شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد.. صور الفنانة ندى القلعة تزين شوارع أم درمان.. شباب سودانيون يعلقون لافتات عليها صور المطربة الشهيرة (يا بت بلدي أصلك سوداني) والأخيرة ترد: (عاجزة عن الشكر والتقدير)    شاهد بالصورة والفيديو.. طفل سوداني غاضب يوجه رسالة للمغترين ويثير ضحكات المتابعين: (تعالوا بلدكم عشان تنجضوا)    شاهد بالصورة والفيديو.. عريس سوداني يحتفل بزواجه وسط أصدقائه داخل صالة الفرح بالإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا لا يزورنا ربيع الثورات؟ (1+2) .. بقلم: عبد المنعم محمد علي- الدوحة
نشر في سودانيل يوم 14 - 11 - 2011

في المبدأ، ثمة من يشكك في حقيقة وأصالة الثورات العربية. هل هي زلازل طبيعية انبعثت من باطن الأرض العربية؟ أم مجرد انفجارات اصطناعية وقعت بفعل قنابل زرعتها أيادي أمريكية/غربية؟
من جانبي، لا أشك لحظة في شرعية الثورات العربية، وفي أنها ولدت من نطف وأرحام شعوب المنطقة. أما الأيادي الأمريكية والغربية فإنها لم تلعب سوى دور معاونة "القابلة" في بعض الحالات. أما التقارير المحلية والغربية المشككة في أصالة هذه الثورات، بما فيها تلميحات المفكر الإستراتيجي المرموق نعوم تشومسكي حول هوية ووجهة الثورة المصرية الحالية، فإنها فقط رشح للتنميط الثقافي السائد في الغرب (على وجه الخصوص) حول الشعوب العربية/المسلمة وأنها مرهونة "لإذعان مزمن لا شفاء" منه للاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي. ولكن، وبعيداً عن التفسيرات المبنية على النمطيات الثقافية الناشئة عن النظرة الدونية للآخر، وإغفال التفسيرات التآمرية المشابهة لها من حيث المنشأ والمقصد، بإمكاننا القول بأن الثورات العربية قامت ببساطة بسبب تراكمات الاستبداد والقهر السياسي والاستئثار الاقتصادي والظلم الاجتماعي في التاريخ الذي توافر فيه لدى هذه الدول العربية الحد اللازم من النضج الفكري والوعي السياسي والغضب الشعبي.
يماثل الواقع السوداني اليوم ظروف وأوضاع الجمهوريات العربية التي أطاحت ثورات الربيع بحكوماتها، أو التي لا تزال تحاول، في تطاول حكم الرؤساء والزعامات السياسية فيها لعقود، وفي غياب الديمقراطية، والاحتكار السياسي، والتأزم الاقتصادي، وضيق الحال المعيشي، وتفشي البطالة، واستشراء الفساد.
وفيما عمت ثورات الغضب شوارع المدن العربية في هذه البلدان ذات النظم والأوضاع المماثلة في تونس والقاهرة وبنغازي ودمشق وحمص وصنعاء وتعز وعدن، كانت شوارع الخرطوم وعطبرة وبورتسودان ومدني والأبيض والفاشر تغط في نومها. فما الذي يا ترى يمسك بالربيع عن مدننا وقرانا؟ سؤال يطرحه المحللون السياسيون والمراقبون للشأن السوداني هذه الأيام في مختلف الساحات والمنابر، ويحاول كثير منهم الإجابة عليه بدرجات متفاوتة من التعليل الموضوعي والتقصي الشمولي، فيما اكتفى البعض بالتفسير الرغائبي سهل المنال.
سنواصل في المقال/ المقالات التالية بإذن الله محاولة الإجابة على السؤال السابق.أما الأسئلة الأخرى ذات الصلة والمتمثلة في: مدى حاجتنا لثورة على نمط الربيع العربي؟ وإذا كنا نحتاجها ولم تحدث، فهل نحقن رحم الوطن بإبرة طلق صناعي؟ وإذا كانت الإجابة الأولى بالنفي، فما المخرج من هذا الانسداد في الأفق السياسي، وتكاثف غيوم الإعسار والانهيار الاقتصادي، وسبل الإمساك بأطراف هذا الوطن الموشك على التداعي؟ فسنتطرق إليها في مقال/مقالات مستقلة إن يسر الله المولى.
إن الثورات التي نتحدث عنها هنا هي تلك الانتفاضات التي انتظمت بلدان العالم العربي في الآونة الأخيرة من المغرب إلى سوريا والعراق والبحرين، ، وتم رصد آثارها الارتدادية حتى في الملكيات الراسخة في السعودية والكويت والأردن، ولكن تعاظمت تفاعلاتها ونتائجها في كل تونس ونصر وليبيا وسوريا واليمن. وكان تخلف السودان، بإرثه التاريخي الضخم من الثورات والانتفاضات والاحتجاجات السياسية، لافتاً للحد الذي يتيح لمن شاء أن يرى فيه دليلاً آخر يجسّد اختلافنا عن عالم العرب وقربنا من الفضاء والمزاج الأفريقي جنوب الصحراء الذي لم يحرك فيه هذا الربيع قليلاً ولا كثيراً. فبخلاف دعوات محدودة، ومحاولات معزولة غير ذات فاعلية، للخروج للشارع على نمط الربيع العربي، لم تشهد مدن السودان حراكاً يمكن تصنيفه ضمن سياق الثورات العربية الأخيرة بالرغم من ارتباطنا الوثيق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وإعلامياً بدول العالم العربي وعضويتنا في الجامعة العربية وتواجد (وجود) الآلاف من السودانيين في مختلف المدن العربية.
إن بإمكان المراقب أن يلحظ جملة من الأسباب التي حالت حتى الآن دون بزوغ ربيع الثورات في السودان. وكثير من هذه الأسباب تشترك أيضاً في تفسير بقاء نظام الإنقاذ الوطني لما يزيد عن عقدين من الزمن في حكم البلاد واستعصائه (حتى الآن) على كل محاولات اقتلاعه أو إزاحته أو تغييره.
إن أول ما يتعين ملاحظته هو أن ثورات الربيع العربي، بالرغم من عدم تماثلها في مختلف البلدان، تشترك في أنها بدأت بحركات احتجاجية شبابية غير حزبية وغير مسلحة ضد نظم حكم مستقرة (في ظاهرها) لم تشهد أي محاولات مناوئة جادة تهدد بقاءها. وكان مجرد خروج متظاهرين يهتفون ضد الحكومة ويطالبون بسقوطها مظهراً مثيراً ومبهراً دفع بمزيد من آلاف الحانقين على الحكومة للانضمام للحركة الاحتجاجية بانتشاء وهم لا يصدقون أنفسهم أن ذلك أمر ممكن في ظل الوضع الذي عرفوه لعقود. وسرعان ما انتقلت العدوى للمدن الأخرى على امتداد البلد. لقد كانت التظاهرات والفعاليات المناهضة للحكومة في ميدان التحرير (على سبيل المثال) عرساً وطنياً يومياً.
ولتطاول سنوات وعقود الحكم المستقر، كانت الأنظمة الحاكمة في هذه البلدان قد ركنت لشيء من الطمأنينة والاسترخاء النسبيين. كما أن هذه النظم، لأسباب تاريخية، لم تكن تنظر إلا إلى المؤسسة العسكرية (والحركات المسلحة) كمصدر أساسي، وربما وحيد، للتهديدات المحتملة على بقائها في الحكم. ولهذا السبب فإن أنظمة المناعة داخل أجهزة الحاكمة لم تخلق المضادات المقاومة للتهديدات غير التقليدية التي لم تعهدها نظم الحكم في هذه البلدان.
أما في السودان، فقد خبر الشعب طوال عقود الاستقلال عدداً من الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية التي أسقطت الحكومات وحركات التمرد على المركز والتظاهرات والاحتجاجات المضادة للحكومة، كما اعتاد الجمهور خلال سنوات حكم الانقاذ على سماع ومشاهدة الأنشطة المناوئة للحكومة بمختلف أشكالها سواء تلك التي تمثلت في المعارضة الناعمة في وسائط الإعلام، أو المسلحة منها كما في حروب الأطراف، بل ورأى سكان العاصمة بأم أعينهم المقاتلين وهم يقتحمون أمدرمان بأسلحتهم الثقيلة القادمة من أقصى الغرب. ولم يكن لأي عمل مناهض من قبيل خروج شباب للشارع وهم يهتفون بسقوط الحكومة أن يكون له درجة الإثارة التي أحدثها احتشاد شباب الربيع العربي في مدن كالقاهرة وتونس وبنغازي وحمص. كما أن النظام الحاكم كان متحفزاً على الدوام للتصدي لأي عمل مناوئ بسبب الخبرة التي اكتسبها من التحديات العديدة التي واجهها طوال سنوات حكمه.
من أهم المظاهر التي تميزت بها ثورات الربيع العربي النموذجية وساعد في نجاحها هو الطابع غير الحزبي الذي هيمن على حراكها. لقد ظهر جلياً لجمهور الشعب أن شباب "الفيس بوك" الذين تصدروا الحركة الاحتجاجية لم يكونوا ممثلين لأي جهة سياسية، وهو ما دفع بالجميع من الشباب والكهول للإقبال على المشاركة في التظاهرات والوقفات الاحتجاجية المطالبة بإسقاط النظام بابتهاج من يشارك في عرس الوطن .
ولكن النشاط المعارض للحكومة في السودان ظل مرتهناً ومحتكراً على الدوام من قبل الأحزاب والحركات السياسية بمثالبها ومحدودية فاعليتها وتضارب مصالحها وطموحاتها. وهو ذات السبب الذي أفشل العمل المسلح للتجمع الوطني، والذي ظل في أحسن أحواله نشاطاً يخص أحزاباً بعينها بغض النظر عن عدد وكثرة الأحزاب التي عملت تحت لافتة هذا التجمع، وفي ظل تآكل الأحزاب، التقليدية منها والحديثة، بعوامل التعرية الطبيعية، والحرمان السياسي المقنن من النظام، وبسبب ما لحق بهذا النشاط من سلبيات واشتراطات وقيود الارتهان بالخارج. فلم يفلح المعارضون للحكومة طوال حكم الإنقاذ (وحتى اليوم) في الانخراط في تيار شعبي عام غير مرتبط بالكيانات السياسية القائمة بسبب تكالب الأحزاب على احتواء الكيانات الناشطة في كل عمل عام. وهذا بوجه يعني فشل الأحزاب/السياسيين الحزبيين في استقطاب جمهور الشعب الساخط على الحكم وإقناعهم بالمشاركة في أنشطتهم المناهضة للحكومة. ويعني بوجه آخر تفويض الجمهور العريض غير المسيّس عبء تغيير أو اقتلاع الحكومة للأحزاب على خلاف ما ساد في ثورات الربيع العربي.
أما العامل الذي كان أشد حسماً في اشتعال ونجاح الثورات العربية أو تأرجحها أو فشلها فقد كان موقف العسكر، إما بحياده وإحجامه عن الدفاع عن النظام في حالتي تونس ومصر، أو تدخله (بقسم كبير منه) لمناصرة الثوار كما في ليبيا، أو انقسامه وتأرجح الوضع بسببه كما في اليمن، أو انحياز القسم الأكبر منه للنظام كما في سوريا. أما في السودان، الذي يحكمه الإسلاميون منذ 1989، فإن قوات الجيش والأمن وكافة مؤسسات الدولة جزء من النظام العقائدي الذي يهيمن على الدولة، وتلتزم جميعها التزاماً دينياً عقائدياً بالمحافظة على نظام الحكم والاستماتة في الدفاع عنه. وقد تمت مواجهة الحركات الاحتجاجية المحدودة التي جرت خلال السنة بحسم لا هوادة فيه على نحو رادع لكل من تسول له نفسه بتهديد النظام.
العامل الثالث الذي أسهم بنصيب فاعل في ثورات الربيع العربي هو مشاركة الإسلاميين فيها بمختلف تياراتهم، والإسلام السياسي الحركي بصفة أخص. لقد لاحظ المراقبون ومراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية ودوائر الاستخبارات في الدول الكبرى منذ ثمانينات القرن الماضي صعود الإسلام (السياسي) ليحل محل الأيدلوجيات اليسارية في العالم الإسلامي بصفة عامة.
فقد تعاظم نشاط وتأثير حركات الإسلام السياسي من إندونيسيا وماليزيا في أقصى الشرق ومروراً بالباكستان وإيران وحتى تركيا في حدود أوربا. ونلاحظ اليوم أوضح من أي يوم مضى كيف احتل الإسلاميون صدارة العمل السياسي المعادي أو الموالي في مصر والأردن واليمن والصومال وتونس والبحرين وليبيا وسائر دول منطقة الشرق الأوسط. وشهدنا (ونشهد الآن) إسهام حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين والسلفيين في مصر والأردن وليبيا وسوريا واليمن بأدوار رئيسية في ثورات الربيع العربي.
ومن المرجح أن تستمر هيمنة التيارات الإسلامية على العمل السياسي في معظم البلدان العربية وكثير من دول العالم الإسلامي لعقد أو عقدين قبل أن يظهر ما يهدد قوتهم، أو قبل أن تتحول تدريجياً عبر الوقت، ومن خلال المشاركة والممارسة الواقعية للعمل السياسي ومزاولة الحكم، إلى تيارات وطنية لا تختلف كثيراً عن غيرها كما نشاهد اليوم في تركيا، أو كما نلمح بداياته في حالة المؤتمر الوطني الحاكم في السودان.
وقد لعب غياب الإسلام السياسي، المنخرط بكليته (وبكتلته الرئيسية لاحقاً) في دعم النظام، عن ساحة النشاط المعارض في السودان دوراً جوهرياً في إضعاف وشل فاعلية المعارضة. وفي المقابل، فإن استماتة الإسلاميين في الدفاع عن "نظامهم" ظلت وستظل عائقاً رادعاً لأي عمل يهدد نظام الحكم.ً وحتى حينما انشقت الحركة الإسلامية إلى وطني وشعبي، ظل التيار الموالي للإنقاذ قوياً بما يكفي لدعم الحكومة، ولم يتمكن التيار المنشق عن المؤتمر الأصل في رفد المعارضة بزخم يذكر بسبب تضارب حسابات الطرفين من جهة، وبسبب الملاحقة والمحاصرة المفروضة عليه من المؤتمر الوطني. ونلاحظ هنا أيضاً أن المؤتمر الشعبي الذي تأسس في بدايات العقد الحالي صار يشكّل التهديد الأكبر على نظام الإنقاذ بفاعلية فاقت مجموع فاعلية المعارضة بكافة مكوناتها. وبإمكان المراقب أن يقول بقدر من اليقين أن أي انتفاضة مرتقبة في السودان قد لا تكتمل، أو قد تمضي مهيضة الجناح، ما لم تتعزز بالإسلاميين بمجموعهم، أو بتيارات مقدرة من المنشقين عليهم.
من بين العوامل التي لا تقل أهمية عن ما سبق في تأخير/كبح ربيع الثورات، وفي تثبيط وإحباط محاولات تغيير النظام بالقوة العنيفة أو الناعمة، نزاعات وحروب الأطراف/الهامش. فالبرغم من أن حركات التمرد الطرفية ألحقت أبلغ الأذى والضرر المعنوي بنظام الإنقاذ، بتشويه سمعته خارجياً، وبتشديد العقوبات عليه، وبالوقوف برأس النظام على أبواب المحكمة الجنائية، إلا أن المفارقة هي أن نتائج هذه الصراعات والعمليات المسلحة التي جرت (ولا تزال) في الأقاليم والمناطق الحدودية (وعبر الحدود) جاءت داخلياً في محصلتها النهائية أداة لدعم الوضع القائم من قبيل "الضربة التي لا تقتلك، تقوّيك". فقد عملت هذه الأنشطة الطرفية المعادية التي لم تتوقف طوال حكم الإنقاذ كعامل محفز للجهاز المناعي ولجهوزية السلطات ودوام يقظتها للتعامل مع أي تحركات من أعدائها ولإحكام السيطرة على المركز الذي كان وحده، من ناحية تاريخية، يسقط الحكومات أو يثبّتها، فيما كانت الأقاليم لا تلعب سوى دور مساعد في هذا الخصوص (لم يعرف السودان - بحدوده عند الاستقلال- ومنذ أن رسم خارطته الحكم التركي قوة طرفية نجحت في اجتياح المركز والإطاحة بالحكومة القائمة سوى أنصار المهدي).
وهكذا فإن حركات التمرد أدت من جهة إلى تعزيز قبضة النظام على البلاد بذريعة الحفاظ على وحدة الوطن في مواجهة التهديدات القادمة من الأطراف ومن خارج الحدود، ومن جهة أخرى، أثارت المخاوف لدى قطاعات كبيرة من الشعب ودفعتها قسراً للاصطفاف مع الحكومة المركزية والاحتماء بها في وجه مخاوف تمزيق البلاد واجتياح المدن على نحو ما كانت تهدد به الحركة الشعبية إبان عنفوان نشاطها، أو كما فعلت حركة العدل والمساواة بدخولها أمدرمان. وقد زاد من تلك المخاوف بعض النعرات الجهوية والعرقية التي رشحت من أدبيات بعض هذه الحركات، من قبيل الاتهامات المعمّمة الموجهة لل"مندكرو" (الذي يشمل كل مواطني الشمال) في خطاب الحركة الشعبية، أو الموجهة لأبناء البحر أو أقاليم الوسط والشمال في خطاب بعض الحركات الدارفورية.
وفي نفس الوقت، فإن حركات التمرد والانتفاضات الطرفية لم تنجح بسبب جهويتها وأجندتها الخاصة في التحول إلى حركة قومية عامة على نمط الثورات العربية. ولم تفلح اللافتات القومية التي تدثرت بها هذه الحركات، من قبيل السودان الجديد أو إسقاط النظام أو إقامة الدولة المدنية، في إخفاء جهوية/عرقية أجندتها ومطالبها، ولا في استدرار تعاطف فعّال من عامة الشعب، أو حتى كسب سند مادي من المعارضة القومية، بخلاف الدعم المعنوي بحسبان هذه الحركات عوامل إضعاف للسلطة المركزية. وهذه المخاوف من انفلات الأوضاع والانزلاق للفوضى هي التي جعلت (وتجعل) كثيرين من أبناء الشعب، حتى من بين الذين لا يكنون وداً للنظام القائم، ينظرون بشك أو بتعاطف فاتر، تجاه أي تحركات مماثلة تهدف لزعزعة "الأوضاع المستقرة" التي تضمن لهم، على علاتها، حداً من الاطمئنان على حياتهم ومعاشهم.
ولكن، قطعاً، يمكن لحركات التمرد الطرفية أن ترفد أي جهود للمعارضة الوطنية بصورة فاعلة، سواء لإحداث ثورة على خطى ثورات الربيع العربي أو القيام بأي أنشطة غرضها إسقاط الحكومة، في حالة اندلاع عملياتها في وقت واحد في مختلف الأقاليم متوازية مع أنشطة المعارضة في المركز على نحو يشتت قدرات الحكومة المركزية ويضعف سيطرتها على الأوضاع، ويؤدي في آخر الأمر إلى تداعيها بالقدرات الذاتية للمعارضة أو مع توفر دعم/تدخل دولي.
ومن العوامل المهمة التي أثرت سلباً على قيام أي أنشطة مناوئة للنظام، تراجع واضمحلال أدوار النقابات والاتحادات المهنية والجامعات ومنظمات المجتمع المدني والمنابر الثقافية والاجتماعية في الشأن العام، وفي النشاط السياسي المعارض بصفة أخص، إما بهيمنة الدولة عليها عنوة أو باصطفافها طواعية مع النظام الحاكم بسبب الانتماء العقائدي. وهذه المنظمات والمنابر تمثل القوى الطليعية التي كانت تقود تاريخياً حركات التغيير والانتفاضات والثورات كما شاهدنا في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، يوم كان مقتل طالب جامعي كالقرشي يشعل الوطن بطوله بالغضب والثورة، أو إعلان إضراب من نقابة عمال السكة الحديد يؤدي إلى شل البلاد وتركيع الحكومة.
إن أحد العوامل التي ساعدت على اندلاع الثورات العربية، هشاشة التنظيمات/الأحزاب السياسية التي قامت عليها حكومات دول مثل مصر وتونس وليبيا، حيث تأسست الأحزاب الحاكمة كنبتات الظل في حضن النظم السياسية. أما سوريا التي تسلم فيها حزب البعث الحكم بدعم من جناحها العسكري في الجيش، فإن الحزب كان قد تآكل لعوامل عديدة، ليس هذا مكان تقصيها، وتحول عبر الوقت إلى حزب عائلي مع بقايا من الحرس القديم وكوادر من البيروقراطية الحزبية. ولكن النظام الحاكم في السودان، والذي جاء بتدبير حزب سياسي متمرس، ومحمولاً على أجنحة عسكرية من الجيش وبدعم من كتائب مدنية شبه عسكرية مدربة من كوادر الحزب العقائدي/الديني، استفاد من المناعة السياسية التي وفرها الحزب الإسلامي الذي كان في أوج فتوته وقت قيامه بالانقلاب الذي جاء به للحكم. حتى النظام السوري بحزبه العقائدي الهرم أبدى (ولا يزال) مناعة لم تبدها أي من الحكومات التي واجهتها ثورات الربيع العربي (يختلف اليمن بتركيبته القبلية عن بقية التجارب العربية). وبالرغم من أن الحزب الحاكم في السودان واجه تحدياً خطيراً بالمفاصلة الشهيرة التي قسمت الحركة الإسلامية السياسية إلى حزبين متناحرين، إلا أن الشق (الأكبر) الذي انحاز إلى النظام ظل يتمتع بقوة نسبية مكّنته من حراسة الحكم بفعالية استمدت قدراً كبيراً منها من الوهن والانقسام الذي يعاني منهما خصومه من القوى والتنظيمات الحزبية وغير الحزبية.
يشكّل انقسام المعارضة السودانية حول جدوى وإمكانية القيام بثورة أو انتفاضة أحد المعيقات الهامة لاندلاع هبة شعبية على نمط الثورات العربية. فالحزبان الكبيران ينخرطان منذ سنوات في مفاوضات وحوارات مع الحكومة للتوصل إلى صيغة لتقاسم السلطة وشكل الحكومة. ويتواصل السجال والجدل بين الأطراف حتى اليوم حول الحكومة الموسعة وحكومة الوحدة الوطنية وكيفية تقاسم الأنصبة فيها، بعد تجميد خيارات اقتلاع النظام والعمل العسكري المسنود بانتفاضة شعبية، بل مع الإعلان صراحة، كما في حالة السيد/ الصادق المهدي، بعدم ملاءمة الثورة الشعبية لحال السودان اليوم. وفي الضفة الأخرى من بحر المعارضة، تضغط جهات من أقصى اليسار وأخرى من أقصى اليمين للتعجيل بالانتفاضة الشعبية وإسقاط الحكومة وتقديم رموز النظام للمحاكمة. ويقف الشارع المعارض والموالي والمستقل محتاراً بين مواقف هؤلاء وأولئك. فكان حرياً بثورة يختلف أهلها وقادتها حول جدواها وإمكانيتها ووقتها وأسلوبها وسلاحها ومداها أن تنتظر محتارة ومرتبكة هي الأخرى.
عبد المنعم محمد علي- الدوحة
البريد الإلكتروني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.