بقلم: الرشيد حميدة * الأستاذ موسى المبارك الحسن خطوات طموحة في مسيرة تطوير الصحافة السودانية التقيت منذ التحاقي بالعمل الصحفي في صحيفة الصحافة (المؤممة التي كانت تصدر عن دار الصحافة للطباعة والنشر) بمجموعة من علماء اللغة العربية المتمرسين في لغة الضاد ممن بلغوا شأوا بعيدها في آدابها وفنونها، وبعض الأعلام البارزة في مجال السياسة والادارة في السودان آنذاك وعملت معهم عن كثب مما أكسبني خبرة ودراية ساعدتني كثيرا في مستقبل حياتي العامة والصحفية على وجه الخصوص، وكان ممن التقيت بهم وعملت معهم الاستاذ المغفور له، باذن الله، موسى المبارك الحسن، الذي تولى منصب رئيس مجلس الادارة ورئيس هيئة التحرير بعد رحيل الدكتور جعفر محمد على بخيت، يرحمه الله، وحينها علق أحد الظرفاء قائلا: (الآن اصبحت صحف ابراهيم وموسى) يقصد صحيفيتي (الأيام) و (الصحافة) برئاسة الاستاذ ابراهيم عبد القيوم والأستاذ موسى المبارك. لقد كان موسى رجلا طيب القلب ، حلو المعشر، جم التواضع، والاخلاص، ناكرا لذاته، حفيا بالآخرين، وكنت حينها في أول مراحل حياتي الصحفية ، وله بعد الله برجع الفضل في توفيقي في مهنة الصحافة مهنة النكد بل بالعكس كان العمل معه ممتعا وله نكهة خاصة، كان جادا وقت الجد ومازحا خفيف الظل وقت المزح كان دائم الثناء على غيره يحب الخير للغير اكثر من نفسه وكان نعم القائد والقبطان للسفينة، ذي حنكة ادارية . بدأ يتلمس حاجات الصحيفة والعاملين منذ الوهلة الأولى من تسلمه منصبه، وكان اهتمامه واضحا بالحاجة الى تطوير الصحيفة والعاملين، وكرس جل وقته الذي قضاه في دار الصحافة من أجل ذلك الحلم، وهو الذي على يده انتقلت الصحيفة نقلة بعيدة في مجال الطباعة حيث ابتعث بعض الشبان والشابات العاملين في مجال الطباعة والجمع الى بريطانيا لكي يتلقوا تدريبا فنيا عاليا في مجال (الجمع التصويري)، وقام بانشاء قسم الجمع التصويري الذي شكل نواته أؤلئك الشباب القادمين من بريطانيا، وهي خطوة نقلت الصحيفة الى خانة مصاف الصحف العالمية انذاك، فقد استجلب اجهزة ومعدات حديثة قلصت وقت جمع الصحيفة واعدادها للطبع الى حوالى ثلاث ساعات. وقد قضت تلك الخطوة على جميع مشاكل الصحيفة المتعلقة بالجمع والاعداد والتأخير في الطباعة ومن ثم التوزيع، وكرس أجهزة وماكينات الطباعة التقليدية للعمل التجاري. وانتقلت الصحافة بهذا العمل الى عالم (الكمبيوتر) متصدرة القائمة في الوقت الذي كانت فيه الأهرام المصرية احدى كبريات الصحف العربية في منطقة الشرق الأوسط عالقة في النظام القديم التقليدي الذي يعتمد على قوالب الرصاص في جمع الصحيفة وطباعتها. وكانت (الصحافة) أول صحيفة في المنطقة العربية تنتقل الى عالم الصحافة (الكمبيوترية). وكان مهتما بكل امور الصحافة الصحفية والادارية ايمانا منه بأن كلا الشأنين يكمل الآخر. وكان اهتمامه لا يقف عند بوابة الاحتياجات المهنية للعاملين بل تعدى ذلك الى الجوانب الانسانية والاجتماعية لهم ويعني بالشئون الخاصة بلأفراد تأكيدا منه بدورها وتأثيرها على الانتاجية. وأذكر انه عندما تقرر ابتعاثي الى دار الاهرام في مهمة تدريبية صارحني قائلا: يارشيد عرس (جاياك قروش كثيرة)، وكأنه قد تنبأ بذلك فقد وضعت نصيحته تلك قيد الاعتبار وكانت هي الحافز لي الذي دفعني نحو (عش) الزوجية، بعد عدة اشهر من نصيحته تلك. بل كان دائم الاهتمام بي (وبكل الصحفيين والاداريين العاملين بالدار) بالرغم من مشاغله ومسئولياته الجمة فهو الذي أشار على ان اهتم بالجوانب الطباعية جنبا الى جنب بالنواحي الصحفية فكانت نصيحة غالية دلفت بعدها الى المطبعة لمعرفة اسرار النواحي الطباعية التي افادتني كثيرا من بعد في المجال الصحفي. وكان قليل الكلام، ولكنه اذا تكلم فانما يتكلم حكما وكثير التأمل، تراه دائما وهو مشغول بأمر ما، ينظر دائما الى المستقبل البعيد، لذلك فقد اهتم بمستقبل الدار من الناحية المهنية وتطويرها لتصبح مركزا للاشعاع الثقافي، فهو الذي قام بتأسيس مجلة (المستقبل) التي صدرت من دار الصحافة بفضل من الله ثم مجهوداته المتواصلة وسعيه الدؤوب نحو تطوير (دار الصحافة)، واسندت رئاسة تحريرها الى الاستاذ طه عبد الرحمن، وفي الوقت ذاته أثمرت جهود التطوير التي قادها الفقيد عن ميلاد (شقيقة) اخرى لاصدارات الصحافة هي (مريود) مجلة الطفل المتخصصة التي تعنى بالأطفال وتقلدت رئاسة تحريرها الدكتورة الكاتبة الصحفية القديرة والرائدة في هذا المجال بخيتة أمين التي لا تزال تواصل عطاءها من خلال عمودها (المخضرم) جرة قلم، ولها التحية والتجلة من هذا المنبر. وكان فقيدنا مغرم يحب العمل ولا ينقطع عنه مهما حصلت له من ظروف، وكان في كثير من الأحيان يتصل من منزله أو مكان اقامته (داخل البلاد أو خارجها) سائلا ومستفشرا عن (سير) العمل والمعوقات والصعوبات. وكان لا يكتفي بالمكالمات الهاتفية، بل كان يفاجئنا بالحضور شخصيا عند منتصف الليل أو في ساعات الفجر الأولى متفقدا العمل، مما أوحى الى العاملين أنه دائما معهم فكان الكل يحرص على العمل بنفس المستوى الذي عودهم هو عليه بنفسه، ولا يكتفي بالجلوس في مكتبه بل كان (ميدانيا) كثير التجوال متفقدا للعمل في جميع مرافقه وللعاملين في جميع مكاتبهم مستقصيا ومتفقدا وناصحا وموجها، وكان اسلوبه فريدا في الادارة. وفي الظروف الصعبة كان يباشر العمل بنفسه متدخلا لحل مشكلة تتعلق بتوفير ورق طباعة الصحيفة أو متعلقة بالطباعة أو أي مشكلة قد تؤثر على سير العمل على نحو سلس. وقد كان الفقيد من صنف الذين لايكلون ولا يملون العمل، لدرجة أنه نصب سريره بمكتبه ابان (غزو) المرتزقة للخرطوم في المحاولة المعروفة لقلب نظام (مايو) وكان يتلقف التقارير الوارده من ميادين الأخبار وكنت حينها المسئول عن تغطية المحاكمات العسكرية المتعلقة بتلك الأحداث فكان يترقب وصولي ليقرأ بلهفة ما كتبته من تقارير ويوجه بالنشر حسب السياسة الاعلامية، وابان تلك المحاكم العسكرية وغيرها امتدح الناس وجمهور القراء (نهج) الصحافة في مصداقيتها وحياديتها عند نشر الأخبار و نقل أقوال المتهمين وافاداتهم لدى المحاكم ولجان التحقيق والتعليق عليها بفضل سياسته وحنكته وخبرته وركونه دائما الى الموضوعية واسلوب الحوار الهادئ ومقارعة الحجة بالحجة. هذه مجرد لمحة عن سيرة الفقيد في دار الصحافة، وقد مرت فترة عمله القصيرة بمعيار الزمن، المديدة الطويلة بمعيار الانجاز والعمل، مرت بأسرع مما يمكن ان يتصور المرء، كما أن المرض قد حال بينه وبين تحقيق الكثير من طموحاته وأحلامه لدار الصحافة التي كان فقدها له عظيما، ففي فترة عمله تلك الوجيزة شهدت الصحافة انجازات عظيمة في قمتها تلك النقلة الكبيرة الهامة، التي دفع بها الصحيفة من خانة التقليدية و(السلحفائية) الى عالم الكمبيوتر المتقدم والمواكبة للثورة التقنية الأمر الذي مهد لها مستقبلا أن تطرق على باب (الحداثة والتطوير) قبل رصيفاتها العربية. وكان متفائلا بمستقبل زاهر للصحافة ولكن المنية لم تمهله، وقد كان يسابق الزمن وكأنه على علم بان الدنيا لم تمهله لتنفيذ خططه وبرامجه، وفوجئ الناس عند وفاته أنه كان يصارع المرض طيلة ذلك الزمان الذي كان ينفذ فيه خططه، وقد كان باديا لهم في كامل صحته وعافيته ولكنه كان كتوما للألم وعنيدا يقاوم المرض حتى آخر لحظه من حياته ووقع خبر وفاته على الناس كالصاعقة، ورحل موسى والناس مذهوله فالرجل لا زال في عنفوان شبابه وقمة نشاطه وفورة انجازاته. ... طبعا لما توفي المرحوم لم أكن أعرف شيئا عن اسرته وبقيت الذكريات وبقي الألم والحزن عالقا في دواخلنا يعتصرنا ، لقد كانت جنازة الفقيد استفتاء عاما كشف عن شعبية ومحبوبية موسى المبارك حيث سدت الجموع الافق مشيعة جثمانه الطاهر، لقد غاب عنا بجسده ولكن بقي معنا بعمله وسيرته الطاهرة تسعى وتصول بيننا لقد كان فقدا عظيما. الا رحم الله موسى وجعل البركة في ذريته. *صحفي سابق في صحيفة الصحافة السودانية في الفترة ما بين فبراير 1975- مايو 1979 alrasheed ali [[email protected]]