Email: [email protected] سنعود باذن الله لقصة ابينا ادم فى غربته وفى محنته فيما بعد . ففيها كثير من الدروس والعبر . وكنت قد تحدثت فى المقالات الثلاثة السابقة عن قصة هبوطه الى الارض ، وعن حادثة مقتل ابنه . وأردت بذلك أن أجعلها مقدمة لهذا البحث السيكولوجى . وهى مقدمة لأنها تنطوى على اشياء حدثت وتحدث لجميع المغتربين ، وان كانت تحدث بطرق أو اخرى الا انها فى النهاية متشابهة ، وتكاد فى احيان اخرى تكون متطابقة . كما سنرى لاحقا . ولا اهدف من هذه المقالات أن أتحدث عن مشاكل الهجرة والمهاجرين . وما يتعلق بها من مشاكل اجتماعية وثقافية ومالية . فذلك موضوع أخر . ربما نعود اليه يوما ما لأهميته القصوى . وانما أهدف بالأساس الحديث عن ذلك الشعور النفسى الحارق الذى يحس به كل من وقع اسيرا فى سجون الغربة . واريد فى هذا المقال أن اتحدث حديثا عاما أوضح فيه الأبواب التى سوف يشتمل عليها البحث . ولعل ذلك يكون ردا على كثير من الأخوة والأخوات الذين كتبوا لى على بريدى الالكترونى ، يستفسرون عن أشياء ، وبعضهم يستعجلنى فى الكتابة عن اشياء اخرى . هذا ولدواعى البحث فسوف اقسم المغتربين الى فئتين : فئة المهاجرين . وفئة المغتربين لدواعى الدراسة أو العمل . الفئة الثانية تكاد تكون موجودة حصرا فى البلاد العربية ، وخصوصا دول الخليج ، ومصر وليبيا . المصاعب والمشاكل والآلام التى تصاحب الفئة الأولى تختلف كثيرا عن الفئة الثانية . ولكنهما معا يشتركان فى ذلك الأحساس المؤلم والذى بدونه لا يستطيع أحد أن يقول عن نفسه انه (غريب) ، ولا يحق له أن ينتمى لتلك الشريحة التى تسمى نفسها شريحة (المغتربين ) . ولكن ينبغى التنبيه هنا الى أن كلمة (غربة) يطلقها بعض الناس على مشاعر اخرى واحاسيس متباينة . بعضهم تبرع من عند نفسه ووضع لها تعريفا ، يعكس ما يحس به هو على وجه الخصوص ، وبعضهم يضيف الى كلمة غربة صفة لازمة او متعدية ، فيقول مثلا ( غربة الروح ) أو غربة الدين ....الخ والمتنبىء كان سباقا لهولاء جميعا حينما قال : ولكن الفتى العربى فيها غريب الوجه واليد واللسان فهو هنا يتحدث عن الغربة الظاهرة ...المتعلقة بالشكل والملبس والسلاح واللغة ، وأغلب الظن أن المتنبىء لم يكن فى ذلك الوقت بالذات يحس بغربة النفس الداخلية ، ذلك الشعور الذى ينغص على معشر المغتربين حياتهم ويجعلهم فى شوق دائم لبلادهم وأهلهم ، والذى وصفه شاعرنا صلاح أحمد ابراهيم بقوله : غريب وحيد فى غربته ...الخ ولو كان المتنبىء يريد أن يتحدث عن ذلك النوع الذى نحن بصدده ، لما غلبه ، وهو العالم النفسى الذى ما انجبت البشرية – فى ظنى – شاعرا مثله ، فى براعة الوصف وجمال الأسلوب ، ودقة التعبير . ولهذا فلقد اهتم العلماء اهتماما واسعا بأمر الأسماء ، والألفاظ والمعانى ، وذلك لأثرها البالغ في حياة الناس . فهي أداة التواصل والاتصال التي يعبر بها اللسان عمّا في الجنان ، لأنّ اللفظ يجسد ما فى العقل . كما قال الأخطل : لا يُعْجِبَنَّكَ مِنْ خطيبٍ خُطْبَةٌ حتْى يكونَ مع الكلامِ أصيلا إنّ الكلامَ لفي الفؤادِ، وإنما جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلا (ما يلزم لمعرفة علم الحديث شيئان : أحدهما معرفة ألفاظه، والثاني معرفة معانيه. ولا شك أن معرفة الفاظه مقدمة في الرتبة، لأنها الأصل في الخطاب ، وبها يحصل التفاهم ، فإذا عرفت ، ترتبت المعاني عليها، فكان الاهتمام ببيانها أولى) . Symptoms In The Mind – Andrew Sims – 1988 - Page 126 وقديما قال الامام على ( المرء خبء لسانه ) . والشاعر زهير قال : لسان المرء نصف ونصف فؤاده فلم تبق الا صورة اللحم والدم . (رسالة التلخيص لوجوه التخليص – ج 3 ص 163) وفى حقيقة الأمر أن الألفاظ تلعب الدور الأساسى فى حياة الأنسان ، وعليها جماع حياته ومماته فاذا ما أصابها الزلل واعتراها الخطل ، تعطل دورها وخفيت دلالتها فبات الانسان فى حيرة من أمره ولا غرابة بعد ذلك أن نرى شخصا كالذى اشرنا اليه اعلاه يجد صعوبة بالغة فى وصف ما يعتريه من شعور ، حتى عزاه الى الغربة ، وهو القابع بين أهله وفى وطنه ، وهو ليس من الغربة فى شىء ، وما درى المسكين أن ما يعتريه ليس شعورا بالغربة – كما قال – وانما هو شعور اخر، ربما يكون عرضا لمرض نفسى ، ينبغى له فيه أن يراجع الطبيب المختص . وصدق الشاعر البحترى فى قوله : باللّفظِ يَقْرُبُ فهْمُهُ في بُعْدِهِ عنّا ويبعُدُ نَيْلُهُ في قُرْبِهِ (ديوان البحترى – ج 2 صفحة 335). لقد كانت كلمة غربة وغريب ، من الكلمات التى اهتم بها علماء اللغة والاسلام اهتماما ليس له نظير وبين ايدينا مؤلفات لغوية كثيرة تدور حول هذه الألفاظ . من هذه المؤلفات كتب "غريب القرآن"، وفي طليعتها كتاب عبد الله بن عباس (ت68ه /687م)، الذي يعتبر أول كتاب فى بناء المعاجم العربية . ثم توالى التأليف في هذا اللون من اللغة، فجاء كتاب : ( غريب القرآن ) لأبي عبيدة . وكتاب (غريب القرآن ) لمؤرج السّدوسي . الغريب في اللغة هو البعيد عن وطنه، وجمعه غرباء . قال الشاعر: