كلمة سعادة السفير / مصطفى مدني أبشر في احتفال كلية الأداب بجامعة الخرطوم بالذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الأستاذ / جمال محمد أحمد أمسية الثلاثاء 4 أكتوبر 2011 م قاعة الشارقة _ _ _ _ _ _ _ كان الأستاذ جمال محمد أحمد من أوائل السفراء و قادة العمل الدبلوماسي السوداني بعد الإستقلال عام 1956 م و نشأة الدبلوماسية السودانية. أولئك الرجال الذين وضعوا قواعد العمل الدبلوماسي السوداني عبر تجاربهم الثرة في شتى المجالات فأعطى كل منهم بمقدار ما لديه فكراً و ثقافة و تجارب الأمر الذي أغنى الساحة الدبلوماسية بمختلف الاجتهادات في ذلك المنعطف البالغ الأهمية من تأريخ بلادنا . غير أن المهام الدبلوماسية على كثرتها يومئذ لم تمنع الأستاذ جمال من مواصلة حياته الأدبية و الفكرية و الثقافية فصدرت مؤلفاته في شتى فروع المعرفة بإسلوبه العذب الفريد الذي تميز به في كتاباته كما أشار لذلك صديقه الكاتب و الروائي الرائع الأستاذ الطيّب صالح في قوله : " كان الأستاذ جمال نسيجاً وحده في حياته و فكره .. كان إذا رثى صديقه الشاعر الإنجليزي أو إذا وصف لقاءه مع بابا الفاتيكان أو حدثك عن أيامه في جامعة هارفارد خلق لك عالماً طريفاً مدهشاً تتمازج فيه الأضواء و الظلال و الإبتسام و السخرية و الفكر والأحاسيس شأن كل أديب عظيم .. فإذا أنت تسمع و ترى كأنما لأول مرة و إذا بروحك تنتعش كأنك سبحت في بركة صافية ذات صباح جميل .. هكذا كان جمال ضوءاً كأنه مجموعة أضواء ! " هذا و فوق ذلك فإن الأستاذ جمال لم يكن دبلوماسياً بالمعنى التقليدي للكلمة . مؤلفاته لمن يقرؤها تكشف عن نشاطات دبلوماسية واسعة . كان أول سفير للسودان بعد الإستقلال في المنطقة العربية على عهد عبد الناصر و تأميم القناة و العدوان على مصر و صعود تيار القومية العربية .. رسائله حول تلك التطورات المتسارعة كانت قمة في مضمونها و أسلوبها و مدرسة لتعليم شباب الدبلوماسيين. كان الأستاذ جمال ضيفاً مميزاً في دار الشاعر أدونيس و في منازل السفراء و الأدباء العرب الذين كانت تستضيفهم العاصمة اللبنانية بيروت في ساحاتها الفسيحة الحرة . هناك ترك الأستاذ جمال إرثاً هائلاً من الصلات الإنسانية مع الكتّاب و الأدباء و الفنانين و الصحفيين .. و هي صلات لم تنقطع مع مرور الزمن فظلّ لبنان الجميل الحر مركزاهتمامه وتعاطفه : و بقينا مع لبنان سهولاً و جبالاً و بقينا مع لبنان جنوباً و شمالا و بقينا مع لبنان الينابيع و لبنان العناقيد و لبنان الصبابة و بقينا مع لبنان الذي علمنا الشعر و أهدانا الكتابة .. ثمّ كانت إفريقيا التي كانت دائماً في باله و وجدانه : في أديس أبابا لم يقعد في مقعد السفير الوثير بل كان جوّالاً يبحث عن خبايا و أسرار إثيوبيا و الدول المجاورة . إقرأ له رواية " سالي فو حمر" تجد أن هذا السفير ( الأكسونيان ) من جامعة أكسفورد البيريطانية يتجول من قرية إلى قرية في إفريقيا و يجتمع مع أهليها البسطاء فتذبح له النياق بدلاً من الدجاج الرومي ويشرب حليب النعاج بدلاً من الشامبانيا و يقدم له الثريد بدلاً من الكافيار و يهدونه السكين كذكرى بدلاً من السيف المطرز بالمعدن النفيس ..كل هذا كي يعلمنا درساً بقوله : " ليس في استطاعة أحد إلاً أن يكون جزءاً من تأريخه " . هذا و في الفترة القصيرة التي قضاها الأستاذ جمال في قيادة وزارة الخارجية أضفى على الوزارة الكثير من نفسه الودودة : إذ أن تعليقاته في المذكرات الداخليّة كانت فصيحة و مرحة أضافت لإسلوب العمل حيويّة لما فيها من الأدب و الذوق و السخرية المحببة وصارت حديث شباب الدبلوماسيين يحفظونها و يرددونها لبعضهم البعض.