ما رأيت باطلاً أشبه بحق ، ولا كذباً أشبه بصدق من حديث ياسر عرمان ، الأمين العام للحركة الشعبية ( قطاع الشمال ) في الندوة التي أقامها للسودانيين في منطقة واشنطن ، فهو يتحدث إليك عمّا يحدث في السودان من نزاعات سياسية ، وظواهر اجتماعية ، وحروب لا حديث من يطرح رأياً يحتمل الخطأ والصواب ، ولكن حديث المسلّمات التي تواترت الأخبار بصحتها ، فلستَ في حاجة إلى تمحيصها أو إعمال الفكر فيها ، ويلقي إليك الخبر ، وقد سمعه كغيره ، كأن راويه ثقة صدوق قد تواطأت الأمة على قبول أخباره ، كما يصف لك الحدث السياسي أو المشهد الحربي ، كأنه شارك فيه ، أو وقع أمام بصره . اتسم حديث الأمين العام للحركة الشعبية في هذه الندوة بصفتين اتّفق العقلاء على ذمهما : الكذب الصُّراح وفساد المنطق . أمّا الكذب الصراح فأبينه ما رواه عمّا حدث في جنوب كردفان والنيل الأزرق ، إذ برأ الحركة الشعبية من أي دور في الحرب الدائرة فيهما ، وألقى اللوم على المؤتمر الوطني ، وعزا أسبابها إلى رغبة المؤتمر الوطني في إشعال الحروب ، وتدمير المنطقة وتطهيرها من الأعراق التي تقطنها ؛ لأن أهلها لا يشبهون المؤتمر الوطني ، ولا يقاسمون أهله ( الجلابة ) العرق والثقافة والدين واللغة ، فالحرب مبيّتة ، والمؤتمر الوطني يريد أن يبث الكراهية بين أبناء الوطن الواحد ، وأن يستعلي على الأعراق غير العربية ، ويحرمها حقها الكامل في المواطنة ، والمساواة في الحقوق والواجبات ، فهو الوبال والداء العضال ، ولا خلاص للبلاد إلا بالتخلّص منه . ذكر ياسر عرمان أن الجبال كلها - جبال النوبة - تحارب الحكومة حتى الجبال الشرقية ، وأهلها مسلمون ، لم يشاركوا في حرب من قبل إلا أنهم هذه المرّة آزروا إخوانهم وأمدوا إخوانهم في الحركة بآلاف المحاربين الأشاوس المتمرسين على القتال ، وحذّروا الحكومة أن تنازلهم في ساحة الوغى ؛ لأنها تعلم أنهم أولو قوّة ، وأولو بأس شديد ! وذكر أيضاً - عفا الله عنه - أنّ الحكومة ليس لديها من يقاتل ، أو يدفع عنها هجمات جيش الحركة الشعبية ، فقد دفعت بآلاف الجنود في هذه الحرب ، ولكنهم هربوا وارتدوا على أعقابهم ، ليس جبناً ولا خوفاً من الموت ، ولكن كراهة أن يقاتلوا إخوانهم المهمشين المظلومين الجياع أو كما قال ! بعد هذا الكلام الذي سُرّ به المعارضون ، وعلت به معنويّاتهم ، وضجت به أصواتهم ، وصفقوا له ، قال ياسر عرمان: إنّ جيش الحكومة قتل وشرّد في جنوب كردفان نحو ربع مليون شخص ، ومنع إقامة المعسكرات ، وأجبرهم على الاستسلام أو الموت جوعاً ؛ وذلك ما اضطره إلى دعوة الولاياتالمتحدة إلى التدخل لحماية العزل من غارات جيش الحكومة ! الأمين العام للحركة الشعبية يلفّق القصص ، ويسرّج الأحاديث غير مبالِ أستقامت أم نقض آخرها أوّلها ، فغايته تشويه سمعة المؤتمر الوطني - وما أبرؤه - وإسقاط النظام ولو كان الشيطان له ظهيرا ، فقد ذكر أنّ بعض الأسر في الخرطوم بلغ بها الجوع والمسغبة حدّاً جعلها تبيع أطفالها ! فبكت بعض الحاضرات ومسحت دموعها بكف مخضوبة ، وساعد تنوء بما تحمل من الذهب ، و لعنت هذه الحكومة التي يبيع شعبها اطفالهم ليأكلوا ، ومع ذلك فقد ضنت ولو بقليل من هذا الذهب لتنقذ به هؤلاء الجياع ! ولم ينس - عفا الله عنه - أن يذكر أنّ الحالة الاقتصاديّة المتردية ألجأت النساء إلى البغاء ، فكثرت البغايا ، وازداد عدد الأطفال غير الشرعيين ، وما ملجأ المايقوما ببعيد ! أما فساد منطقه فأبين الأمثلة عليه أجوبته عن سؤالاتي له في الندوة وهي : 1- شهدت أمام لجنة من الكونغرس بانتهاك الحكومة لحقوق الإنسان ، وتكلّمت عن مساويء الحكومة ما شاء الله لك أن تتكلّم ، ثم طلبت من الولاياتالمتحدة أن تتدخل لإسقاط النظام ، فمن الذي فوّضك وأعطاك الحق أن تتكلّم باسم الشعب السوداني ، وتطلب من بلد أجنبي بالتدخل في بلاده ؟ إذا كنت تعادي الحكومة ولا يتوقع منك أن تستأذن منها في اتّخاذ هذا القرار فهناك أحزاب معارضة وقيادات سياسيّة تاريخيّة فلماذا تجاوزتهم وانفردت بقرار الدعوة إلى التدخل ؟ قال ياسر عرمان مجيباً ومبرراً دعوته إلى التدخل الأمريكي : إنّ الرئيس الإيراني الآن في الخرطوم ، وإنّ إيران تموّل التصنيع العسكري في السودان ، وإنّ اسرائيل دخلت شرق السودان وضربته ، ثم سخر من قول الحكومة إنّها تحتفظ بحقها في الرد ! انظر إلى هذا المنطق الفاسد فهو يجعل زيارة الرئيس الإيراني ، وتعاون إيران مع الحكومة السودانية ومساعدتها لها في التصنيع الحربي - وليس بصحيح – كدعوته إلى تدخل أمريكا عسكرياً في السودان ، كما يسمي العدوان الإسرائيلي على شرق السودان تدخلاً يبرّر به لأمريكا أن تنتهك سيادة بلده وتسقط النظام فيه ! ولمّا بان له عوج منطقه وأنه لم يجب عن السؤال قال : إنّ الحركة الشعبيّة ، وأنا أمينها العام ، فوضتني أن أدعو الولاياتالمتحدة إلى التدخل . قال ذلك وكأن الحركة الشعبية تمثل الشعب السوداني ، أو أنّ السودان ضيعة من ضياعها تتصرّف فيه كما تشاء . 2 – يزعم إعلام الحركة الشعبية أنّ جيش الحركة يتقدّم نحو الخرطوم لإزالة حكومة المؤتمر الوطني ، وأنّ ثورة المهمشين ستقضي على المركز لتقيم دولة اتحترم فيها الإثنيات والتنوع الثقافي ، وتقوم فيها الحقوق والواجبات على مبدأ المواطنة ، كما زعمت أنت أنّ الحكومة ليس لها مقاتلون ، فإذا كان الأمر كذلك ، فما الداعي للاستعانة بدولة أجنبية ؟ لما ذا لا تصبر حتى يتسقط جيش الحركة الحكومة فلا تتهم بالخيانة الوطنيّة ؟ قال إنه إنسان وطني ، وإنّه يرى أنّ التدخل الأجنبي من أجل إنقاذ المهمشين الذين يتضوّرون جوعاً لا يطعن في وطنيّته ، وأنّ أيّ نظام سياسي ولو كان دولة أجنبية أو الشيطان ، خير من حكومة المؤتمر الوطني ، وقد ذكرني هذا ما يروونه عن المعارضة الليبيّة أيام حكم الملك إدريس السنوسي ، فقد كانوا يهتفون : إبليس ولا إدريس ! فأبدلهم الله بإدريس من لا يصلح إبليس أن يكون تلميذاً صغيراً في حلقة درسه ! 3- كلّ دولة تدعى إلى التدخل في شأن دولة أخرى غزواً ، أو تتدخل هي عدواناً دون أن تدعى ، فلابد من ثمن يدفعه الداعون إلى التدخل ، أو منفعة تراها هي تبرّر لها هذا التدخل ، فما الثمن الذي عرضته الحركة الشعبية على الولاياتالمتحدة لتتدخل ؟ أعلم أنّ ياسر عرمان لا يملك ثمناً يقدّمه إلى الولاياتالمتحدة ، وليس صنّاع القرار فيها بهذه البساطة والسطحيّة في التفكير فيستجيبوا له ، فهم أعلم بوزنه ووزن حزبه ، ولكني أردت بالسؤال أن أبين أنه يتاجر ببلاده ويرهنها للأجنبي . لم يكن جوابه غير ما أجاب به عن السؤال السابق . 4- تُكثر الحركة في خطابها السياسي من الحديث عن الهامش والتهميش والمهمشين والمركز ودولة الجلابة ، ويلاحظ أنها حين تتحدث عن المهمشين لا تعني بهم إلا قبائل النوبة في جنوب كردفان ، والقبائل غير العربية في دارفور ، والقبائل غير العربية في جنوب النيل الأزرق ، أما القبائل العربية في هذه المناطق و قبائل شمال السودان ووسطه فإنما هم ( جلابة ) توارثوا حكم السودان ، وعاثوا فيه فساداً واضطهدوا القبائل الأخرى ، فهل التهميش في خطاب الحركة السياسي حالة أم عرق ؟ وهل مصطلح الجلابة مفهوم أم عرق ؟ يبدو أن الأمين العام للحركة ، وهو جلابي ( جعلي ) يشعر بهذه النعرة العنصريّة ، ولهذا لم يكن جوابه قاطعاً في نفي العنصرية ، ودعوة الكراهية المصاحبة لها ، إلا على استحياء وبلغة الساسة الباردة ، حين ينفون خبراً يعلمون صحته . الذي يتابع كتابات شيعة الحركة الشعبية في المنبر العام لموقع سودانيزونلاين لا يساوره أدنى شك أن الحركة الشعبية حركة عنصرية هدفها تدمير أهل الشمال وتدمير ثقافتهم ، وأنّ الولاء والبراء عندها يقوم على العرق والجغرافيا ، وأنك إذا كنت من أهل الشمال فأنت جلابي ، لا حظ لك في الانتماء إلى طائفة المهمشين الشرفاء ، ولو كنت ممن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء . همست في أذن ياسر عرمان حين سلمت عليه بعد المحاضرة وقلت له : أنت والدكتور منصور خالد وغيركما من الجلابة كنتم سبباً في قبول الشماليين الحركة ، بل قبول العالم العربي ، فكيف تقبلون أن توجه الآن حرابها إلى أهليكم ؟ لم يجد فرصة للإجابة فقد شغله السلام عن الإجابة . وأختم حديثي هذا بتقديم أجزل الشكر للأخ الكريم الأستاذ عمر قمرالدين ، فقد كان حازماً في إدارته للندوة ، منصفاً في توزيع فرص النقاش ما استطاع ووسعه الزمن ، لم يرخ أُذنه إلى الغوغاء يشيرون عليه أن يسلك غير سبيل الرشاد ، كما لم يستمع إليهم حين قاطعوا حديثي طالبين مني أن أكف عن الحديث ؛ لأنه لا يتفق مع أهوائهم السياسية ، وقد اعتادوا على هذا السلوك في كل ندواتهم ، فيجدون الاستجابة من مدير الندوة ، ولكن هذه المرّة لم يجدوا في مدير الندوة ما يبتغون ، فهو صاحب شخصية قويّة وقدرات متميّزة عصمته عن ذل التبعيّة . Hashim Muheldein [[email protected]]