[email protected] هاهو "سامي جوهر" يغرق في تفاصيل حياة جدّه "عبد الفضيل". فتحتُ دفتر يومياته، وقرأت كيف تصفح رسائل جدّه، وكيف كان فهمه لها . . هذا فصل من يومياته وضع له عنوانا شاعرياً : "التيرا" . . جبل الحلم القديم، وفيما يلي أورد نتفاً مما كتب جدّه في رسائله لصديقه "عبدالفرّاج بك". ( إشتعل جبل "التيرا"، جنوبي "كردفان"، بتمرُّد ساكنيه، وتملمُلهم من تغوّل الحكومة على أقدارهم. لكأنّ الحكومة أرادت للجيش الذي أنشاه "هدلستون" باشا في كردفان، أن يكون الصيّاد، وأهل الجبل أن يكونوا الفريسة السائغة. نظرتُ في حزمة الأوراق التي استنسختها من رسائل جدّي التي كانت بحوزة البكباشي العجوز "عبدالفرّاج بك". كتب جدّي"عبدالفضيل جوهر" لصديقه الملازم "عبد الفراج"، في رسالة حملت تاريخاً في شتاء 1916: ( وقفتُ عند المغيب. الشمس في كردفان ليست هي الشمس التي تغيب في "أم درمان". صفاء اللون يبهر البصر، فكأنّ اللوحة سحر محض، فلا ترى الشعاع بل يراك، ولا تتملاه بل يتملاك ويتغلغل في مسامك، كما تستنشق الرئة الهواء، وكما يغتسل البدنُ بماءِ النهر، وكما ينهمر الظلُّ مِن ورق الشجرِ الكثيف. كنتُ في حلمٍ وليسَ عندَ حوافِ الجبل الشامخ في "كردفان". في جوفِ بحرٍ، ولم يبتل جسمي من ماء. من فرط ما تشبّعت بما حولي، من طبيعة جاءت من الله، لم يمسس أطرافها وجبالها ووديانها بشر، حسبتُ أنّي كنت في عين المكان من قبل، أو كأنّي امتداد تفرّع من أصله، صار منه وليس منهُ. عشٌ ألفته قبل فطامي وانطلاقي. تسلّقتُ المدارج في جنبات الجبل، صبياً مع لداتي، وتراشقنا بثمار نقتطعها قبل نضجها من أغصان أشجارها. عدوتُ عارياً، لا أعرف لباسا أدخل فيه، ولا ورقاً أتقاصف به مع مَن ألاعبهم ويلهون معي، في ليالي الجبل القمرية. كنا نعابث الصبيّات ونراقصهن في غناء "الكامبلا". لا أحد يجسر أن يدّعي علينا خروجاً عن التقليد، أو نبوَّاً عن العرف، أو خروجاً عن مألوف جبل "التيرا". أجل . عرفت "كاكا" بعيونٍ نجلاءٍ تقطع كالسيف نياط القلب، وبشرة ملساء كالقطيفة، سمحتْ لي أن أتمرّغ في بهائها. تلك قصّة سآتيك بتفاصيلها في رسالة قادمة. لكن دعني أؤكد لك، أنّي رأيت هذه القرية في أحلامي. أوقنُ تماماً أنّي كنت هنا من قبل. هل تراءتْ لي، مثلما تتراءى الأحلام لسادرٍ في غفوة، أمْ هيَ إسقاطات حكايات تسمّعتها من خالتي "حليمة" في "أبوسعد"، والتي أقمت معها حين جئت طفلا مع أمّي، من "القاهرة"، ولا أحمل في ذاكرتي شيئاً عنها. .؟ أتذكر كيف احتضنتني أمّي الثانية، وخلتها أمّي بالفعل، فقد أغدقتْ عليّ عطفاً ما أذاقتني أمّي الحقيقية منه شيئا، إذ شغلها المرض فعصف بها، ومحا من ذاكرتها أياماً عاشتها في القاهرة مع أبي. أتذكَّر أنينها المتواصل، طيلة الرحلة مع الحملة البريطانية من مصر إلى الخرطوم، شتاء عام 1898م. أكادُ أسمع تأوّهاتها، حين تفيض دموعُها من ألمٍ مُمضٍ وأنا حولها، أتغافل عنها في جزعي، وفي عجزي. لم تعُد تحسّ بأمومتها نحوي، ولا تستشعر بأنّها تحيا، بل هي توحي لنا، أنّها تتأهَّب لمغادرةٍ لا عودة منها. لرحيلٍ لأغوار بعيدة. حين تُمعن في إنكار جدوى بقائها حيّة، لا تملك خالتي "حليمة"، غير أن تمسك بي. تحتضنني، وكأنّها تحسّ بما أحتاجه من عطفٍ من أمٍ، لا تراني في علّتها وأوجاعها. الشكر لعمّنا "أحمد الشقيلي"، فقد أوانا بعد معركة"كرري"، وخصّني كما تعلم، برعاية كنت أحتاجها. . منذ تلك الأيام - إن صدَّقتني أيّها الصديق - طفحَ الضيقُ بي ممّا كان يدور من حولي. لكأنّي وأنا طفلٌ لا أفهم تعقيدات تجري من حولي، تنزّلت فيّ كراهية للرهق من حولي، كراهية للضجيج ولصراخ العساكر والآليات. سفرٌ طويل عانيتُ منه، وزاد من بغضي، إذ حسبته المتسبّب الأول في عذاب أمّي، وفي معاناتها ومعاناتي معها. كنت وقتها في السابعة من عمري، ولكن لم أكن مرتاحا للعساكر الإنجليز يتراطنون حولنا، يرسلون الأوامر جزافاً هنا وهناك. كنتُ أرى والدي لا يردّد أمامهم إلا كلمة واحدة : حاضر. حاضر. ما كرهت كلمة عمري كله، إلا هذه الكلمة البغيضة . كنت في سنّي تلك، لا أعرف لها معنى، غيرَ وقع الخنوع ِ ورائحة الانكسار وصدى الهزيمة. هذه هي الرّوح التي نمَتْ في دواخلي، وجرّتني إلى مصادمات مع الضابط الإنجليزي هنا في "تلودي". عجرفة الضابط الانجليزي "جيلبرت"، زادت عن حدّها. أنا، وكما تعرفني، أحترم جنودي. لا أقسو إلا حين ينفلت من بعضهم ما يجافي الانضباط، أو ينبو سلوكه عن جادة النظام. هذا الطاغية الصغير هنا، يمارس إذلالاً لم أقرّه له، فكنّا على الدوام على طرفي نقيض. اضطرني مرّة لأشكوه إلى الجنرال "هدلستون باشا" . . ) هيَ رسالة ناقصة لم أجد لها بقيّة في حزمة الرسائل التي استنسختها وضمّنتها يومياتي. تركتْ رسالته المكتوبة بلغة عربية رصينة وأنيقة، أسئلة ما عرفت لها إجابة. كنتُ أحسُّ أن جدّي متمرّدٌ بالفطرة، ولكن لم أتصوّرهُ رافعاً رايات التمرّد منذ طفولته وصباه. . "هدلستون باشا". ها هوَ القدر يلفّ "عبد الفضيل جوهر" مع مصائره المدفونة في سنوات خبيئة في المستقبل. كيف رتّبت الأقدار ل"هدلستون باشا"، أن يكون الحاكم في غرب السودان، يُنشيء "أورطة" ، بينها كتيبة عسكرية تحت إمرة الضابط "جيلبرت" في جبال النوبة، جنوبي كردفان؟ كتيبة بلدة "تلودي"، هي الكتيبة التي جاء إليها جدّي "عبدالفضيل" بعد تخرّجه من المدرسة الحربية. هل خطر ببال أيٍّ منهما- جدّي "عبدالفضيل" و"هدلستون باشا"- أنّ المصادمة بينهما، وبعد ثماني أعوامٍ ونيف، ستكون مأساوية، يُهدَر فيها دمُ جدّي "عبد الفضيل"، قبالة النيل الأزرق، بسلاح جنود "هدلستون باشا" نفسه، وقد صار نائبَ الحاكم العام في الخرطوم. . ؟ هل أدرك جدّي "عبدالفضيل" أنّ من يقاتله في الخرطوم، هو ذات الجنرال الذي خصّهُ بعلاقة خاصة، قبل سنوات في "كردفان". . ؟ كنتُ أستعيد في ذاكرتي هذه الملابسات، فلا أكاد أصدّق أنها مصادفات مَحضَة. لقد سمعتُ من العجوز "عبدالفراج بك"، ظنه أن جينات جدّي "عبد الفضيل"، حملتْ بذرةَ الرّوح العسكرية، وهو طفل يرافق والده "عيسى جوهر" في حملة "كيتشنر" عام 1898. نقّبت في الرسائل من جديد. الرّجل العجوز يفضفض مع صديقه "عبدالفراج بك"، عن معاناته في "جنوب كردفان"، في رسائل موحية بتنامي نفَسِ الثورة في دواخله. تضمّنت بعض رسائله جانباً من خلافاته مع الضابط الإنجليزي . قرأتُ السطور التالية من رسالة مؤرّخة في أكتوبر 1916: ( كان الضابط "جيلبرت" طاغية على مزاجٍ خاص. لقد حكيتُ لك في رسالتي السابقة، أيّها الصّديق، عن ممارساته التي بغّضتني فيه. معاملته للضابط المصري"حسني"، تجاوزتْ حدود المعقول، ولم تكن تعجبني. سَمِعتهُ يَسُبّ الرّجل بأقذع الألفاظ، والرجل طيّب ومغلوب على أمره. يدفع الرجل المسكين هنا، ثمن ما يفعله الساسة المصريون مع أهله الانجليز، هناك في القاهرة. . ) ثمّةُ أمور التبستْ عليّ. . حتى استجلي بعض غموض القصة، كان لزاماً عليّ أن أزور "البك" العجوز مرة ثانية . ."عبدالفراج بك". دلفتُ إليه في صالونه الموغل في القدم، وكأنّ التاريخ مقيمٌ في أركان المكان، لا يبرحه. كلُّ شيءٍ في صالون هذا العجوز، يتواطأ على الآتي من وراء الأفق البعيد. ما إنْ تلج عبر بابهِ، إلا ويفاجؤكَ الزّمن، واقفاً متسمّراً في مكانه. نظرتُ في ساعة يَدي، وكأنّها تتراجع إلى الوراء. رفعتُ بصري إلى ساعة الجدار في صالون "البك". كانت متوقفة وبكماء. "الجرامافون" ماركة "هآتش.إم.في." البريطانية الشهيرة، في ركن الصالون، يئنُّ بلحنٍ لمُغنٍّ قديمٍ إسمهُ "كرومة"، كان مغنياً شهيراً في سنوات الثلاثينيات. لم يكن صديقي "سليمان" حاضراً، ليتلقى أوامر جدّه "البك" بتغيير الأسطوانة الحَجَريّة. غاب لسببٍ يَخصّهُ، ولكن لم أخسر شيئاً لغيابه. على كلِ، لم يكن العجوز مُمِلاًّ بالمرّة. رفع بصرَهُ الواهن إليّ وقال : - نعم يا بُنيَ. . بعض رسائل جدّك ضاعتْ من بين أوراقي، فقد فقدت أجزاءاً منها في تنقلّي من منطقة عسكرية إلى منطقة أخرى. حزنتُ كثيراً لذلك، فقد كنتُ معجباً بكتابته وبأسلوبه وبلغته. قل لي ما تريد أن تسمعه، وسأكمل لك ما لم تقله الرسائل. . - وددتُ أن استوثق منك : هل كان يُبدي كراهية للمستعمرين الإنجليز. . ؟ - أقول لك صريحاً : نعم . كان يتعامل معهم في "بلدة "تلودي"، وكأنّهُ مرغم، يتجرّع كأساً مسموما. كنتُ كثيراً ما أسعى للجم أفكاره تلك، أحثه لاخفاء هذه المشاعر، إذ أن الإنجليز سيترصدونه. . يتحدّث "عبدالفرّاج بك"، وكأنّهُ يدافع عن مواقف اتخذها في تلك السنوات. نعم. . كان هو بعيداً في الحدود الشرقية مع اثيوبيا، وقد كانت المواجهات هناك، مع غرباء وأجانب، ولم يكن يرى، صراعاً يطفح في السطح بين جنوده والضباط الإنجليز الذين كانوا في فرقته العسكرية. السنوات الست التي قضاها "عبدالفراج" في منطقة "كسلا"، دجّنت مشاعره الوطنية إلى درجة بعيدة. كانت الفرقة العسكرية مشغولة بالدفاع عن الأرض، تصدّ عنها غرباء. أحباش. في "جبال النوبة" الأمر مختلف جدّا. هي حروبات محدودة لقمع تمرّد "النوبة" في جبالهم، تململ السودانيين في موطنهم. كان "عبدالفضيل" يحسّ بالجرح يتسع ولا يندمل، وهو يقاتل أبناء "الجبال"، الأقرب إليه، روحاً ودماً ووجدانا. مرّت دقائق صمتٍ طويلة. . ولكن تمتم "عبد الفرّاج بك" بكلام جديد: - أتذكر يا بنيّ ، شيئاً. . كتب لي"عبدالفضيل" في أحد رسائله، شيئاً عن جدّه الأكبر "جوهر". هل سبق أن قلت لك ذلك ؟؟ - لا . . لا. . - لربّما هذه إحدى قصصه الشيّقة، ولكنّي فقدت تفاصيلها إذ ضاعت هذه الرسالة تحديداً من أوراقي. لكن. . أنا أتذكر أنّهُ كان يحدّثني عن عمٍّ أو جدٍّ له، حارب في أمريكا. في المكسيك، وأنّهُ كان بطلاً هُماماً، وأنّ ملك فرنسا و"خديوي" مصر، أنعما عليه بنياشين وأوسمة. ما كان "عبدالفضيل" يقبل، وهو حفيد ذلك الرجل، أن يكون دوره في بلده، مجرد أداة بيد المستعمر الإنجليزي، يستغله لقمع أهله في "جبال النوبة". لم يكن مناسباً في نظره، أن يكون حفيد البطل التاريخي"جوهر"- نعم إسمه "محمد جوهر"- مجرد شرطي يؤدّب قومه وأهله في "تلودي". . ! سجّلت هذه الملاحظة الهامة في دفتري. الذي اعتمل في وجدان "عبد الفضيل"، له جذور قديمة إذن . قال العسكري العجوز، وهو يهزّ منشته ، وكأنه ينفض بها غباراً من ذاكرته، إذ استطرد مكمّلاً قصته : - وأنا يا بُني كتبتُ إليه أهدّيء من مخاطر الاندفاع في طريق قد يودي به إلى مواجهات ستعصف بمستقبله في الجيش. كنتُ أرى فيه أملاً كبيراً لنا، في أن يتولى منصباً عالياً في قيادة "قوة دفاع السودان" . . وأردف في لغة انجليزية، مؤكداً ما يقصد : - نعم كانت قدراته تبشّر بمستقبلٍ باهر في ال"إس.دي.إف". . قوة دفاع السودان . . ) الخرطوم - 29أكتوبر 2011