مربك هذا الافتتان العربي بتركيا حد الاستفزاز، كأنما هو ضرب من «توستاليجيا» آبائنا الأقربين إلى جلادينا الاستعماريين. نتغنى ببلاهة براغماتية التنمية والعدالة ونقتدي أردوغان وغول. بيننا وتركيا تضاريس من الثارات وشلالات من الدماء، يُحار المرء كيف تسربت كلها من ذاكرتنا المتعبة. كأنما لم ننتفض عند منحنى القرن التاسع عشر، نزيح عن كواهلنا أحمال الاسترقاق الديني والإقطاع السلطاني. كأن تركيا لم تتركنا أسلاباً انتهبتنا قوى غربية باسم الحداثة بعد هزال الامبراطورية. بُعيد انفلات بعضنا من أسر الأباطرة الصغار، قفزنا فوق هامات رجال جديرين بالاقتداء، ويممنا وجوهنا صوب أنقرة نبجِّل غولاً وأردوغان. مكتبتنا القومية خالية من المراجع الفكرية. ذاكرتنا فارغة من الرجال الملهمين. قدرتنا على الإبداع السياسي أصابها الخصاء. في إصرارها الصارخ للتبرؤ منّا، عمدت تركيا إلى نزع جذورها من تاريخنا. وهي لا تزال تحاول انتزاع نفسها من محيطنا الجغرافي المشترك لتحشر جذعها المهول في رأسها الأوروبي الصغير. على طريق إدارة ظهرها لنا؛ خلعت تركيا حروفنا العربية من لغتها وطردت «لغتنا الجميلة» من مدارسها. بغية الانعتاق من روابطنا المشتركة، لم تتورَّع تركيا من التخلص من بعض ثوبها الإسلامي. هو الهراء الذي جاءت إلينا فيه تركيا وتحكمت في رقابنا عقوداً عديدة. افتتان بعضنا بتركيا يجسِّد بعض مظاهر العِلل المتمكنة من نخبنا السياسية. بينما أدارت الجمهورية الأتاتوركية ظهرها لنا، ألقى حَمَلة التنوير بيننا مسؤولية تخلفنا على عاتق تركيا. عند مفترق هذا التدابر سار كلٌ في طريق محمَّلاً بذاكرة تاريخية غير مشرِّفة. على الرغم من إقلاعها تجاه الشمال لم تتنازل تركيا عن «حقوقها التاريخية» في الموصل، إذ ظلت تشرب من نفطها. أصابع تركيا ظلت مغموسة في شأن العراق وآلياتها العسكرية تتوغل في أرضه عبر البوابة الكردية. كيف سقط لواء الاسكندرون عن ذاكرتنا القومية؟. في اندفاعها الممنهج بعيداً عن الجغرافيا السياسية العربية ارتبطت تركيا مع المصالح الغربية من خلال الأحلاف بدءاً من حلف بغداد وانتهاءً بالناتو. استغراقاً في الاستفزاز العربي عمدت تركيا لتشييد سدود على الممرات المائية مستهدفة تعطيش شعبي سوريا والعراق. في سياق الاندفاع بعيداً عن العرب، أبرمت تركيا حملة من الاتفاقات العسكرية والاقتصادية مع إسرائيل في العام 1996، ونفذ الجانبان مناورات مشتركة. تلك خطوات وضعت العلاقات التركية السورية على حافة حرب. سيرة تركيا لا تحرِّضنا على الافتتان بها. من غير الممكن اجتزاء الحاضر عن السياق التاريخي. حزب «العدالة والتنمية» ليس أنموذجاً ملهماً خارج نسقه السياسي التركي. أردوغان وغول لا يقدمان مثالاً ديمقراطياً للإصلاح خارج النص التركي. من المهم التأكيد أولاً على وجود مجتمع مدني صلب وفعَّال في المشهد التركي. منظمات وأحزاب وطلاب جامعات ناضلوا كثيراً من أجل إخراج الديمقراطية التركية من الثكنة العسكرية. لدى تركيا قاعدة اقتصادية قوية ومنتجة. في تركيا نُخب فكرية وسياسية متفتحة. لدى الأتراك قناعة راسخة منذ عقدين على الأقل بضرورة إعادة إنتاج التجربة العلمانية. الصدام ظل قائماً بين النخب الفكرية ورئاسة الأركان. الأزمة ليست قاصرة على أدمغة الجنرالات باعتبارهم حراس تراث أتاتورك، بل كذلك لأنهم حرس شريحة من الطبقة الاقتصادية والسياسية تفتقد الخيال للاستثمار خارج التجربة الموروثة. مهارة أردوغان تكمن في تجاوبه مع شعور التغيير المستشري. تسويق تجربة العدالة والتنمية منوالاً للغزل عليه عربياً فهماً مبتسراً لواقع مغاير لا يمكن استنساخه أو محاكاته، فوق كونه قفزة فوق التاريخ. لتركيا فائض من الإنتاج تدخل به أسواقنا. لدى أردوغان فائض شعبية يجد رواجاً في بوارنا السياسي. عمر العمر