يتميز الشعب السوداني عن سائر الشعوب بالتواضع .... هذه الفضيلة التي تنأى بأفراده عن المباهاة والتفاخر ولعل في المثل السوداني المعروف "العارف عزو مستريح" ما يعزز هذا المفهوم، ولكن يبدو أن هذه الفضيلة آخذة في الزوال شأنها شأن كل ما هو جميل في حياتنا. اختيار "فاتو بنسودا" من غامبيا لتولي منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد يعيد إلى الأذهان ما أُثير في الصحف في مايو 2011 حول ترشيح الدكتور "كامل إدريس" لمنصب المدعي العام للمحكمة الجنائية خلفاً "للويس مورينو أوكامبو" الذي ستنتهي فترته في يونيو 2012 . ذلك القول الذي "لم ينفه" الدكتور كامل إدريس وإن كان قد ذكر أنه قد تم الاتصال به بصفة غير رسمية من قبل عدد من بلدان دول أوروبية وأفريقية وعربية. ولا يعنيني في هذا المجال أن لجنة البحث المكلفة بتوافق الآراء لاختيار مدعي عام المحكمة الجنائية قد أعلنت رسمياً وقتها بأنها لم تؤيد أي مرشح لانتخابات المدعي العام المقبل للمحكمة الدولية، كما لا يعنيني بنفس القدر الأسباب العلمية والموضوعية التي تجعل من عرض هذا المنصب على الدكتور كامل إدريس أمراً غير وارد ، ولكن ما لفت نظري حقيقةًً هو ما جاء على لسان الدكتور في سياق الحوار الذي أجري معه بصحيفة "الرأي العام" بتاريخ 24-5-2011 ، فقد قال عن تحفظه على قبول منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية ما نصه )) ولديَّ تحفظ هو بمنتهى التواضع وبمنتهى الأدب ،أظن أن هذا الموقع ، وأكرر بمنتهى التواضع مرة أخرى ،"أقل" من إمكانياتي الدولية "بكثير" ((. هذا التصريح العجيب ذكرني بتلك الضجة الإعلامية الكبيرة التي تصاحب ذلك الطبيب كلما زار السودان لإجراء بعض العمليات . إن ما يقوم به ذلك الطبيب من عمليات مجانية عمل جميل يؤجر عليه ولكن الشئ "غير الجميل " هو الأسلوب الإعلامي في تصوير بعض العمليات أمام عدسات التلفزيون . أرمي إلى القول أن مثل هذه العمليات يجريها في هدوء ودون ضوضاء أطباء سودانيون يتمتعون بنفس القدر من الكفاءة والمقدرة في بلدان قد استقدمتهم خصيصاً لما يتميزون به من السمعة الطيبة في هذا المجال. إن مهنة الطب هي في المقام الأول عمل إنساني ووطني والإعلان عنه بتلك الصورة يجرده من معناه الحقيقي. ولعلنا نستلهم القدوة من الرعيل الأول من الأطباء السودانيين الذين كانوا يتمتعون بالسمعة الطيبة والمكانة العلمية الرفيعة في داخل السودان وخارجه، مع قدر وافر من التواضع ونكران الذات، وقد أوجز هذه المعاني البروفيسور الراحل داؤود مصطفى ( العميد الأسبق لكلية طب جامعة الخرطوم) في مناسبة حفل تكريم أقامه طلابه له، حين قال " هل أنا إلا واحداً من كثيرين، وهم أجدر مني بالتكريم، وتكريمي هو تكريم للكثيرين غيري ، لم أزد عنهم شيئاً ." ولما كان الشئ بالشئ يذكر فقد خطر ببالي ذلك الشاعر وهو يلهث في كل الاتجاهات مروجاً لبضاعته عبر وسائل الإعلام المرئية منها والمقروءة والمسموعة. وبالرغم من أنني أعتبر نفسي من عشاق اللغة العربية بدروبها المختلفة إلا إن فهمي المتواضع قد عجز عن تلمس مواطن العبقرية في أشعار الأديب الكبير وتنامى إحساسي بالعجز وأنا أشاهد الشاعر الكبير يجلس أمام مذيعة التلفزيون ليعلن للمشاهدين بكل أريحية أن الإعجاب بشعره قد تمدد وقفز فوق أسوار لغة الضاد لينال إعجاب الأوروبيين من غير الناطقين بها من أهل تلك البلاد التي أمضى بها فترة من حياته. حينها ترحمت على روح شاعرنا الخالد إدريس جماع ....الشاعر الشفيف ... إبن مدينة الحلفاية العريقة .... عاش جماع ثمانية وخمسين عاماً أمضى معظمها غائباً عن دنيا البشر سابحاً في عالم من خاصته إلى أن إنتهى به المطاف في مستشفى التيجاني الماحي، وهناك فارقت روحه المعذبة جسده النحيل . لم يزر إدريس جماع مبنى التلفزيون..... ولم تطأ قدماه دار الإذاعة ...... ولم تُجر معه لقاءات صحفية ، ولم تُنشر له دواوين شعر بأغلفة وردية وخطوط عسجدية . مات جماع ولم يترك وراءه سوى أوراق مبعثرة أودعها مكنونات روحه المعذبة .... غادر دنيانا دون أن يدري أنه قد أهدانا إرثاً من عيون الشعر العربي ... تغنى بشعره فنانو الزمن الجميل فأبدعوا أيما إبداع ... غنى له الفنان الراحل سيد خليفة قصيدة "في ربيع الحب" : أنت السماء بدت لنا ... واستعصمت بالبعد عنا فأطربنا وأشجانا شعراً ولحناً. وهو الرائع القائل : ماله أيقظ الشجون فقاست وحشة الليل واستثار الخيالا ماله في مواكب الليل يمشي ويناجي أشباحه وظلاله هيّنٌ تستخفه بسمة الطفل قويٌ يصارع الأجيالا حاسر الرأس عند كل جمال مستشفٌ من كل شيء جمالا خُلقت طينة الأسي فغشتها نار وجدٍ فأصبحت صلصالا ثم صاح القضاء كوني فكانت طينة البؤس شاعراً مثّالا ونحن نتطرق لهذه الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا دعونا نترحم على روح الأديب والروائي العالمي الطيب صالح فقد كان متواضعاً .........تواضعاً جماً لم يزده إلا رفعة.