(1) كنا قد انتهينا في مقال سابق إلى دعوة التيارات الإتحادية إلى تقوية همم السعي بالخير بإستنهاض غاشيات الغيب من ذكريات تستقوي بها همم الإصلاح، وعدها غيثاً نستنبت به أرض الحركة الإتحادية الخصبة لتربوا و تزدهر وتنمو ويزداد اخضرارها نُضرة ونفعاً بإذن الله، فوصلاً لما انقطع وعوداً على ذي بدئ فإن الحركة الإتحادية بُنيت على التيارات ومجمع خيارها الديمقراطي كان لبه هو وجود هذه التيارات و فعاليتها، وهي تمثل غالب التوجهات الفكرية و الإيمانية في البلاد، فكانت صورة مصغرة للوطن الكبير وتعدده إثنياً وعرقياً وثقافياً ودينياً، لذلك لست مدعياً إذ أقول أن تجربة الحزب الإتحادي الديمقراطي كانت فريدة في تلبية رغبات الشعب وأقلمة الديمقراطية الصالحة مراوحةً بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية العددية والليبرالية. (2) تنادت الدعوات لتراص المنظومة الإتحادية و انخراطها في نشاط مُجتمع تحت سقف واحد و في إطار مؤسسي واحد، و لم شمل كل هذه التيارات وفق آلية تضمن للحزب هيبته وللتيارات مقامها، و الترتيب لعقد مؤتمر – استثنائي- يسترشد بقيم الشورى و التفاكر للخروج بإستراتيجية العمل خلال الزمان القادم، ويستهدي أعلام الفكر لتعزيز الدور المفصلي للحزب في هذه المرحلة الهامة من تاريخ البلاد؛ وهذه الدعوات تأتي متسقة و جهود التيارات الإتحادية المباركة، و رعاية مباشرة من صاحب السيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني – رئيس الحزب، والتجمع الوطني ومرشد الطريقة الختمية - حفظه الله. (3) هذه الجهود كلها جاءت وتنامت و الحزب يعيش في شباب جديد ونشاط مبارك، إذ أن جماهيره استطاعت أن تخرجه من (شُبهة) الركود بعد التعاطف و التفاعل اللا مسبوق الذي وجده حيال عودة السيد رئيس الحزب؛ مرافقاً لجثمان نائبه الأول ورأس الدولة السابق سيادة مولانا السيد احمد الميرغني رحمه الله إذ تداعت الجموع الوفية و الجماهير المليونية معزيةً و متعاطفة ومجددةً لعهد الوفاء و الولاء الواعي للقيم والمبادئ، واستمر هذا التعاطف والتفاعل –من بعد - تأييداً للحزب و قيادته و المراهنة عليه في حمل أحلام وطموحات الشعب و الأمة، والتعبير عن موقفها حيال الظروف السياسية الداخلية والخارجية الراهنة؛ هذا التأييد الشعبي – المهيب- زاد من إصرار القيادة وأزكى من دواعي لم الشمل استجابةً لمتطلبات المرحلة القادمة، وإنه لتثبيت من رب العالمين، له الحمد والفضل والمنة. (4) ولأن الوطن أولا -كما يقول مولانا السيد رئيس الحزب-؛ كانت المبادرات المتعاقبة من الحزب هي رائدة العمل الوطني في السياسة السودانية، ولأن الحزب مرآة الوطن كان التناغم بين الموقف على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الحزبي مداً من المبادئ التي قامت على أصول القيم الهادية المستمدة من تجارب الشعب و أعرافه النبيلة، لذلك حينما نردد مع مولانا السيد محمد عثمان الميرغني – أن الراية الني رفعها الزعيم الأزهري لن تسقط- فإننا نعي تماماً أن راية الأزهري –رحمه الله-، أكبر من أن يختصرها لون سياسي واحد أو ان يختزلها فكر وطني واحد و أكبر من أن يشغلها همٌ عن هم، فهي راية العمل الوطني المخلص والصادق وراية الحركة الإتحادية المعطاءة كواجهة للشعب الطيب النبيل وراية حلم النماء و الرفاهية لكل بني السودان و إنها لقِوام وطن يسع الجميع، لذلك فإن الوطن أولاً، وأولية الوطن إنما هي أولوية لمبادئ الحزب، فأولية الوطن في مبادرة مولانا الميرغني للوفاق الوطني وأولية الوطن سلام الشرق ودعم نيفاشا وأولية الوطن مبادرة توطين العدالة وأولية الوطن في احترام سيادة البلد والموازنة بين العدالة والسلام وأولية الوطن في الدعوة إلى التحول الديمقراطي و رفض كل صنوف التجبر والطغيان، وأولوية الوطن في رفض إهانة وإشانة السودان، وهذه الأولية لا تتعارض أبداً مع تناغم العمل الداعي إلى لم الشمل الداخلي ومسارعت خطوات الوفاق والخير لإبهاج الجماهير الإتحادية والأمة السودانية، ولكنها إيمان بالدور الوطني والتاريخي في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الأمة والحزب، وتحملٌ للمسؤولية الكاملة تجاه الوطن كعادة قيادات الحركة الإتحادية المباركة. (5) تسببت الظروف الطارئة خلال العقدين الماضيين إلى تعامل وتراتيب موافقة لها، فكانت القرارات المؤسسية تحمل هذا الطابع –الطارئ- من العمل مثلها مثل غالب التنظيمات السياسية في الأحداث المماثلة، فتحمّل الهرم القيادي ضرر مسؤولية المجابهة والمفاوضة وفق معطيات محددة وبآليات منطقية وفق الواقع السياسي والأمني حينها، و في إطار التفاعل الطبيعي مع هامش الحرية المتاح والتناغم مع السعي نحو توحيد جبهة البلاد الداخلية، انتظمت التراتيب للمؤتمر الإستثنائي و مضت المساعي في اجتماعات مباركة لمولانا السيد رئيس الحزب بوجهاء الحزب و مساعي أخرى لوجهاء الحزب ترتيباً للصف الحزبي، ولعل هذه الأيام تبشر بباكور ثمار هذه المساعي المباركة. (6) إني كمحب للصوفية السليمة و ملتزم لمبادئ الحزب أجد في التوافق بين مبادئي الصوفية المحبة للسلام و الحق و الوحدة والجمال و بين أصول الحزب الإتحادي دفعةً قوية للإنعتاق من إسار تاريخ مرحلي قديم ينتمي لما قبل ولادة الحزب المبارك، ربما كان للجيل الأول قدرة على الميز بين التيارات المتفرعة عن الأحزاب الأولية التي قُبرت بإعلان الحزب الإتحادي في القرن المنصرم، ولكن الجيل الذي يتعاطى مع الحزب اليوم في - منظوري الشخصي- ذابت فيها كل هذه التيارات فأصبحت وارثة لمجموعها مستوعبة لتنوعها منضبطةٌ بأصولها ومقوماتها، فتوحد الفرق في واحد مانع قوي، فأنا واثق أن الكثيرين كختمية ومتصوفة مع ولائهم التام لمولانا السيد محمد عثمان –حفظه الله- يحملون في القلوب حب الزعيم الأزهري وفي العقول مبادئه و أفكاره وكذا الشريف الهندي و على ذلك كافة رموز الحزب الإتحادي التاريخية والمعاصرة، ذلك لأني مقتنع ومعتنق للقول بأن الإلتقاء والوحدة كانا لقاء مبادئ و وحدة جهود، ولم يقوما على استراتيجية العقل و النفوذ أو الفكر والقوة أو أي منظور مصلحي "سطحي"، وإن اشتُبه ذلك فإنما هو نتيجة تكميلية لا حقيقة أصلية وقطعاً إنه لم يكن هدفا في ذاته، والنظر إليهما بهذا المنظور الضيق إساءة لرموزهما ابتداءً من مولانا السيد علي الميرغني -رضي الله عنه- و الرئيس الشهيد اسماعيل الأزهري و السيدين : مولانا السيد محمد عثمان حفظه الله و الرئيس الراحل مولانا السيد أحمد الميرغني –رحمه الله- و كذا الشريف حسين الهندي –رحمه الله- و بقية العقد المبارك من زعماء الحركة الإتحادية المكرمة، وإنه لعمري إساءة للقامات السامقة في تاريخ هذا الحزب الناصع البياض، ولست مدعياً و لا متكلفاً إذ أقول إن الإلتزام الحزبي يجعل الوحدة مُسَلمة. (7) إذاً فإننا الآن ندعوا كافة الأطراف الفاعلة في الحزب الإتحادي إلى مزيد من السعي في مساعي الوحدة و مزيد من الرقي في مراقي الوفاق فإنما الفرقة درك و إنما النزاع فشل فطاعة رسول الله- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - تلزمنا الصبر على المحن على قلب رجل واحد، ذلك أن الله قال لمن هم أكرم منا [وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46} ، فما بالكم بمن هم في هذا الزمان المتباعد عن سبل الهدى إلا من عصم الله!، وكلنا أمل يكفينا ما ظلت تنادي به قيادتنا من ضرورة إعلاء المصالح العامة على غيرها، و قناعتنا الصوفية تدلنا على أن السعي للمصالح الخاصة إنما هي الجيفة التي نتركها – كلنا- لكلابها، و عليه فإننا ما زلنا نطالب و نتمنى على كل ذي رأي أن يثمر في اتجاه لم الشمل مع اللجان المختصة، و أتمنى على كل رموزنا وعلى كل جماهيرنا أن نعمل لضمان حزب اتحادي واحد في الإنتخابات المرتقبة. (9) بل لسنا نتمنى هذا فحسب بل ونتمنى لكل احزاب الوطن التوحد و التراص الداخلي، فإن الوطن الواحد المتحد لا تبنيه إلا الأحزاب القوية ذات الثقل والرأي السديد، لتكون نواةً للتنافس الصالح خدمةً للمواطن وإعلاءً للوطن وقيم المواطنة والحرية و تثيبتاً للبنات النماء ، فكلنا نبغي الرفعة لأمتنا وإن تنوعت وتعددت السبل والرؤى و إن اختلت الممارسات أحياناً وجنحت بنا الرغبات، وليكن شعار وحدتنا (نحو وطن يسع الجميع)، فوطن كهذا الوطن لا يُبنى فُرادى فلنمضي لتقوية الأحزاب لتكون المشاركة القوية دفعة مباركة للتنمية.