على وقع مسار الثورات العربية، تصاعدت الموجة الاحتجاجية في السودان، البلد الذي يعاني أزمة مالية وعسكرية، حيث يذهب أكثر من ثلثي نفقات موازنته العامة للأغراض العسكرية، في ظل الحروب المفتوحة التي تعمِّق من حالة التدهور الاقتصادي، فضلاً عن أن الحرب كلفت الحكومة خسارة نحو نصف إنتاجها النفطي، بسبب التدمير الواسع الذي ألحقه الجيش الجنوبي بمنشآتها. بدأت موجة التظاهرات الاحتجاجية في منتصف يونيو الماضي، بمبادرة من مجموعات طلابية وشبابية، منطلقة من جامعة الخرطوم ذات الإرث التاريخي والسياسي. ولم تكن الإجراءات الاقتصادية الباعث الوحيد على تحريك الاحتجاجات، وإن كانت ذات تأثير مباشر في توسيع دائرة الغضب الشعبي على السياسات الحكومية، ما خلق تجاوباً مع التحركات الطلابية والشبابية تجاوزت أسوار الجامعة، لتنتشر الاحتجاجات في العديد من أحياء العاصمة (الخرطوم)، ولتمتد كذلك إلى مناطق ومدن أخرى. وعلى الرغم من الرصيد التاريخي الثوري للسودانيين سبق العرب بتفجير ثورتين عامي 1964 و1985 أطاحت بنظامين عسكريين، فإن الاحتجاجات السودانية استلهمت مسار ثورات الربيع العربي التي شكلت عاملا مشجعا للشباب السوداني. وأهمية التحركات الاحتجاجية هذه تأتي من كونها نجحت في كسر طوق سيطرة حكومية شبه كاملة على الشارع السوداني على مدار العقدين الماضيين، بفعل هيمنة الحزب الإسلامي الحاكم الذي أحكم قبضته الأمنية على كل التحركات الشعبية. وفي تجربتي الثورتين السودانيتين السابقتين كانت الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية تتمتع بنفوذ وتأثير سياسيين قويين، وهي العناصر الأساسية الفاعلة في التخطيط للثورة وفي تحريك الشارع. لكن عندما جاء نظام الحكم الحالي للسلطة بانقلاب عسكري في العام 1989، كانت أولى إجراءاته تفكيك مراكز العمل الثوري، فسارع إلى حل الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية، وعوضها بمنظمات نقابية موالية له، بعد أن كان العمل النقابي السوداني على مدى عقود بيد التيارات التقدمية واليسار. وساعد هذا التفكيك المنظم للعمل النقابي على حرمان معارضي النظام الحاكم من أهم مؤسسات العمل الاحتجاجي السلمي المعارض، وأدَّى إلى توسع دائرة المعارضة المسلحة المدعوم من الخارج. ارتباك وتصدّع حكومي تشكِّل موجة الاحتجاجات الحالية، رغم جنينيتها، تحولا نوعيا في المواجهة بين نظام الحُكم ومعارضيه، فقد سارعت الحكومة إلى حجب المواقع التي يستخدمها المحتجون لتنظيم التظاهرات وبث الفيديوهات. كما تبدو الحكومة متشنجة في التعامل مع الاحتجاجات، لعل ذلك يعود إلى أن أغلب العناصر التي تقف وراء تحريك الشارع لا ترفع شعارات حزبية، مع الإشارة إلى المشاركة الفاعلة للعنصر النسائي. كما تنشط عناصر شبابية حزبية متمردة على قيادات أحزابها المعارضة وتتهمها بالتقاعس عن مواجهة النظام الحاكم. ولعل الأمر الآخر المزعج للنظام السوداني، هو أن الاحتجاجات بدأت داخل مؤسسات الحزب الحاكم، قبل أن تنتقل إلى الشارع، وبشكل خاص من قِبل البرلمان، الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم، عندما رفض أعضاؤه نهاية العام الماضي عند مناقشة موازنة الدولة مقترح وزارة المالية رفع الدعم عن المحروقات. وعلى الرغم من التماسك الظاهر بمؤسسات الحزب الحاكم، فإن التصريحات العلنية المتناقضة والمواقف المتباينة لقادته تكشف خللا يتزايد عمقه في بنية النخبة الحاكمة، مع استمرار هيمنة مجموعة واحدة من القيادات على مقاليد الأمور في الحزب والجهاز التنفيذي طوال العقدين الماضيين، رغم تصاعد الدعوات للتغيير. كما تسبب الحراك الاحتجاجي في فرض المزيد من الضغوط الدولية على النظام، الذي يعاني أصلا منها، بسبب الوضع في دارفور، والعلاقات المتوترة مع دولة الجنوب، مع صدور انتقادات من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تندد باستخدام القوة المفرطة في مواجهة المحتجين. ولا تكمن مشكلة النظام السوداني في التظاهرات الاحتجاجية فحسب، بل في عدم قدرته على تجاوز الأزمة الاقتصادية الناتجة عن طريقته في إدارة الدولة، وهو ما قاد إلى المأزق الحالي. ويتفق الكثير من المحللين على أن الحزب الحاكم فشل في توقع تبعات تقسيم البلاد وسرعة حدوث آثارها السلبية، كما عجز عن الاستفادة من سنوات الرخاء التي كفلتها العائدات النفطية. والواضح من سياق تصرفات الحكومة السودانية مع الاحتجاجات، أنها قائمة على إنكارها، بدلا من مواجهة الأزمة بالحلول، معتبرا أنها نتاج مؤامرة صهيونية - غربية، والاعتماد على القبضة الأمنية والعنف في مواجهة المحتجين، وهو ما يجعل الباب مفتوحا لسيناريوهات مختلفة عما يمكن أن يؤدي إليه الصراع داخل أروقة الحزب الحاكم، بما في ذلك حدوث تصدع داخل النظام قد يدفع الجيش للتدخل. أما على صعيد الاحتجاجات، فهي مرشحة للتصعيد، ليس بسبب تنامي مطالب التغيير فقط، بل أيضا بسبب ارتباك النظام الحاكم في إجراء إصلاحات فعالة قد تسهم في تقليل الحماسة للتغيير، وخصوصا في أوساط الرأي العام الذي يطرح بشدة سؤالاً عمن يكون البديل؟ الحالة الاقتصادية فضلا عن ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية الخانقة ستشهد المزيد من التأزم خلال الفترة المقبلة، عندما يتضح تأثير الإجراءات الحكومية العميق في رفع الأسعار بشكل غير مسبوق، علاوة على انسداد أفق التوافق السياسي. لكن الاحتجاجات تعاني أيضا غياب قيادة مركزية تقود التغيير، إضافة إلى عدم وضوح الرؤية عن البديل المطروح للنظام الحاكم، رغم مبادرة التيارات المعارضة إلى التوقيع على برنامج بديل ديمقراطي، غير أن الخلافات أفشلت التوقيع على إعلان دستوري مقترح للمرحلة الانتقالية. ليبقى احتمال دخول الاحتجاجات الشعبية السلمية دوامة العنف المسلح واردا في حال اشتدت القبضة الأمنية للسلطات لها مع تزايد وتيرتها واحتمال تدخل حركات معارضة مسلحة على خط الأزمة. الطليعة