منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأيام الأخيرة لعظيم النوبة .. بقلم: عبد المنعم محمد علي- الدوحة
نشر في سودانيل يوم 20 - 11 - 2011


البريد الإلكتروني: [email protected]
لم تكتسب رحلتي الأخيرة لوادي حلفا في يوليو الماضي، بعد سبع وأربعين سنة من الهجرة، فرادتها وصبغتها العاطفية الطاغية من مجرد الفارق الزمني الضخم الذي يفصلها عن آخر عهدي بالبلد القديم، بل لأنها إلى جانب تاريخيتها كحدث في حياتي، وتلال الذكريات والأشجان والمشاعر التي أثارتها من مكامنها، رحلة حرّكها في التوقيت الذي جاءت فيه شوق باطني عارم للقاء عظيم النوبة والجلوس إليه ولو لساعة واحدة بعد أن قالت التقارير أن الرجل الكبير في الأيام الحرجة الأخيرة من حياته.
نذرت أن أرى الحاج محمد،،، وأن لا أسمع برحيله خبراً منقولاً عبر الهاتف.
ظللت طوال الأيام والساعات التي كانت تفصلني عنه منذ ميلاد فكرة رحلتي في الدوحة أسأل الله في سري وجهري أن ألتقيه مشاهدة.
وصلت الخرطوم،،، ثم ركبت تلقاء مقصدي،،، أحسب الوقت بأعصابي خلال مسافة الطريق من أمدرمان إلى وادي حلفا،،، أترقب مخافة أن يقول القضاء كلمته قبل أن استوفي نذري.
كانت معرفتي بالأرض والقرى النوبية التي إلى الجنوب من وادي حلفا لا تزيد عن الخطوط التي ترسمها الخريطة والمعرفة الذهنية التي توفرها علوم الجغرافيا والتاريخ،،،، والآن تنبسط تلك البلدات والنجوع أمام ناظري كحبات من عقد منظوم بطول شريان الشمال،،، وبإمكان عيني هذه اللحظة أن تلتهم كل تلك الجغرافيا التي ظلت عصية المنال لنصف قرن قطعة بعد قطعة في سفرة مفردة لا تزيد ساعاتها عن المدة التي تستغرقها السيارة ذات الدفع الرباعي لقطع مسافة طريق الإسفلت الجديد من أمدرمان إلى وادي حلفا.
كانت الرحلة مزيجاً من الترقب المتوتر والمتعة الروحية التي لا حد لها ولا مثيل،،،
كلما خفت قلقي،،، ذهبت ببصري أتجول على امتداد الأفق أمامي وبجانبي،،،
ولكن الهاتف لا يتوقف عن قطع حبال فكري،،، وعن إشغال عيني عن التطواف في كل هذه الآفاق التي تندلق عن يميني ويساري.
كلما رن هاتفي خلال الطريق وأجد صديقي أبوبكر في الطرف الآخر يرتجف قلبي،،، أقول قد قضى الأمر،،،
فأتعجله بالسؤال عن الحال،،،
فيطمئنني،،،
كان أبوبكر بدوره يود أن يطمئنّ من حين لحين على سلامتنا في الطريق الطويل إليهم.
كنت قد التقيت الحاج مشاهدة آخر مرة في أواسط الثمانينيات في القاهرة،،، وظل تواصلنا بعد ذلك عبر الهاتف في المناسبات الهامة وعلى فترات متباعدة،،،
والفارق كبير بين أن تلتقي رجلاً كالحاج محمد أحمد عثمان وأن تسمعه،،،
ورغم أن الهاتف كان ينقل صوته الذي لا تخطئه الأذن،،، إلا أن الصوت القادم عبر خطوط الهاتف لم يكن يقول سوى القليل عن أسرار عظمة صاحبه في غياب المشاهدة الحية التي تلتقطها العين.
كان الوقت عصراً حين وصلنا وادي حلفا في نهاية رحلة تزاحمت في ثناياها فصول التاريخ والجغرافيا،،، وبلغت فيها عروق العصب وشرايين القلب حد الانشطار من فرط الوجد.
تناولنا الغداء الذي كان قد أعد لاستقبالنا بمنزل صديقنا أبوبكر على عجل،،، نهضنا قبل أن نكمل كأس الشاي.
لم يكن بوسعي سوى تأجيل كل شيء إلى حين بلوغ غاية نذري،،، لم أنشغل حتى بالنظر إلى نواحي هذه المدينة الجديدة التي انتظرت رؤيتها كل تلك العقود الطويلة.
سمعت بالحي الرابع (بلك أربعة) كثيراً خلال العقود الأربعة الماضية من أبناء مدينة وادي حلفا (ما بعد الهجرة) ،،، إنه هو الحي الذي يضم أكثر أبناء صرص وسمنة،،، ولكنه اكتسى اليوم معاني لم تكن تمتّ إليه حين كنت أسمع به من بعيد،،، إنه وجهتنا هذه اللحظة وليس مجرد الحي الذي بنيت معالمه من خيالي خلال أربعين سنة،،، وبإمكاني أن ألامس ترابه،،، وأتنفس هواءه،،، وأن ألتقي فيه بالرجل الذي كانت له اليد الطولى في صناعة تاريخ كل هذه "المستعمرة" الجديدة التي ورثت اسم وادي حلفا بعد أن توارت المدينة الأصل في أعماق مياه بحيرة النوبة وتحت جبال طميها.
لم أشك لحظة حين دخلنا أول بيت في الحي الرابع أن الجسد الممدّد على السرير المرفوع من جهة الرأس في قلب الصالة الفسيحة هو جسده،،،
حتى لو لم أره لثلاثين سنة فما كان لعيني أن تخطئ فيمن يكون هذا الرجل الناحل،،،
القامة المديدة،،، والعظام الضخمة،،، وأصابع اليدين ذات الطول الفائق،،، والأنف المعقوف كرجل من عرب الرشايدة،،، والعيون التي تشع محبة وسؤدداً ونبلاً،،،
إنه هو هو،،، عظيم النوبة*،،،
لم يتبدل في جوهره شيء حتى بعد أن أجهده الداء وأحال جسده إلى جلد ملتصق بالعظم.
يومئ بأصبعه السبابة، فتتطلع إليه عيون الحاضرين في انتباه،،،
يصمت الذين كانوا يثرثرون همساً،،،
ويتوقف الذين كانوا يمشون،،،
ويتأنّى الذين كانوا يهمّون بالجلوس،،،
ويهرع رجلان أو ثلاثة نحو سريره أو باتجاه إشارته.
لا يخطئ أحد من الذين حوله في تفسير لغة أصابعه،،، كما لو كانوا قد تلقوا تدريباً خاصاً على شفراتها.
قد يحتاج تنفيذ تعليماته أحياناً لثلاثة من أبناء عمومته القائمين على خدمة الضيوف في وقت واحد،،، يشرع أحدهم في صب الشاي للقادم الجديد الذي لم يتنبهوا له إلا حين أشار هو إلى المقعد الأخير الذي جلس عليه من الصالة الرحبة،،، ثم يزيح الأكواب الفارغة من الطاولات التي أمام الجلساء،،، ويدلف آخر من الباب الخلفي للصالة إلى غرفة العمليات لإحضار مزيد من احتياجات الضيوف من المشروبات والأطعمة،،، فيما يذهب ثالث ويحني رأسه قريباً من أذنه ليفسر له بعض ما غمض عليه من أحوال مجلسه.
ثم يشير مرة أخرى،،، فيقوم أربعة من الشباب الأشداء فيمسكون بسريره من أطرافه ويحركون وجهته إلى حيث أشار.
ثم ينقر على وصلة الأنبوب المغروز في ساعده، فيهرول أحد المدربين فينزع عنه إبرة "درب" التغذية،،، ويمسح نقطة دم صغيرة صعدت إلى موضع الغرز بقطعة قطن.
كان "عظيم النوبة" في مرحلة مماثلة من تطور نهاره حين دخلت عليه عصر ذلك اليوم.
احتضنت كثيرين مسلّماً في مسافة طريقي إلى سريره،،، أهتف بأسماء البعض ممن ميزتهم،،، وأغمغم بحق آخرين ممن لم أعرفهم،،،
وحين وصلت إليه أمسكت بيده الممدودة فوق فراش السرير بكلتا يدي برفق كمن يمسك بفرخ طائر غض بين أصابعه،،، وتمتمت طويلاً بما تيسرت لي من عبارات التحية،،، والسعادة البالغة بالالتقاء،،، والأمنيات والدعوات الخالصة بالعافية،،،
ثم سكن لساني،،،
فطفقت أتحدث إليه بعيني،،،
فيرد هو بما فهمت ولم أفهم من كلام عينيه،،،
ثم أومأ لي بأصابع يمناه الطويلة بأن أجلس على طرف سريره،،، فجلست يلامس جسدي جسده،،، وتشابك أصابعي أصابعه فينة بعد فينة،،، وتتحدث عيوننا طوراً وتتعانق طوراً.
وحين قدّرت أنني بلغت حد ما يتحمّله الجسد الواهن من تناجينا المرموز،،، انصرفت إلى مقعد قريب منه دون أن أحول بصري عنه،،، فجلست أذهب بناظري وأجيء في نواحي جسمه،،، كان بإمكاني النظر من وراء الثوب الشفاف الذي كان على جسده والملاءة الرقيقة التي تغطي نصفه الأسفل إلى الصرة فأرى عظام أضلاعه البارزة ضلعاً ضلعاً كما في رسم توضيحي ،،، وأصابع قدميه اليابسة وقد التوت بعضها على بعض كجذور نخلة أنهكها العطشً،،، وأن أتأمل هيكل جسده الطويل الممدد عظماً ممسكاً بعظم كجسد مومياء.
راحت فأرة ذاكرتي تنتقل من ذاتها بين صفحات الحاضر والأمس،،، وفي لحظة من حركتها بين مطويات الزمن استعاضت ذاكرتي بالجسد الفاني الذي أراه أمامي إهاب فتىً فتيّ قسيم ينضح فتوة وشباباً كما كنت أراه في الصباحات الباكرة من أيامي بمدرسة صرص الأولية حين كان محمد أحمد الشاب يتولى لوحده ذبح الخروف وسلخه وتقطيعه في الفضاء المرتفع بين المدرسة ودكانه،،، كان ذلك في الفترة التي عمل فيها متعهداً لداخلية المدرسة،،، كنا نحن بعض صبية المدرسة نجلس قبالته للفرجة،،، ذاك الرجل الطويل المفتول بلونه القمحي وذقنه الحليق وشاربه الأسود،،، وهو يأتي بالكبش الأقرن فيحيله خلال نصف ساعة إلى قطع من اللحم والعظم،،، ثم وهو يحمل اللحم النيئ في صينية إلى مطبخ الداخلية حيث يتولى الطباخون تحويله إلى طعام شهي لبطون كانت تنبح دوماً من خوائها.
لو كان لنا عقل يفكر لأبعد من صحن فول الفطور وغداء الباذنجان واللحم الذي نقتسمه بالسوية أو بالحيف لرأينا في ذلك التاريخ الباكر ملامح عظيم النوبة موشومة في طويّة ذلك الشاب النبيل،،، لكننا في جوعنا البدائيّ الأقرع لم يكن يهمنا منه غير صورة التاجر الذي يبيعنا الطحينية الشهية والقصّاب الذي يضمّخ أيامنا برائحة اللحم المطبوخ مع الفاصوليا في قدر عمنا جارون.
قيل لي أنه أمسك عن الكلام قبل أسبوعين،،، وأحجم عن تناول الطعام والشراب منذ ما يزيد عن أسبوع،،،
لكن من يرى توقد عينيه وحضور ذهنه ويقظة ذاكرته يتوهم أنه لازال بخير رغم ما به من إعياء ووهن.
المغذي الأنبوبي (الدرب) كان يتولى إمداده بالطاقة الضئيلة التي يحتاجها جسده لمزاولة أنشطته الحيوية المحدودة خلال نهاره وليله،،،
وكانت أصابع يده اليمنى تكفيه ليقول ما تبقت له من حاجة للقول.
كان قد أيقن أن عليه أن يغلق دفاتره قبل شهر من مجيئي إليه،،، فشرع في كل ما يقتضيه ذلك بجده المعهود وشجاعته التي لا تشوبها رهبة وعزيمته التي لا تلين ولا تهادن.
وبينما كان مرافقوه في رحلة علاجه الأخيرة للخرطوم يعدون أوراق السفر ويضعون الأختام على جواز سفره ويتصلون بالطبيب الأجنبي الذي سيجري له العملية في الخارج،،،، كان الحاج يرتّب أمره باتجاه آخر،،، وفي اليوم الذي اختاره قال لمرافقيه: "سأعود إلى حلفا،،، رتبوا لسفرنا إليها".
كان يدرك كغيره حجم الإرباك الذي يلحقه السفر لحلفا بخطة الرحلة الأخرى التي أعدوا لها للخارج،،، رجوه أن يؤخره لوقت بُعيد رحلة علاجه،،، لكنه أوضح لهم بحزم أنه سيسافر لوجهته التي حدّدها،،، يقول أحد مرافقيه أنه عندما توسلوا إليه بأحد أخلص خلصائه ليثنيه عن السفر للبلد،،، قال معاتباً صديقه الوسيط الذي أبان له حاجته للعملية قبل العودة لحلفا: "ما هذا الذي تقوله يا حاج عبده ؟ كنت أحسبك أعقل من هذا".
كان يدرك كغيره حجم الإرباك الذي يلحقه السفر لحلفا بخطة الرحلة الأخرى التي أعدوا لها للخارج،،، رجوه أن يؤخره لوقت بُعيد رحلة علاجه،،، لكنه فاجأهم بأنه لن يسافر إلا لوجهة واحدة هي تلك التي حدّدها،،، يقول أحد مرافقيه أنه عندما توسلوا إليه بأحد أخلص خلصائه ليثنيه عن قراره ويزيّن له السفر للعلاج بمصر،،، قال معاتباً صديقه الذي جاءه يشرح له حاجته للعملية: "ما هذا الذي تقوله يا حاج عبده ؟ كنت أحسبك أعقل من هذا".
وحين وصل إلى بيته وآوى إلى سريره الذي كان يتمدد فيه أمامي قال للذين جاءوا إليه يحثونه على الذهاب لمصر لإجراء عملية الاستئصال: "شكر الله سعيكم،،، لا حاجة لي في طبيب،،، دعوني أستريح بين أولادي وأهلي"،،،، فتركوه لما اختاره مكرهين،،،، لكن لم يعاتبه أحد في نهاية الأمر لثقتهم في حكمته وحسن تقديره ولعلمهم بما أسر به الطبيب من أنه قد عز الرجاء لما آل إليه حاله من تفاقم الأدواء ووهن الجسد.
كان يعلم تماماً مثل الذين حوله أنه يتناقص كل يوم بمقدار،،، كما كان يعلم يقيناً أن الأمر لن يزيد على أسابيع بعدد أصابع يد واحدة ليجد نفسه في مواجهة لحظته الحاسمة.
كان مجلسه الذي لا تفرغ مقاعده من الزوار والملازمين له ينتظر بدوره لحظة غامضة في الأيام المقبلة،،، كان الملازمون الذين لا يطيقون الابتعاد عنه خلال ساعات النهار أو الليل يحسون أكثر من غيرهم بذلك الغموض الذي يكتنف انتظارهم،،، لكن لم يجرؤ خيال أحد منهم في الذهاب إلى أن الأمر قد ينتهي خلال أيام قليلة بانزواء السرير الذي أمامهم فارغاً إلى مكانه في الغرفة المجاورة للصالة وانفضاض المجلس وانصراف رواده لشئون أخرى غامضة.
ولم يكن الحديث الهامس الذي يخوض فيه الرجال الجالسون حول سرير الرجل أو القادمين إليه من الأماكن القريبة أو البعيدة من مألوف القضايا التي يتطرق إليها زوار مثله من المرضى في أريافنا ومدننا،،، لم يكن أحد يتطرق في شرح فوائد التنوم أو الحبة السوداء لحالة المريض،،، ولم يبادر أحدهم بتقديم دواء قال أنه يحتفظ به منذ عشرين سنة لما جرّبه من نجاعته في علاج أمراض الباطن،،، ولم تقل امرأة مسنة جاءت تستند على عصاتها أن خلطة "الهبرّي" و"ارشادن هبّي" والكمون ترياق "أدو-ويدو نافيننا" (يجدر إخفاء سرّه عن العدو) يشفي من كل داء حتى الفالج ،،، بل كان الجميع يأتون فيحيونه من مسافات متفاوتة بحسب درجات القرب أو البعد منه،،، أو بحسب مقام القادم أو سنه أو قرب وبعد المكان الذي أتى منه،،، ثم إذا جلسوا في مقاعدهم وصادفوا في جوارهم من يأنسون إليهم ويحادثونهم خاضوا في كل شأن سوى الرجل المريض ومرضه، أو ماضيه أو حاضره، أو مآله ومآل الناس بعده،،، كان الجميع قد أيقنوا أن أمر الرجل قضاء علوي قاهر أكبر من أن يفتي أحد منهم فيه بشيء،،، حتى أخف زوار المجلس عقلاً من النساء والرجال الذين نخر الخرف أذهانهم والدراويش الذين يخوضون في أحاديث يتشابك فيها الواقع باللامعقول كانوا يحجمون عن كل كلام يتصل بالرجل أو بما يفيده وما لا يفيده، أو بما يتوجب وما لا يتوجب من العمل حياله.
في ظاهر الأمر، كان الوقت يمضي في الصالة الفسيحة بروادها والرجل المسجّى أمامهم على نحو بدا رتيباً لا يطرأ فيه جديد،،، ظل الحال على ذلك لمدى أيام،،، حتى القلق الذي كان يستبد بقلوب الحاضرين لم يكن يعبّر عن نفسه بفعل أو قول يمكن التقاطه بالعين أو سماعه بالأذن،،، والمريض الذي كانت الساعات تنزلق به شيئاً فشيئاً نحو خاتمته لم يكن يتغير في ظاهر حاله شيء يلحظه الحس،،، مضت أيام ثلاثة على هذا الحال منذ جئته مسلماً لأول مرة.
في عصر اليوم الثالث من مجيئي إلى هنا رن هاتف مضيفي أبي بكر،،، كنا في بيته بُعيد الغداء نتهيأ للذهاب إليه،،، ضغط أبو بكر على الزر الأخضر في هاتفه وأنصت لبرهة،،، قرأت الخبر في تمعّر وجهه وتعثر لسانه،،، قال لي حين أفاق من وطأة ما سمع: "الرجل يحتضر".
وصلنا خلال دقائق،،، ثم هرعنا إلى الغرفة التي بجوار الصالة حيث نقل السرير،،، كان قد لفظ آخر أنفاسه أو كاد حين وقفنا فوق رأسه،،،
الحزم البادي في إغماضة عينيه كان يقول أنه لن يفتحهما أبداً،،،
مسحت بناظري الجسد المسجّى بطوله،،، ثم بعدت عنه قليلاً وطفقت أعاين الموت الذي تلبّس حديثاً بجسده،،،
لم أبك،،، ولم تطفر دمعة من عيني،،، كما هي عادتها في ساعات الهول،،، ثم تنبهت لمن يذهبون ويجيئون حولي في الغرفة،،، وحين أتوا بالماء والحنوط وهمّ رجال مشمرون بغسله ودّعت الجسد المسجّى بقلبي وانتزعت قدميّ نحو الصالة،،، واندمجت فور انتقالي خارج الغرفة في الطقس الكثيف الذي أحدثه عويل النساء ونشيج الرجال.
صلّت حلفا المغرب في فضائها الشرقي بجوار المقابر،،، لم يتخلف صغير ولا كبير،،، ثم صلوا على الميت بعد صلاة المغرب،،، ثم مضى الجميع يحثون التراب على قبره.
ثم توالت أيام العزاء،،، حضر المعزون من المدن البعيدة في الشرق والغرب،،، وجاءت الحكومة بواليها وضباطها وكبار رجالها،،، وجاءت السكوت والمحس ودنقلا،،، وجاء البدو من مضاربهم،،، وجاء الفور والنوبة من كنابيهم في أطراف المدينة،،، وجاء الفلاحون والصيادون من أكواخهم المتناثرة بطول النيل جنوباً،،، جاءوا جميعاً يبكون وتتعالى أصواتهم الثكلى في سماء المدينة.
في ختام ليالي العزاء، راح الخطباء يتبارون في تأبين الفقيد،،، صعد أولهم وأسهب،،، ثم صعد آخر وقال وبكى في خطبته،،، وجاء ثالث وهز أعطاف اللغة،،، وتوالى مهرجان الخطباء واحداً بعد آخر،،،
لم يقولوا جميعاً إلا صدقاً،،، ولم يتوان أحد في قول أبلغ وأجود ما يستطيع،،،
لكنهم جميعاً لم يقولوا شيئاً في الحقيقة،،،
وقفت فصاحة اللغة وتعطلت بلاغة الخطباء عند سدرة منتهاها،،، ومبلغ تعبيرها وغاية بيانها،،،
وحدها دموع الرجال قالت فأفصحت وأوفت عظيم النوبة بعض ما يستحق.
إذن أدركت المنية "الحاج" أخيراً،،،،، وقد كان ملئ السمع والبصر لما يزيد عن سبعين سنة،،،،، حتى توهم كثير من الناس أنه سيبقى للأبد ولن يرحل،،،، كما النيل، وكما الجبال النوبية التي تحرس الأرض والتاريخ على ضفتي النهر،،،، وأنه لن يذهب كما الآخرين،،،
لكنه رحل أخيراً.
مات الحاج لحزن الجميع،،، فتلبدت المياه في بحيرة النوبة،،،
واغبرت السماء،،،
واهتزت الجبال في بطن الحجر،،،
وتعالى عويل النساء،،،
وانهمرت دموع الرجال العزيزة،،،
لقد حق لهم جميعاً أن يحزنوا،،،،،،، وأن يتشحوا بالسواد،،،
فقد مات رجل.
معذور من توهم أن "الحاج" سيبقى هرماً شامخاً لا يدركه الفناء،،،،، فقد ظل لما يقرب من نصف قرن كبير وادي حلفا ورجلها وسيدها وزعيمها وابنها وأباها،،،،
ولد الصغار تحت ظل أبوته ورعايته وزعامته وكبروا وشاخوا،،،،
وتشرّبت الأجيال بعد الأجيال محبته وتوقيره وتبجيله مع هواء التنفس وماء الشراب،،،،
وتعرفوا على عظمته وحفظوا سيرته في مقاعد الدراسة ومن حكايات النساء وحداء الرجال،،،
ومات الكبار مطمئنين أنهم تركوا وراءهم "الحاج" حفيظاً،،، أميناً،،، حادباً على الضعفاء الذين تركوهم خلفهم،،، وقيّماً موثوقاً على ميراث القبيلة.
جاء كثيرون وذهبوا،،،، فيما ظل "الحاج" وحده عبر عقود متطاولة من الزمن رجلاً من معدن لا يصدأ ولا يشيخ ولا يدركه الوهن.
فقد جمع الحاج في إهابه عناصر الزعامة،،، وخصال الرجولة،،، وفضائل الأولياء الصالحين.
أتته الزعامة تجرجر أذيالها دون أن يسعى إليها،،، كما يأوي الطفل الوليد إلى حجر أمه.
لم يقل للناس يوماً أجلسوني على كرسي الرئاسة،،،
ولم يقل لهم رشحوني لمقعد المجلس أو ارفعوني لمنصب شيخ البلد وزعيمه المفوض،،،،
ولكن الناس فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم لعلمهم بما هو مجبول عليه من مواهب القيادة،،،،
ولثقتهم في صدقه وعدله،،،،،
ولإجماعهم على محبته.
فكان الحاج زعيم وادي حلفا ومندوبه الدائم عبر مختلف عهود الحكم،،، وتبدّل نظم التمثيل النيابي،،،، برغم ختميته طريقه واتحاديته توجهاً سياسياً.
ولأنه أب الجميع وكبيرهم،،،، فقد كان ضيوف البلد من كافة الطبقات والمشارب والأحزاب والطوائف وجميع المسئولين لمختلف الحكومات هم ضيوف الحاج،،، يعامل الجميع بالسوية،،، ويتعهد الجميع بالرعاية،،، ويغرق الجميع في فيوض كرمه المشهور،،،
والكرم كان سجية نفسه،،، فإذا ذكر الحاج ذكر الكرم،،، الكرم الخالص المبذول لذاته والمتجرد مما عداه،،،،،
كرم كريم ينبجس الخير منه كانبجاس الماء العذب من العين،،، كرم يحمل دمغته ولا يشابه كرم غيره من الكرماء،،،
كرم كبير القوم الذي يغسل أيدي ضيوفه،،،
لم يعرف الناس قبل الحاج ولا بعده زعيماً يمسك بالإبريق ويغسل أيدي الناس،،، تواضعاً لله دون ملق،،، فإذا عاتبوه في ذلك قال لهم "وما يضيرني في إذلال جسد سيأكله الدود"،،،
ولم يتوقف الحاج عن الجود.
كان جواداً يوم كان عريض الثراء،،،
وجواداً كريماً حين تراجعت تجارته،،،،،
وعلى نفس الجود والكرم يوم أصبح مجرد رجل ميسور الحال،،،
وقد أنفق جل ماله في سبل الخير دون أن يخاف على ما يبقى منه لورثته.
تصدى الحاج لقضايا مدينته بروح الزعيم المفطور،،، لا بحذلقة السياسي المحترف،،، وبدافع المحبة والإيثار والفداء،،،
وتبنى مظالم النوبيين،،، وحاور الحكومات والوزراء والرؤساء من مختلف المشارب والأهواء السياسية وجادلهم وصادمهم،،، ولكن مستبقياًَ دائماً بينه وبينهم شعرة معاوية التي لم يدعها تنقطع قط،،،،، بحكمته وسعة أفقه وأريحيته وقوة منطقه وجده ومثابرته،،،،،،،،
لكن السر الأكبر لأسلوب قيادته فكان يكمن في قدرة الحاج على فرض احترامه على الجميع،،، ولم يكن ذاك من مهابته أو مكانته في قومه فقط ،،، ولكن بسبب من أدبه الجم واحترامه هو أولاً للصغير والكبير والرفيع والوضيع.
أما الغراء الذي كان يمسك بمعاني الخير التي كانت تزخر في قلب الحاج فقد كانت المحبة،،، فقد خاض الحاج غمار الحياة على مدى سنوات عمره على محبة الناس وبمحبتهم،،، واصطبغت أيامه ظاهراً وباطناً بحبه للآخرين وبحب الآخرين له.
كان الحاج محمد أحمد عثمان في إيجاز: كتاباً مكتمل الفصول من الفضائل والأخلاق والجمال والعفاف والطهر،،،
فماذا يفعل الناس حين يموت رجل هو جماع الخير والفضائل؟ ويوم ينهد عماد من أعمدة الطهر والنبل؟،،، وحال يترجل فارس بقامة الحاج محمد؟
ليس لهم سوى أن يجأروا بالبكاء ويشرقوا بالدمع!
رحمك الله يا حاج محمد،،، لقد عرفت حلفا طعم اليتم المرّ يوم رحيلك،،،
جمعنا الله معك في مستقر رحمته في علياء جنانه التي وعدها عباده الصادقين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.