بادئ ذي بدء ليعذرني القراء الكرام إن لا حظوا في كتاباتنا بعضاً مما يشبه التكرار ، وذلك ليس سهواَ منّا أو افتقاراً للجديد وإنما هو إعادة للطرق في مواضع الخلل التي نرتجي أن يقف عندها ذوي الإحساس الغيورين على مستقبل هذه البلاد العزيزة على قلوبنا كي نبتدئ جميعنا من عندها خطوات التحول نحو الإصلاح الشامل الذي يعيد لبلادنا مجدها وعنفوانها القديم علماً بين الأمم . ففي مسيرة الضياع الطويلة الممتدة عبر سني حكم عصابة المؤتمر الوطني للسودان ، ثمة تحولات أو لنقل تشوهات كبيرة قد حدثت في البلاد ، فجغرافياً لم يعد السودان ذاك المليون ميل مربع الذي توارثه الأجيال أباً عن جد وتغنوا بأمجاده وتفاخروا بتنوعه الثقافي وتعدده الاثني ، ومجتمعياً لم السوداني ذاك الإنسان المعهود بشيمه وُمثله النبيلة ، لا سيما لدى كثيرٍ من جيل الشباب الذين وُلدوا وترعرعوا في كنف هذا النظام الجائر . والسؤال هو: كيف حدث ذلك ؟ والإجابة تكمن في الوسائل الالتوائية التي انتهجها هذا النظام في سبيل تدجين الشعب السوداني وصرفه عن مجرد التفكير في تغييره أو إزاحته عن دفة الحكم . وان كنا قد تعرضنا في مقالات سابقة لبعضٍ من تلك الوسائل فلا باس من إعادة الإشارة إليها هنا تأسيساً للفكرة التالية . فقد انبنت إستراتيجية هذا النظام منذ أيامه الأولى على مبدأ ( فرق تسد ) ، وأسسوا على تنفيذ هذه الإستراتيجية بتحديد المستهدف منه أولاً والغاية من استهدافه ثم توزيع عملية التنفيذ لعدة مراحل لكل مرحلة عاملها المساعد الذي تَحدّد في أن يكون أما الدين أو الجهوية . فالهدف كما أسلفنا هو تحويل الشعب السوداني بكافة الوسائل عن ولائه السياسي والمجتمعي القديم وإعادة تشكيله على الوجه الذي يكون فيه إما منتمياً للمؤتمر الوطني أو موالياً له . وقد بدأت أولى مراحل تنفيذ هذه الخطة في جنوب البلاد والعامل المساعد المستخدم فيها كان الدين حيث تم تصوير الحرب هناك بأنها بين الكفر والإيمان وتم على اثر ذلك إعلان الجهاد ، أما الغاية فكانت تتمثل في أمرين هامين أولهما شحن العواطف لإرسال اكبر عدد من الشباب لمحرقة الحرب هناك ، أما الثاني فهو تدمير الولاء الحزبي للقوى السياسية التقليدية المتحالفة مع الحركة الشعبية بإظهارها أنها عميلة للكفر والصهيونية العالمية وما إلي ذلك مما كانت تروج لها حلقات برنامج ساحات الفداء في التلفزيون السوداني ، ومضت تلك الخطة بتفاصيلها حتى انتهت مفعولها بنيفاشا وانفصال الجنوب لاحقاً . إما الخطة الثانية فكانت في دارفور ، وهنا تفرعت لعدة فروع ، فدارفور تاريخياَ معروفٌ بالإسلام والتدين مما لا مكان لاستخدام عنصر الدين هنا بطريقة مباشرة كما في الجنوب ، ومن ناحية أخرى تعد دارفور تاريخياً نقطة ارتكاز للأحزاب التقليدية وحزب الأمة بشكل اخص وهي كذلك محصنة جيداً من حيث الولاء القبلي بما يتطلب منهم جهداً اكبر لتغيير الولاء السياسي . وبناءاً على ذلك بدأت خطوات التنفيذ عبر مرحلتين ، الأولى تتمثل في إذكاء العنصرية القبلية بين مكونات المجتمع الدار فوري والتباعد بينها بكافة الوسائل والدخول إلي تنفيذ هذه الخطة من تلقاء الزعامات القبلية والأهلية في الإقليم بترغيبهم تارة من خلال الإغداق بالأموال الطائلة والسيارات الفارهة وترهيب من أبى منهم وعزله عن موقعه التقليدي وإبداله بآخر موالٍ وهكذا !. وبكل أسف فقد ساهم بعد الجهالة بأصول القضية من أبناء الإقليم في تسهيل إمرار هذه الخطة الجهنمية القاضية بتقسيم مجتمع الإقليم إلي عرب وزرقة . وعلى اثر ذلك حدث ما حدث من دعم النظام الحاكم لبعض الفئات على حساب أخرى والسعي في تأجيج نيران الفتنة بينهم وما ترتب على ذلك لاحقاً من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان كانت الدولة طرفاً فيها عبر المساعدة بالقصف الجوي ،ثم السعي للتهرب عنها لاحقاً حينما برزت النتائج البشعة لتلك الممارسات للمجتمع الدولي ، ليس ذلك فحسب بل سعى النظام للاستفادة منها بالادعاء أنّ الدائر في دارفور هي مجرد نزاعات قبلية سببها بعير شارد انفلت عن عقاله وفتك بمزرعة احدهم ؟ وكانت المحصلة في الختام أن استفاد المؤتمر الوطني بتحّول عدد من قيادات الأحزاب التقليدية لصفوف المؤتمر الوطني إما منتمين أو مواليين . وتوازياً مع الحرب في دارفور قامت جماعة المؤتمر بإبراز المرحلة الثالثة من الخطة التي تتعلق بأبناء الشمال من العوام والدهماء ، وتتمركز عناصر هذه الخطة في تصوير الأمر لأبناء الشمال بأنهم مستهدفون في هويتهم من أبناء الهامش الذين يسعون لانتزاع السلطة من أيديهم وبدءوا في تغذية هذه الفكرة العنصرية العقيمة عبر المجالس الخاصة حتى تشرّبها عقول الكثيرين من البسطاء بل تعدى ذلك ليشمل بعض فئات المثقفاتية بمن فيهم عناصر حزبية . وفي كل هذا المارثون ( الإنقاذي ) البئيس لعب المال السياسي والإغراء بالمناصب دوراً كبيراً في تمرير هذه الخطة حتى غدا الوطن يتسلل طرفاً بعد آخر من بين يدينا . ومن هنا نطرح السؤال التالي عن كيفية تدارك الأمر قبل فوات الأوان ؟ والإجابة لديّ تكمن في ضرورة معرفة موضع الخلل أولاً والانطلاق منها نحو الإصلاح . نواصل في الحلقة التالية بإذن الله . SHRIF DAHB [[email protected]]