كنت الحفيد الأقرب الى جدتي الدنقلاوية زينب بت الحرم . و ربما لأنني كنت اشقى احفادها . و كنت اهرب اليها عندما اجد تهديداً بالضرب . و كنت اقضى معها الاجازة المدرسية في منزلها في بيت المال فريق السيد المحجوب . و عندما كنت في العاشرة كان معي ابن خالتي بابكر محمد عبد الله عبد السلام ، و شقيقه الاصغر عمر الذي صار ضابطاً على رأس المخابرات العسكرية ، و شقيقتهم رجاء . و لم تكن شيطتنتنا تتوقف خاصة في حيشان بيت المال . و الحوش يفتح في الحوش ، و الجميع أهل . و في الصباح و انا في العاشرة من عمري عرفنا أن خالنا ميرغني ابتر سيأتي للسكن معنا . و ميرغني هو ابن عم والدتي . و في المساء حضر شاب في حوالي العشرين من عمره , و هو وسيم ، أنيق الثياب ، كان معتداً بنفسه . و كان قد اتى مبعوثاً من النقل الميكانيكي في كسلا لكورس في النقل الميكانيكي في بحري . ميرغني كان ميكانيكياً و سائقاً . إلّا انه كان ينتقى ملابسه بدقة و يحافظ على نظافته و مظهره ، كما كان منضبطاً يحب النظام . الخال ميرغني كان من المفروض ان يذهب مشياً لمعدية شمبات في ابروف كل يوم، فالكبري لم يكن قد شيد بعد ، ثم يركب البصات الى النقل الميكانيكا على ضفة النيل الازرق . و كانت خالاتي آسيا و اسماء رحمة الله عليهن يستيقظن في الفجر ، و يحلبن الغنماية ، و يحضرن له الشاي . أول دروس الخال ميرغني كانت أن لا نفتح فمنا عندما نأكل . و أن نأكل ( براحة ) . و ان لا نقبض على الرغيف بيدينا الاثنين و نرفعه الى أعلى . بل نترك الرغيف في الصينية و نقطع القطعة التي سنأكلها . و كنّا ننسى في بعض الاحيان . و يكون الامر تحذيراً ، ثم ضربة على اليد . و قد ينتهي الأمر بكف ( صاموتي ) . عمر متعه الله بالصحة كان ينسى كثيراً . و قبل ان يقع الكف يبدأ في العويل . و عندما كان يحضر لزيارة والدتي بأستمرار في لندن عندما كان مبعوثاً ، كنت اذكره بكف الخال ميرغني و نضحك . بعد تلك الفترة رجع الخال ميرغني للألتحاق بالتدريب المهني ، و كنت قد صرت ملاكماً و لي كثير من الأصدقاء الميكانيكيين . أحدهم عثمان ناصر بلال و أحمد محمد صالح و قدوم زعلان و آخرين . و كانوا زملاء للخال ميرغني . المنزل كان مليئاً بكثير من الشباب ، منهم التجاني محمد التجاني سلوم ، الذي صار فردة الخال ميرغني و شقيق صلاح التجاني و عبد المجيد محمد سعيد العباسي و حمودا ابو سن . و بدر الدين احمد الحاج و شقيقه معتصم . و شقيقي الشنقيطي رحمة الله عليه . و كان هنالك آخرون يتواجدون بكثرة . كانت تلك فترة جميلة استمتعنا فيها بليالي العباسية . فالخال ميرغني كان يعزف العود . و لفترة سكن معنا ابن عمتي و الاستاذ في الاحفاد ، الطيب ميرغني شكاك . و كان له مسجل قرونيق . و كانت هذه طفرة في ذلك الزمن . كان الخال كعادته الاكثر أناقة و الاكثر انضباطاً . كما كان معتداً بنفسه لا يقبل أي اهانة أو استخفاف من احد . في احد الأيام اصطحب احد المسئولين في النقل الميكانيكي ميرغني و سائق آخر للحضور الى الخرطوم . و كان المسئول قد قال معلقاً على مظهر ميرغني : ( الليشوفك كدا يقول مسئول ) . فرد الخال : ( انا احسن من أي مسئول ) . و قديماً لم يكن السوداني يتقبل أي اهانة . و في الطريق انقلبت السيارة التي كان يقودها المسئول . و اصيب الخال ميرغني بكدمة في رأسه . و أراد المسئول ان يساعد ميرغني فرفض أي مساعدة . و واصلوا الطريق الى الخرطوم . ذهب الخال ميرغني الى الخال الدرديري نقد الذي كان مديراً للنقل الميكانيكي . فقال الدرديري منزعجاً : ( في أي مشكلة يا ميرغني ) . فقال ميرغني ان المسئول لقد اتى بسيارة و تعرضت السيارة لحادث ، إلّا ان عملية استلام السيارةو ادخالها للتصليح لم تتم بالصورة القانونية . و قديماً كانت السيارات لا تطلع إلا بسيرك و تسجل كل قطرة بنزين في أي مشوار . لفترة كان الخال ميرغني السائق للواء التجاني محمد أحمد . و كان اللواء التجاني مشهوراً بالحدة و الصلف . و هو الذي حكم بأعدام البديع محمد أحمد و شنان ، في محاولة انقلاب 1959 . و كان قد صار مديراً للنقل الميكانيكي . و في الطريق صرخ اللواء على ميرغني لأنه لم يكن يمسك الدركسون بيديه الاثنين . فرد عليه ميرغني بشده . فقال اللواء : ( لما نرجع النقل سلم العربية ) . فقال الخال ميرغني : ( اسلمها انت فاكر شنو ، انا عسكري عندك ؟ ) . اللواء كان في طريقه لأمدرمان لعزاء الخال الدرديري نقد في وفاة والدته ام الحسن ابتر ( التومة ) . فهرع الجميع لعزاء ميرغني و بدأ بعض النساء في البكاء . و عرف اللواء بأن المتوفية هي عمة ميرغني . فحاول ان يسترضيه و ان يعيده لخدمته . إلا ان ميرغني رفض بأباء . اذكر ان الخال ميرغني قد حضر من كسلا بعد يوم واحد من وفاة جدتي زينب بن الحرم . و كان يبكي بصوت عال ، و ابكي الرجال و النساء كذلك . و عرفت أن ذلك الرجل القوي يحمل قلباً كبيراً عطوفاً . و كان يتبسط معي لأنه يعرف انني كنت قريباً من جدتي . في الثمانينات كان الاستاذ غازي سليمان عنما يقابلني او يقابل شقيقي الشنقيطي ، يقول له : ( و الله يا شنقيطي خاك حيرنا ، ما عرفنا نعمل معاه شنو ) . و القصة أن الخال ميرغني بعد ان ترك النقل ، عمل كسائق شاحنة مع الشركة الكويتية . و كان الاستاذ غازي سليمان و الذي هو جارنا في العباسية في امدرمان ، محامي الشركة الكويتية . أحد مديري الشركة شاهد بعض الحطب على ظهر الشاحنة الضخمة . و بالسؤال ، عرف من الخال ميرغن انها كمية حطب حريق صغير وجده في الطريق و سيأخذه للمنزل . فأثار المسئول مشكلة ، و زعم ان الخال ميرغني قد نقل ( بضاعة ) او شحنة على ظهر شاحنة الشركة . و لم يكن يعرف مع اي الرجال يتعامل . و تعرض الخال ميرغني لعقوبة . و بعد فترة رجع الخال ميرغني و سلمهم مفتاح الشاحنة . و بالسؤال قال ان الشاحنة انكسرت في الخلاء . و بالسؤال اعطاهم اسم المنطقة . و عندما طلبوا منه أن يأخذهم الى السيارة قال انه قد استقال لأنه لا يحب ظروف العمل . و عندما طلبوا منه ان يوصلهم الى المكان قال انه ليس بدليل . و عندما احتجوا على عدم تواجده مع السيارة ، قال ان هذا ليس من شروط العمل و انه ليس ( حرّاس ) و ليس من المفروض ان يعرض حياته الى الخطر . بعد استشارة محامي الشركة غازي سليمان ، و ضح للشركة ان الخال ميرغني على حق . و أنه ليس من المفروض ان يعرض حياته للخطر . و أنه من المفروض ان يقود الشاحنة من النقطة (أ) الى النقطة (ب) . و تعبت الشركة جداً لايجاد الشاحنة . و عرفت الشركة بأنه لايمكن اهانة او التلاعب بالسودانيين . آخر مرة اقابل الخال ميرغني كانت في الثمانينات . و كان قد حضر من بورتسودان مع احد اصدقائه ، و كانوا قد احضروا سيارة ليلى علوي و كانوا يعرضونها للبيع . و كنت ذاهب انا الى كسلا في صباح اليوم التالي . و كنت مصحوباً بالشيخ عبد الله النهيان بن عم الشيخ عبد الله النهيان وزير الخارجية الاماراتي . و كنا في طريقنا لمقابلة الاخ احمد ترك زعيم الهدندوة . التحية الى كل أهل السودان الذين لا يقبلون الضيم . التحية ع . س . شوقي بدري Shawgi Badri [[email protected]]