديق أن ذلك هو عين ما يشعر به تجاه بني وطنه الذين وقفوا أيضا مع أبيه محققين استقلال السودان الثاني مما يفسر لنا النزعة القومية التي طبعت كل مسيرته الوطنية مع قصر مداها الزمني.
كان واضحا للامام الصديق منذ البداية أن إدخال العسكر في الحياة السياسية بلاء عظيم يسيء اليها واليهم
وإن رد الجميل لشعبه وسيلته : استرداد الديمقراطية وهي خير دواء للمشاكل مهما كانت عيوبها كما أن العسكر لا ضمان لوعودهم وعهودهم وقد صدقت توقعاته مثل قراءة من لوح مكشوف .إذ غدر العسكر بعهدهم الذي قطعوه للأميرلاي عبدالله خليل ورفضوا تسليم السلطة في الموعد الذي اتفق عليه فيما بينهم بل صاروا يزينون لأنفسهم ما يفعلون وينفردون بالرأي ويقصون الآخرين وتلك أولى خطوات إثم الانقلابات والانقلابيين. وهذا هو الدرس السوداني الصديقي الأول!
ود اللشقر القلل منام العسكر:
تتبع دور الامام الصديق الوطني ومقاومة العسكر:
أخذ الامام الصديق أولى خطوات تصحيح المسار بأسلوب تقديم المذكرات الى مجلس قيادة الحكم العسكري
فكانت مذكرة الامام الصديق الأولى للعسكر بعد انتقال الامام عبدالرحمن للرفيق الأعلى في 21 اكتوبر1959 يدعوهم فيها الى التحول الديمقراطي وتسليم السلطة للشعب ويطالب الجيش بالرجوع الى الثكنات .
ثم عمد الامام الصديق الى جمع الصف الوطني فما مضت ثلاث سنوات على انقلاب 17 نوفمبر حتى تكونت الجبهة الوطنية التي جمعت كل السودانيين على قلب رجل واحد وكان بيت الأمة مركزا لمعارضة الحكم العسكري و ملاذ الاجتماعات المناوئة للحكم العسكري- المطالبة باستعادة الديمقراطية وسيادة حكم القانون.
فطن الصديق الى أهمية تعبئة الجماهير وتبصرة الأنصار بموقف المعارضة وما تطلبه من عودة للحياة النيابية الطبيعية التي تتماشى مع الكرامة الانسانية وتكريم رب العالمين لخلقه .وبتلك الرسائل المحددة واضحة الأهداف صار يرسل الوفود الى الأقاليم ومعهم المناشير التعبوية شارحا ما ينبغي عمله .
ولم يترك الامام الصديق سانحة الا اهتبلها لكي يُسمع الشموليين أن هناك رأيا عاما سودانيا قويا يطالب بعودة الحياة النيابية فكان الاستقبال الحاشد في بيت الأمة ترحيبا بالرئيس المصري جمال عبدالناصر عند زيارته للسودان ، في 24نوفمبر 1960 تحديا سافرا للحكومة.
كانت المذكرة الثانية الى مجلس قيادة الثورة في 29 نوفمبر 1960 بالاشتراك مع الأحزاب الأخرى وقد ضُمنت المطالب الثابتة بعودة الديمقراطية ورجوع العساكر الى الثكنات ورفع حالة الطواريء..
تلك المذكرات المطالبة بالديمقراطية والمسنودة بالجماهير المستعدة للتضحية من أجل الوطن أجبرت الحكومة على دعوة الامام الصديق لمفاوضات التي اشترط هو أن تكون مع مفاوضين مفوضين وأن تشمل الآخرين وأوضح الامام في جلستها الأولى في 19 نوفمبر 1960 وحتى الثالثة الأخيرة التي انتهت في 12 مارس 1961 أن موقف المعارضة الثابت هو المطالبة باستعادة الديمقراطية وعودة الجيش الى الثكنات ورفع حالة الطواريء وأوضح أن همهم الوحيد هو كيف يحكم السودان ولا يطمعون في شيء آخر وأن عدم صون وحدة البلاد تعني الفشل كما أوضح لهم أن الديمقراطية لا تتطور الا بالممارسة والتطبيق عندما أبدوا تشككا في عودة الفوضى إن سمحوا بعودة الديمقراطية .كان هذا هو الدرس السوداني الصديقي الثاني!
مثل الاحتفال بالعيد الخامس للاستقلال في الأول من يناير 1961أوج النشاط المعارض المتحدي للحكومة وقد خاطبه الامام الصديق في بيت الأمة.
أُهملت المفاوضات بسبب الاستقبالات الشعبية التي وجدتها الحكومة في زيارتها للشمالية مما جعلهم يغترون ويقررون :لا حاجة للتفاوض طالما يؤيدهم 85% حسب زعمهم.
في هذا الأثناء حدث إضراب محدود لعمال السكة الحديد.
كما تم إيقاف السيدين الصادق واحمد وقد كان الامام الصديق أرسلهما في مهام اجتماعية خارج الخرطوم بعد عودتهما من الطواف في ولايتي كردفان ودارفور .
أرسل الامام الصديق تلغرافا شديد اللهجة الى مجلس قيادة الانقلاب يحتج فيه على المعاملة المجحفة للأنصار وايقاف أخيه احمد وابنه الصادق دون وجه حق في 28مايو 1961.
كان الاحتفال بعيد الهجرة حاشدا ووجه فيه الامام الصديق رسائل واضحة للحكومة معلنا انتهاء المفاوضات مع الحكومة وقال فيه:( هذا الوطن ليس ملكا لي ولا لنفر آخر كلنا فيه شركاء ونحن في مجال الوطنية أصدقاء وفي مجال الحقوق شركاء وفي مجال الواجبات أعوان ورصفاء وما أنا الا مواطن مثلكم ألقت عليه ارادة الله وثقة المواطنين مسئولية جسيمة وواجبا تاريخيا يتحتم علي القيام بهما لكن كلكم مسئولون في بلدكم وعليكم ادراك أن سبيل الحق شاق واهمال الحقوق مضيعة لها وأعلن أن المذكرات والمفاوضات لم تجد وعلينا من خلال العمل السلمي الاجتهاد حتى نحقق حريتنا من خلال الارتباط بالميثاق الوطني الذي كانت قد توافقت عليه القوى السياسية السودانية.كان هذا هو الدرس السوداني الصديقي الثالث.
بعد تعامل الحكومة العنيف مع أحداث الأبيض والتي عُذب فيها محامٍ ترافع عن متظاهرين في الأبيض أرسل الساسة برقيات احتجاجية اعتقلوا على إثرها (اعتقال عبد الله خليل والأزهري ،أمين التوم وآخرين وارسالهم الى جوبا)ورسالة لفت نظر شديدة اللهجة للامام الصديق في 11يوليو1961.
دحضا للشائعات وإثارة البلبلة أصدر الامام الصديق منشورا للأنصار ليطمئنهم ويطلب منهم عدم الالتفات للشائعات وقد حضروا للعاصمة سيلا متدفقا للوقوف معه في محنة ايقاف السيدين احمد والصادق واعتقال الساسة وطلب منهم العودة لزراعتهم والتمسك براتبهم وصلواتهم والصبر فأطاعوه وعادوا الى ديارهم رغم ذكرهم له أنه ليس هناك ما يطمئنهم.
وفي ظل ذلك الموقف المحتقن أتى موعد الاحتفال بمولد الرسول (ص) والذي درج السودانيون على الاحتفال به والأنصار من ضمن بقية مواطنيهم يحتفلون بالمولد النبوي في خيمتهم يعظمون الرسول الكريم بالمديح والطار والأشعار وفي ذلك اليوم 21أغسطس من عام 1961 كانت معظم وفود الأنصار الذين أتوا للإطمئنان على الامام الصديق وما حدث من اعتقالات للساسة قد عادوا الى مناطقهم بناء على توجيهات الامام ولم يبق إلا ربع العدد الذي حضر وقد كانوا يستعدون للرجوع بعد حضور زفة المولد - ولمزيد من الحرص على تجنب الفتنة كان الامام الصديق قد أمر الأنصار الضيوف بعدم العودة من بيت المهدي القريب بعد تناول وجبة العشاء الى خيمة الأنصار في شكل صفوفهم المعروفة وهندامهم المعروف وعليهم العودة بغير نظام تجنبا لاستفزاز الحكومة، لكن الحكومة كانت لها ترتيبات أخرى وقصدت التهجم عليهم لتخويفهم بالطريقة التي سنأتي على ذكرها أدناه..
جور العسكر والرحيل المر:
يروي ابنه الأكبر- الامام الصادق أن مشهد وفاة والده الامام الصديق كان أشبه برواية أو تمثيلية من كونه حادثة واقعية ويقول والعبرة تخنقه أن والده أصيب بما تم تشخيصه ذبحة صدرية في يوم السبت 30 سبتمبر 1961 أي بعد اسبوعين فقط من حوادث المولد التي كانت في 21أغسطس 1961 و التي حاصر فيها جنود الحكومة خيمة الأنصار في المولد فقتلوا منهم اثنا عشر شهيدا وقتل ثمانية من الجنود وخلفت المواجهات عددا كبيرا من الجرحى من الجانبين ، وكانت حوادث المولد إثر الموقف المحتقن الذي فصلناه بين الجبهة الوطنية التي يقودها الامام الصديق في جانب في مواجهة حكومة نوفمبر العسكرية من الجانب الآخر .وقد كان الامام الصديق ومن معه يطالبون الحكم العسكري بالتراجع من الطغيان واقامة الانتخابات والتحول الديمقراطي .
في ظل ذلك الموقف المنذر بالمواجهات فكر بعض قصيري النظر من طرف الحكومة في توجيه رسالة تهديدية للامام الصديق ومن خلاله لجميع المعارضين وأنه قد يجدي استخدام العنف لتخويف الأنصار بخسائر قليلة بذلك الهجوم المحدود في خيمة المولد ومن بعدها يدين لهم الأمر ويصفو لهم الدهر. وما علموا –والانسان كما وصفه ربه " ظلوما جهولا" أن الأنصار لا يخيفهم الموت فهم من نفر يجعلون الموت في سبيل الله والأوطان غايات مرتخصة يبذلونها مثل شربك الماء الزلال ويروون في ما تتناقله أجيالهم كابرا عن كابر من موروثات تتم عبرها تنشئتهم الاجتماعية وتربيتهم أنه في المهدية كان أهلهم يتمنون للعريس في ليلة عرسه الموت برصاصة في الصدر(يا الله بيت فقر ونقر ورصاصة في السدر- أي يتمنون للعريس حياة متقشفة زاهدة تلهمها طبول الحرب وشجاعة استقبال الموت ! ). فكان حصاد تلك التربية المزكية للجهاد في سبيل الله، أن قابل الأنصار اعتداء العسكر وجلل الرصاص مثل آبائهم والجدود في المهدية الأولى، بالصدور العارية وما توفر لهم من عصي وبعض الأسلحة البيضاء فهجموا مقبلين لم يدبروا –حاشا ما جروا- بل فر جند الطاغية الذين ندموا على ما فعلوا بعد فوات الأوان فطفق الأنصار يدفنون شهداءهم ويضمدون الجراح ويجمعون الأسلحة النارية التي تركها الفارون وسلموها لقيادتهم.
لولا حكمة الامام الصديق في ذلك الوقت المفصلي وتوجيهه الحازم بالكف عن القتال في ذلك اليوم الأغبر لطي تلك الصفحة السوداء التي قّتل فيها أبناء الوطن بعضهم بعضا إذن لاستلم الأنصار الحكومة قسرا من ساعتهم ولربما سالت الدماء أنهرا.
تم احتواء ذلك الأمر ووجه الامام الأنصار باحتساب الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ومطالبة الحكومة بتحقيق عادل ينصف المعتدى عليهم ويحقق العدالة وتم تشييع الشهداء في اليوم الثاني وخاطب الامام موكب التشييع مذكرا الأنصار : ان كياننا هذا جامع ،لنبذ فوارق الطرق :لنكون مسلمين ،وفوارق القبائل: لنكون سودانيين ،نصمد عند المحنة، ونعفو عند المقدرة .كان هذا هو الدرس السوداني الصديقي الرابع.
جعل الامام يقلب أمره بين أمرين أحلاهما مر: إما المواجهة وما فيها من نتائج يكون بها القاتل سوداني والمقتول أيضا سوداني وهذا ما لا يفرح صديق ولا يغيظ عدو ،أو الصبر المر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا وما فيه من أذى للنفس وتقاعس عن مهمة التناهي عن المنكر .
تلك الحسابات من بعد المواجهات التي حدثت في المولد ، خلفت في قلب الامام غصة أعقبتها تلك الذبحة التي أخذته ..ويقول الصادق :(في يوم الاثنين 2اكتوبر1961 قضى الامام الصديق نهاره يغالب الألم )وفي عصر نفس اليوم طلب ابنه الصادق ليمثل أمامه حضر الصادق والغرفة التي يرقد بها الامام حاشدة بالأطباء والأسرة والأنصار قال لابنه أكتب عني هذه الوصية فسأموت اليوم وقد كان حاضر الذهن صافيا مما أثار دهشة الأطباء، لأن الألم في مثل هذه الحالات غير محتمل قال الامام الصديق لابنه يوصيه (لا نكن عداء خاصا لأحد ليس لي مطلب خاص مطلبنا مطلب البلاد قاطبة تحكم بالشورى واحرصوا عليها مهما كلفكم الحرص). كان هذا الدرس السوداني الصديقي الخامس. ثم أوصى بمجلس شورى يدير الشأن الأنصاري حتى تنقضي الظروف الماثلة وعندما (تلتفتوا لأمر الامامة يكون ذلك عن طريق الشورى بقرار الأنصار) (الدرس الصديقي السوداني السادس).هنا حاول الأطباء التدخل لمنعه من الكلام لكنه استمر قائلا :ان حديثي ليس فزعا من الموت هو واجب علي ومسئولية ثم أوصى بخصوص الدائرة وحقوق الورثة وتقوية علاقات الأسرة حتى انتهى ثم طلب أن يقرأ الراتب وعندما انتهى الراتب رفع يديه بالفاتحة معزيا ابنه قائلا (أحسن الله عزائك في أبيك )ثم قال دعوني الآن ارتاح ورقد فصعدت روحه الطاهرة الى بارئها –فسلام عليه في الصديقين.
وكما وصف الامام الصادق هذا أشبه برواية على خشبة مسرح اذ يندر أن يحدث مثل ذلك التقدير الدقيق للزمن كأنما اتفق الامام الصديق مع عزرائيل متى يقبض روحه ..و"كل نفس ذائقة الموت" ف"إنا لله وإنا إليه راجعون"..
قبل أن نطوي هذا الملف نود أن نذكر أ نفسنا والناس أن علينا جميعا أن نكون مثل الصديق ووالده عارفين بفضل بعضنا بعضا وأنه قد حان زمن الاعتراف جهرا بدور هذا الكيان وقادته دون أن ينقص ذلك من أدوارنا أوأعمالنا شيئا !
في هذا السياق أراد المرحوم الدكتور محمد سعيد القدال أن يشركنا دهشته في مقدمة كتابه المسمى(لوحة لثائر سوداني) يقول القدال حينما أرادت جامعة الخرطوم في 1981 الاحتفال بالذكرى المئوية لاندلاع الثورة المهدية لم يكن في مكتبة الجامعة ولا كتابا واحدا مخصصا لدراسة سيرة المهدي بينما وجد في المكتبة ما يزيد عن أربعين كتابا عن غردون !
كذلك لم يلتفت الناس الى الدور العظيم الذي لعبه الامام عبد الرحمن في تاريخ السودان الحديث الامؤخرا في الاحتفال بالعيد المئوي لذكرى الامام عبدالرحمن عندما اكتشفت الأقلام السودانية التي أرادت تخوينه أن دراسة حقائق التاريخ أخبرتهم بالعكس تماما ..
لكنا نقول أن الامام الصديق ناله قسط أكبر من ذلك الاهمال خاصة وأن رسالته التي مات من أجلها شديدة الخطورة على عروش الطغاة والمستبدين فقد نادى بالديمقراطية والشورى من داخل دوحة الاسلام - الدعوة التي تجردهم من أفضل وأفتك أسلحتهم –وهي التذرع بأن الديمقراطية غزو ثقافي وليست قيمة اسلامية أصيلة.
ونقول : أنه قد آن الأوان لاسترجاع الدروس السودانية الصديقية التي ذكرتها متناثرة في ثنايا هذا المقال للاستفادة منها لخير هذا البلد خاصة ونحن نتنسم نسائم الحريات ونشهد الحركات المطالبة بالتغيير الديمقراطي و يحق لنا ولمحبي الامام الصديق والأنصار وكل السودانيين أن يذكروا ذلك الرجل الذي قدم روحه فداء للحرية وماله وجهده وولده جهادا في سبيل الديمقراطية وكانت وصيته التي تركها هي مطلب وحيد سماه مطلب الأمة قدمه وهو يحتضر على فراش الموت:احرصوا على الديمقراطية مهما يكلفكم الحرص.ويكون برنا له هو :تحقيق هذا المطلب الوحيد.
وسلمتم
umsalama alsadig [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.